الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

قوله : { فَتَكُونَ } : هو منصوبٌ على جوابِ الاستفهامِ . وعبارةُ الحوفي " على جوابِ التقريرِ " . وقيل : على جوابِ النفيِِ ، وقرأ مبشِّر بنُ عبيد " فيكونَ " بالياءِ من تحتُ ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . ومتعلَّقُ الفعلِ محذوفٌ أي : ما حَلَّ بالأممِ السالفةِ .

قوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى } الضميرُ للقصةِ . و { لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ } مُفَسِّرَةٌ له . وحَسَّنَ التأنيثَ في الضمير كونُه وَليَه فِعْلٌ بعلامةِ تأنيثٍ ، ولو ذُكِّر في الكلامِ فقيل : " فإنه " لجازَ ، وهي قراءةٌ مَرْوِيَّةٌ عن عبد الله ، والتذكيرُ باعتبارِ الأمرِ والشأنِ . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكون ضميراً مُبْهماً يُفَسِّره " الأبصارُ " وفي " تَعْمَى " راجعٌ إليه " . قال الشيخ : " وما ذكره لا يجوزُ لأن الذي يُفَسِّره ما بعدَه محصورٌ ، وليس هذا واحداً منه : وهو من باب " رُبَّ " ، وفي باب نِعْم وبئس ، وفي باب الإِعمال ، وفي باب البدل ، وفي باب المبتدأ والخبر ، على خلافٍ في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسةُ الأُوَلُ تُفَسَّر بمفرد إلاَّ ضميرَ الشأنِ ، فإنه يُفَسَّر بجملةٍ ، وهذا ليس واحداً من الستة " .

قلت : بل هذا من المواضع المذكورةِ ، وهو باب المبتدأ . غايةُ ما في ذلك أنه دَخَلَ عليه ناسخٌ وهو " إنَّ " فهو نظيرُ قولِهم : " هي العروبُ تقول ما شاءَتْ ، وهي النفسُ تتحمَّل ما حَمَلْتْ " وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } [ الأنعام : 29 ] . وقد جعل الزمخشريُّ جميعَ ذلك مِمَّا يُفَسَّر بما بعده ، ولا فرقَ بين الآيةِ الكريمةِ وبين هذه الأمثلةِ إلاَّ دخولُ الناسخِ ولا أثرَ له ، وعَجِبْتُ من غَفْلَةِ الشيخ عن ذلك .

قوله : { الَّتِي فِي الصُّدُورِ } صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ . وهل هو توكيدٌ ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور ، أو لها معنى زائدٌ ؟ كما قال الزمخشري : " الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العَمى في الحقيقة مكانُه البصرُ ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها ، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ . فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العَمَى إلى القلوبِ حقيقةً ، ونفيُه عن الأبصارِ ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ ، كما تقولُ : ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ . فقولُك : " الذي بين فَكَّيْكَ " تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير ، وكأنَّك قلتَ : ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً ، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً .

وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه : " تَعَمَّدْتُ به إياه " وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ ، وليس من مواضعِ فَصْلِه ، وكان صوابُه أن يقول : تعمَّدْتُه به كما تقول : " السيفُ ضربتُك به " لا " ضربْتُ به إياك " .

قلت : وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ }

[ الممتحنة : 1 ] ، { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] : وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه ، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه ، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده ؟

وقال الإِمامُ فخر الدين : " وفيه عندي وجهٌ آخرُ : وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ ، كقولِه تعالى :

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] . وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ " . وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال : " هو مبالغةٌ كما تقول : نظرتُ إليه بعيني ، وكقوله : يقولون بأَفْواههم " . قلت : وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله " بأفواههم " زيادةً على التأكيد .