المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

195- فأجاب ربهم دعاءهم ، مبيناً لهم أنه لا يضيع على عامل منهم ثواب عمله ، سواء كان ذكراً أم أنثى ، فالأنثى من الذكر ، والذكر من الأنثى . الذين هاجروا يريدون وجه الله وأخرجوا من ديارهم ونالهم الأذى في سبيل الله وقاتلوا وتعرضوا للقتل ، وقتل منهم من قتل ، كتب الله على نفسه أنه سيمحو عنهم سيئاتهم ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار جزاءً كريماً عالياً من عند الله ، والله - وحده - عنده الثواب الحسن الجميل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }

أي : أجاب الله دعاءهم ، دعاء العبادة ، ودعاء الطلب ، وقال : إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا ، { بعضكم من بعض } أي : كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب ، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة ، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال ، طلبا لمرضاة ربهم ، وجاهدوا في سبيل الله .

{ لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل .

{ والله عنده حسن الثواب } مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فمن أراد ذلك ، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه ، بما يقدر عليه العبد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

180

ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك :

( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار ) . .

وهي استجابة مفصلة ، وتعبير مطول ، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ؛ وفق مقتضى الحال ، ومتطلبات الموقف ، من الجانب النفسي والشعوري .

ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية ، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته ، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .

إن أولي الألباب هؤلاء ، تفكروا في خلق السماوات والأرض ، وتدبروا اختلاف الليل والنهار ، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح ، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه ، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم ، على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ؟

لقد كانت قبولا للدعاء ، وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن :

( استجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) . .

إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو " العمل " . العمل الإيجابي ، الذي ينشأ عن هذا التلقي ، وعن هذه الاستجابة ، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر ، والذكر والاستغفار ، والخوف من الله ، والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة ، والذي يقبل من الجميع : ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .

ثم تفصيل للعمل ، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ؛ كما تتبين منه طبيعة المنهج ، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها ، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك ، وضرورة مغالبة العوائق ، وتكسيرالأشواك ، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة ، والتمكين لها في الأرض ، أيا كانت التضحيات ، وأيا كانت العقبات :

( فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله ، والله عنده حسن الثواب ) .

وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة ، وأخرجوا من ديارهم ، في سبيل العقيدة ، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه ، وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور ، وتتأذى بها الأطماع والشهوات ، وتتعرض للأذى والمطاردة ، وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى ، وعلى الرغم من المطاردة ، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال ، ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات ، ويكون الجزاء ويكون الثواب .

هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني ، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري ، وعن طريق هذا الجهد ، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .

وهذه هي طبيعة هذا المنهج ، ومقوماته ، وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية ، وطريقته في التوجيه ، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ؛ إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ } .

يعني تعالى ذكره : فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم ، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرا ذكرا كان العامل أو أنثى ، وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الاَية .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر ؟ فنزلت : { أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى } . . . الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت رجلاً من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : قالت أم سلمة : يا رسول الله لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء ! فأنزل الله تبارك وتعالى : { فاسْتَجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى } .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن رجل من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ! فأنزل الله تعالى : { فاسْتَجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } .

وقيل : فاستجاب لهم ، بمعنى : فأجابهم ، كما قال الشاعر :

وَدَاعٍ دَعا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النّدَى *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

بمعنى : فلم يجبه عند ذاك مجيب .

وأدخلت «من » في قوله : { مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى } على الترجمة والتفسير عن قوله «منكم » ، بمعنى : لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث وليست «من » هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد ، لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به . وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع ، كما تدخل في قولهم : «قد كان من حديث » قال : «ومن » ههنا أحسن ، لأن النهي قد دخل في قوله : لا أضيع . وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال : لا تدخل «من » وتخرج إلا في موضع الجحد¹ وقال : قوله : { لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ } لم يدركه الجحد ، لأنك لا تقول : لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت فيدخل ، ولا لأنه لم ينله الجحد ، ولكن «مِنْ » مفسرة .

وأما قوله : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فإنه يعني : بعضكم أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، مِنْ بعض ، في النصرة والمسألة والدين ، وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكر منكم ولا أنثى .

القول في تأويل قوله تعالى : { فالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا ولأُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ ثَوَابا مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثّوَابِ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله ، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله ، والتصديق برسوله ، وأخرجوا من ديارهم ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة ، وأوذوا في سبيلي ، يعني : وأوذوا في طاعتهم ربهم ، وعبادتهم إياه ، مخلصين له الدين ، وذلك هو سبيل الله التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها¹ وقتلوا ، يعني : وقتلوا في سبيل الله وقاتلوا فيها ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ، يعني : لأمحونها عنهم ، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي ، ولأغفرنها لهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ثوابها ، يعني : جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله¹ من عند الله : يعني : من قِبَل الله لهم¹ والله عنده حسن الثواب ، يعني : أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه ، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف ، لأنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . كما :

حدثنا عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني عمرو بن الحارث : أن أبا عشانة المعافري ، حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : «إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين ، الذين تتقى بهم المكاره ، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة ، فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ، ادخلوا الجنة ، فيدخلونها بغير عذاب ، ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ، ونقدّس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ، فيقول الرب جل ثناؤه : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، فتدخل الملائكة عليهم من كل باب : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ } » .

واختلفت القراء في قراءة قوله : { وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا } فقرأه بعضهم : «وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا » بالتخفيف ، بمعنى أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين وقرأ ذلك آخرون : «وَقاتَلُوا وَقُتّلُوا » بتشديد قتّلوا ، بمعنى : أنهم قاتلوا المشركين ، وقتلهم المشركون بعضا بعد بعض وقتلاً بعد قتل . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين : «وَقاتَلُوا وَقَتَلُوا » بالتخفيف ، بمعنى أنهم قاتلوا المشركين وقتلوا . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : { وَقُتِلُوا } بالتخفيف { وَقاتَلُوا } بمعنى : أن بعضهم قُتل ، وقاتل من بقي منهم .

والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها إحدى هاتين القراءتين ، وهي : «وَقاتَلُوا وقَتَلُوا » بالتخفيف ، أو { وقُتِلُوا } بالتخفيف { وَقاتَلُوا } لأنها القراءة المنقولة نقل وراثة ، وما عداهما فشاذ . وبأي هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوهما قرأ قارىء فمصيب في ذلك الصواب من القراءة ، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قراء الإسلام مع اتفاق معنييهما .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ فاستجاب لهم ربهم } إلى طلبتهم ، وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام . { أني لا أضيع عمل عامل منكم } أي بأني لا أضيع . وقرئ بالكسر على إرادة القول . { من ذكر أو أنثى } بيان عامل . { بعضكم من بعض } لأن الذكر ، من الأنثى والأنثى من الذكر ، أو لأنهما من أصل واحد ، أو لفرط الاتصال والاتحاد ، أو للاجتماع والاتفاق في الدين . وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال . روي ( أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء ) فنزلت { فالذين هاجروا } إلخ ، تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم ، والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين . { وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } بسبب إيمانهم بالله ومن أجله { وقاتلوا } الكفار . { وقتلوا } في الجهاد . وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيبا والثاني أفضل . أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا . وشدد ابن كثير وابن عامر { قتلوا } للتكثير . { لأكفرن عنهم سيئاتهم } لأمحونها . { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلا منه ، فهو مصدر مؤكد . { والله عنده حسن الثواب } على الطاعات قادر عليه .