{ 38 - 40 } { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه . وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة .
وحد اليد عند الإطلاق من الكوع ، فإذا سرق قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم ، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه :
منها : الحرز ، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة . فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه .
ومنها : أنه لابد أن يكون المسروق نصابا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما ، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه .
ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها ، فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه ، وذلك أن يكون المال محرزا ، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية .
ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه ، فلما كان لابد من التقدير ، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب .
والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية ، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت . وقوله : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس .
{ نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا .
وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة :
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا - نكالا من الله - والله عزيز حكيم . فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، إن الله غفور رحيم . ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .
إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام - على اختلاف عقائدهم - ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية . وضمانات التربية والتقويم . وضمانات العدالة في التوزيع . وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه . . ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة ، والاعتداء على الملكية الفردية ، والاعتداء على أمن الجماعة . . ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت . .
ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال . .
إن النظام الإسلامي كل متكامل ، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته . كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ؛ ويعمل به جملة . أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام ، أو مبدأ من مبادئه ، في ظل نظام ليس كله إسلاميا ، فلا جدوى له ؛ ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام . لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق . الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة . .
هذا بصفة عامة . أما بالنسبة لموضوع السرقة ، فالأمر لا يختلف . .
إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ، في الحياة . وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة . . من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه ، ويجد فيه السكن والراحة . . من حق كل فرد على الجماعة - وعلى الدولة النائبة عن الجماعة - أن يحصل على هذه الضروريات . . أولا عن طريق العمل - ما دام قادرا على العمل - وعلى الجماعة - والدولة النائبة عن الجماعة - أن تعلمه كيف يعمل ، وأن تيسر له العمل ، وأداة العمل . . فإذا تعطل لعدم وجود العمل ، أو أداته ، أو لعدم قدرته على العمل ، جزئيا أو كليا ، وقتيا أو دائما . أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته . فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه : أولا : من النفقة التي تفرض له شرعاعلى القادرين في أسرته . وثانيا على القادرين من أهل محلته . وثالثا : من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة . فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام ، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ؛ بحيث لا تتجاوز هذه الحدود ، ولا تتوسع في غير ضرورة . ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال . .
والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال . . ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين . وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية ؛ ولا يدعهم محرومين . والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها . . فإذا لم يوجد العمل ، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم ، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة . .
وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام ؟ إنه لا يسرق لسد حاجة . إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل . والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام . ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها . ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال .
وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع ، كسب ماله من حلال ، لا من ربا ، ولا من غش ، ولا من احتكار ، ولا من أكل أجور العمال ، ثم أخرج زكاته ، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة . . من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص ، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات .
فإذا سرق السارق بعد ذلك كله . . إذا سرق وهو مكفي الحاجة ، متبين حرمة الجريمة ، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين ، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام . . إذا سرق في مثل هذه الأحوال . فإنه لا يسرق وله عذر . ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة .
فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها ، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات . لذلك لم يقطع عمر - رضي الله عنه - في عام الرمادة ، حينما عمت المجاعة . ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ؛ عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة . فقد أمر بقطعهم ؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم ، درا عنهم الحد ؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له . .
وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام ، في ظل نظامه المتكامل ؛ الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة . . والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة . والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء . .
وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة . .
السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز ، خفية . . فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما . . والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار . . أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر . . ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه ، ويخرج به عنه . . فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه . والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرزا منه . ولا على المستعير إذا جحد العارية . ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين . ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته . . وهكذا . . ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير . . فلا قطعحين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير . والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك . . والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع ، وإنما هي التعزيز . . [ والتعزيز عقوبة دون الحد ، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة ] .
والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ . فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع . . ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة .
والشبهه تدرأ الحد . . فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد . وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد . ورجوع المعترف في اعترافه - إذا لم يكن هناك شهود - شبهة تدرأ الحد . ونكول الشهود شبهة . . وهكذا . .
ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة . فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل - حتى بعد إحرازه - كسرقة الماء بعد إحرازه ، وسرقة الصيد بعد صيده ، لأن كليهما مباح الأصل . وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه . والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز . . بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة . ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد ، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه . ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة .
ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال ، فتطلب في كتب الفقة ؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات . . ورسول الله [ ص ] يقول : " ادرأوا الحدود بالشبهات " وعمر ابن الخطاب يقول : " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات " . .
ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة ؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة . .
وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره . فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام . وهو لا يكتفي بثمرة عمله ، فيطمع في ثمرة عمل غيره . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . أو ليأمن على مستقبله . فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء . . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع . لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء . وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل .
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود للجريمة مرة ثانية .
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية . وإنه لعمري خير أساس قامت عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن . . .
" وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة . وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم . والسرقة على الخصوص . والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة . لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس ، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب . وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته ، من طريق الحلال والحرام على السواء ! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف ، فيأمنوا جانبه ، ويتعاونوا معه .
فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد ؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً ، ولم تفته منفعة ذات بال .
" أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل ، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً ؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال ، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم - لا السارق وحده - أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة .
" وأعجب بعد ذلك ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر . كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته ، وأن نشجعه على السير في غوايته ، وأن نعيش في خوف واضطراب ، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص !
" ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية ، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق ؛ وأن ننسى طبائع البشر ، ونتجاهل تجارب الأمم ؛ وأن نلغي عقولنا ، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا ، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلاً إلا التهويل والتضليل !
" وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية ، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء ، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء . لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس . وطبائع البشر وتجارب الأمم ، ومنطق العقول والأشياء . وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية . أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء .
" إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته . فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد ، وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة ، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم ، وتأمين المجتمع . و ما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة ، فهي أفضل العقوبات وأعدلها " .
" ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع ، لأنهم يرونها - كما يقولون - عقوبة موسومة بالقسوة . وتلك حجتهم الأولى والأخيرة . وهي حجة داحضة . فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف ، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا .
فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم "
والله - سبحانه - وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة :
( فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله . . )
فهي تنكيل من الله رادع . والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها ، لأنه يكفه عنها ، ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة . . ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس ، إلا وفي قلبه عمى ، وفي روحه أنطماس ! والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ؛ لأن المجتمع بنظامه ، والعقوبة بشدتها ، والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد .
{ وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . .
يقول جلّ ثناؤه : ومن سرق من رجل أو امرأة ، فاقطعوا أيها الناس يده . ولذلك رفع السارق والسارقة ، لأنهما غير معينين ، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب . وقد رُوي عن عبد لله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «والسارقو ن والسارقات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : في قراءتنا قال : وربما قال في قراءة عبد الله : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم : في قراءتنا : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه ، وصحة الرفع فيه ، وأن السارق والسارقة مرفوعان بفعلهما على ما وصفت للعلل التي وصفت . وقال تعالى ذكره : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما والمعنى أيديهما اليمنى كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما : اليمنى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : في قراءة عبد الله : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما » .
ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله ، فقال بعضهم : عني بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا وذلك قول جماعة من أهل المدينة ، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق القليل والكثير . واحتجوا في ذلك بأن الاَية على الظاهر ، وأنه ليس لأحد أن يخصّ منها شيئا إلاّ بحجة يجب التسليم لها . وقالوا : لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بأن ذلك في خاصّ من السّرّاق . قالوا : والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة ، ولم يرو عنه أحد أنه أُتِي بسارق درهم فخلّى عنه ، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم . قالوا : وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانق أن يقطع . قالوا : وقد قطع ابن الزبير في درهم . ورُوي عن ابن عباس أنه قال : الاَية على العموم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة الحنفي ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ أخاصّ أم عامّ ؟ فقال : بل عامّ .
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : الاَية معنيّ بها خاصّ من السراق ، وهو سراق ربع دينار فصاعدا أو قيمته ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القَطْعُ في رُبعِ دِينَارٍ فصَاعِدا » . وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم ، والتلميح عن أوْلاها بالصواب بشواهده في كتابنا كتاب السرقة ، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع . وقوله : جَزَاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ يقول : مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله . نَكَالاً مِنَ الله يقول : عقوبة من الله على لصوصيتهما . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيدِيَهُما جَزَاءً بِمَا كَسَبا نِكالاٍ مِنَ اللّهِ وَالله عَزَيزٌ حَكيمٌ : لا تَرْثُوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود ، فإنه والله ما أمر الله بأمر قطّ إلاّ وهو صلاح ، ولا نهى عن أمر قطّ إلاّ وهو فساد .
وكان عمر بن الخطاب يقول : اشتدّوا على السّراق فاقطعوهم يدا يدا ورِجلاً رجلاً . وقوله : وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكيمٌ يقول جلّ ثناؤه : والله عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه ، حكيم في حكمه فيهم وقضائه عليهم . يقول : فلا تفرطوا إيها المؤمنون في إقامة حكمي على السارق وغيرهم من أهل الجرئم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبة لهم ، فإني بحكمي قضيت ذلك عليهم ، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم .