46- أيقولون ما يقولون ويستعجلون العذاب ولم يسيروا في الأرض ليشاهدوا بأعينهم مصرع هؤلاء الظالمين المكذبين ؟ فربما تستيقظ قلوبهم من غفلتها ، وتعقل ما يجب عليهم نحو دعوة الحق التي تدعوهم إليها ، وتسمع آذانهم أخبار مصارع هؤلاء الكفار فيعتبرون بها ، ولكن من البعيد أن يعتبروا بما شاهدوا أو سمعوا ما دامت قلوبهم متحجرة ، إذ ليس العمى الحقيقي عمى الأبصار ، ولكنه في القلوب والبصائر .
ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض ، لينظروا ، ويعتبروا فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } بأبدانهم وقلوبهم { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } آيات الله ويتأملون بها مواقع عبره ، { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أخبار الأمم الماضين ، وأنباء القرون المعذبين ، وإلا فمجرد نظر العين ، وسماع الأذن ، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار ، غير مفيد ، ولا موصل إلى المطلوب ، ولهذا قال : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أي : هذا العمى الضار في الدين ، عمى القلب عن الحق ، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات ، وأما عمى البصر ، فغايته بلغة ، ومنفعة دنيوية .
يعرض السياق هذه المشاهد ثم يسأل في استنكار عن آثارها في نفوس المشركين الكفار :
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ? او آذان يسمعون بها ? فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !
إن مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية ، تتحدث بالعبر ، وتنطق بالعظات . . ( أفلم يسيروا في الأرض )فيروها فتوحى لهم بالعبرة ? وتنطق لهم بلسانها البليغ ? وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر ? ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها )فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل . ( أو آذان يسمعون بها )فتسمع أحاديث الأحياء عن تلك الدور المهدمة والآبار المعطلة والقصور الموحشة ? .
أفلم تكن لهم قلوب ? فإنهم يرون ولا يدركون ، ويسمعون ولا يعتبرون ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) !
ويمعن في تحديد مواضع القلوب : ( التي في الصدور )زيادة في التوكيد ، وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد !
ولو كانت هذه القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى ، وجاشت بالعبرة ، وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة الماثلة في مصارع الغابرين ، وهي حولهم كثير .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلََكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد ، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبي رسل الله الذين خلوْا من قبلهم ، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ، وأوطانهم ومساكنهم ، فيتفكرّوا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها سنةَ الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله ، فينيبوا من عتوّهم وكفرهم ، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها حجج الله على خلقه وقدرته على ما بيّنا ، أو آذانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا يقول : أو آذان تصغي لسماع الحقّ فتعي ذلك وتميز بينه وبين الباطل . وقوله : فإنّها لا تَعْمَى الأبْصارُ يقول : فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها ، بل يبصرون ذلك بأبصارهم ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن أنصار الحقّ ومعرفته . والهاء في قوله : فإنّها لا تَعْمَى هاء عماد ، كقول القائل : إنه عبد الله قائم . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «فإنّه لا تَعْمَى الأبْصَارُ » . وقيل : وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصّدُورِ والقلوب لا تكون إلا في الصدور ، توكيدا للكلام ، كما قيل : يَقُولُون بأفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .
{ أفلم يسيروا في الأرض } حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهو وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك . { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال . { أو آذان يسمعون بها } ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم . { فإنها } الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار . وفي { تعمى } راجع إليه والظاهر أقيم مقامه . { لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر { الصدور } للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر . قيل لما نزل { ومن كان في هذه أعمى } قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت { فإنها لا تعمى الأبصار } .
ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله ، { أفلم يسيروا في الأرض } أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة ، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ، { فتكون } ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب ، وقوله { فإنها لا تعمى الأبصار } ، لفظ مبالغة كأنه قال : ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب ، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه ، وهذا كقوله عليه السلام ، «ليس الشديد بالصرعة{[8402]} وليس المسكين بهذا الطواف »{[8403]} والضمير في { فإنها } للقصة ونحوها من التقدير وقوله { التي في الصدور } ، مبالغة كقوله { يقولون بأفواههم }{[8404]} [ آل عمران : 167 ] كما تقول : نظرت إليه بعيني ونحو هذا .