{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .
وفي هذه الآية العظيمة{[83]} دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .
ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى :
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ؛ وهو بكل شيء عليم ) . .
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء ، يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن " قبل وبعد " اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية ، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة ، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام ! !
فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني ، وعلى دوره العظيم في الأرض ، وعلى قيمته في ميزان الله ، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي . .
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) . .
إن كلمة( لكم )هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض ، مالكا لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون ، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان ، مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا ، واستعلاء الإنسان أولا ، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا ، ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا ، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .
( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) . .
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون ، الذي سخر لهم الأرض بما فيها ، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .
بما أنه الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد ، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد ، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان ، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره:"هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا".
وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره، عائد على اسمه في قوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ". ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و«ما» بمعنى «الذي».
فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم بشرا أحياء، ثم يميتكم، ثم هو محييكم بعد ذلك، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
عن قتادة قوله: "هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا": نعم والله سخر لكم ما في الأرض...
اختلف في تأويل قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ..."؛
فقال بعضهم: معنى "استوى إلى السماء": أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني، واستوى إليّ يشاتمني، بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.
وقال بعضهم: قوله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ "يعني به: استوت.
وقال بعضهم: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ": عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.
وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفاع؛ عن الربيع بن أنس: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" يقول: ارتفع إلى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها.
وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء...
الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها انتهاء شباب الرجل وقوّته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.
ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود.
ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.
ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
ومنها العلوّ والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوّه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ": علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات... والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ" الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: "اسْتَوَى": أقْبَلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات، كما قال جل ثناؤه: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها" والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسوّيها سبع سموات...
والتسوية في كلام العرب: التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهن بعد إرتاقهن...
عن الربيع بن أنس: "فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ" يقول: سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم.
وقال جل ذكره: "فَسَوّاهُنّ" فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع. وقد قال قبل: "ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع لأن السماء جمع واحدها سماوة... فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغا في دنياكم، ومتاعا إلى موافاة آجالكم، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوّاهن وحبكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه...
"وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ". يعني بقوله جلّ جلاله: "وهو": نفسه، وبقوله: "بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا، وسّوى السموات السبع بما فيهن، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: "آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ" وهم على التكذيب به منطوون. وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق، وهم به عالمون، بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم، وأمور غيركم، إني بكل شيء عليم.
وقوله: "عَلِيمٌ" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل في علمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية: جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية...
والاستواء: الاعتدال والاستقامة.
ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {خلق} معناه اخترع وأوجد بعد العدم.
و {لكم}: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها (87).
وقال قوم: بل معنى {لكم} إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية (88)، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الصحيح في معنى قوله تعالى:"خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
فإن قيل: إن معنى "لكم "الانتفاع، أي: لتنفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا.
فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات. قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار...
قال أرباب المعاني في قوله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
[و] روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت).
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله؛ لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه" [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه؛ ليكون له عبد ا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] وقال: "فإن ربي غني كريم" [النمل: 40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك).
وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، وقد قال: "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته... وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" [النساء: 166]، وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" [هود: 14]، وقال: "فلنقصن عليهم بعلم" [الأعراف: 7]، وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" [فاطر: 11]، وقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59] الآية.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَسَوَّاهُنَّ} أي أتمهنّ وقوَّمهن وخلقهنّ ابتداءً مصونةً عن العِوَج والفُطورِ...
وتأخيرُ ذكرِ هذا الصُنع البديعِ عن ذكر خلقِ ما في الأرض مع كونه أقوى منه في الدلالة على كمال القدرةِ القاهرةِ كما نُبه عليه لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ، وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلك أظهر، وإن كان في إبداع العلوياتِ أيضاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ ما لا يُحصى. هذا ما قالوا، وسيأتي في حم السجدة مزيدُ تحقيقٍ وتفصيلٍ بإذن الله تعالى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه، فليس في قوله {كيف تكفرون} الخ انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسرين، غفلة عن هذا الاتصال المتين، ولعمري إن وجوه الاتصال بين الآيات، وما فيها من دقائق المناسبات، لهي ضرب من ضروب البلاغة، وفن من فنون الإعجاز، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه، فلا يمكنهم البلوغ إليه، والكلام في البعث في القرآن كثيرا جدا فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا.
يصور لنا قوله تعالى {خلق لكم} قدرته الكاملة، ونعمه الشاملة، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا، ومعدا لمنافعنا؟ وللانتفاع بالأرض طريقان (أحدهما) الانتفاع بأعينها في الحياة الجسدية (وثانيهما) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية، والأرض هي ما في الجهة السفلى، أي ما تحت أرجلنا، كما أن المراد بالسماء كل ما في الجهة العليا أي فوق رؤوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، ومالا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته. والتعبير بقي يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن "قبل وبعد "اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!!... فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي..
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)..
إن كلمة (لكم) هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفا في الأرض، مالكا لما فيها، فاعلا مؤثرا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولا، واستعلاء الإنسان أولا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا -وهو يستنكر كفرهم به- ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا، ولكنها -إلى ذلك- سيادتهم على ما في الأرض جميعا، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا. هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات)..
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها. اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء. وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير. حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل.
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة.. وكلها تركيز على الإيمان، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين..