{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } أي : رأى منهم عدم الانقياد له ، وقالوا هذا سحر مبين ، وهموا بقتله وسعوا في ذلك { قال من أنصاري إلى الله } من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله { قال الحواريون } وهم الأنصار { نحن أنصار الله } أي : انتدبوا معه وقاموا بذلك .
وقالوا : { آمنا بالله } { واشهد بأنا مسلمون } أي : الشهادة النافعة ، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك .
{ فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } فلما وجد عيسى منهم الكفر . والإحساس : هو الوجود ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ } . فأما الحسّ بغير ألف ، فهو الإفناء والقتل ، ومنه قوله : { إذْ تَحُسّونَهُمْ بِإذْنِهِ } والحسّ أيضا : العطف والرقة . ومنه قول الكميت :
هَلْ مَنْ بَكَى الدّارَ رَاجٍ أنْ تَحِسّ لَهُ *** أوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الخَضِلُ
يعني بقوله : أن تحسّ له : أن ترق له .
فتأويل الكلام : فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودا لنبوّته ، وتكذيبا لقوله ، وصدّا عما دعاهم إليه من أمر الله ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يعني بذلك : قال عيسى : من أعواني على المكذّبين بحجة الله ، والمولين عن دينه ، والجاحدين نبوّة نبيه إلى الله عزّ وجلّ ، ويعني بقوله { إلى اللّه } : مع الله ، وإنما حسن أن يقال إلى الله ، بمعنى : مع الله ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره ، ثم أرادوا الخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الآخر إذا ضمّ إليه جعلوا مكان مع إلى أحيانا ، وأحيانا تخبر عنهما بمع ، فتقول الذود إلى الذود إبل ، بمعنى : إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلاً ، فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بإلى ولم يجعلوا مكان مع إلى غير جائز أن يقال : قدم فلان وإليه مال ، بمعنى : ومعه مال .
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين ، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما بعث الله عيسى ، فأمره بالدعوة ، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض ، فنزل في قرية على رجل ، فضافهم وأحسن إليهم ، وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد ، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه همّ وحزن ، فدخل منزله ومريم عند امرأته ، فقالت مريم لها : ما شأن زوجك أراه حزينا ؟ قالت : لا تسألي ، قالت : أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته ، قالت : فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده ، ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه ، وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له : لا يهتمّ ، فإني آمر ابني فيدعو له ، فيكفى ذلك ، قالت مريم لعيسى في ذلك ، قال عيسى : يا أمه إني إن فعلت كان في ذلك شرّ ، قالت : فلا تبال ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، قال عيسى : فقولي له : إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، قال : فلما ملأهنّ أعلمه ، فدعا الله ، فتحوّل ما في القدور لحما ومرقا وخبزا ، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط وإياه طعاما¹ فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر سأل من أين هذه الخمر ؟ قال له : هي من أرض كذا وكذا ، قال الملك : فإن خمري أوتي بها من تلك الأرض فليس هي مثل هذه ، قال : هي من أرض أخرى¹ فلما خلط على الملك اشتدّ عليه ، قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا الله ، فجعل الماء خمرا ، قال الملك ، وكان له ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحبّ الخلق إليه ، فقال : إن رجلاً دعا الله حتى جعل الماء خمرا ، ليستجابنّ له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه ، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه ، فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شرّا ، فقال الملك : لا أبالي ، أليس أراه ، فلا أبالي ما كان ، فقال عيسى عليه السلام : فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا ، قال الملك : نعم ، فدعا الله ، فعاش الغلام¹ فلما رآه أهل مملكته قد عاش ، تنادوا بالسلاح ، وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ، فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمه ، وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف ، فقال له عيسى : شاركني ، فقال اليهودي : نعم ، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم¹ فلما نام جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء ، فيطرحها ، حتى فرغ من الرغيف كله¹ فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ، فجاء برغيف ، فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد ، فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا ، فمرّوا براعي غنم ، فنادى عيسى ، يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك ، قال : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها ، فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة ، فذبحوها وشووها ، ثم قال لليهودي : كل ولا تكسرنّ عظما ! فأكلا ، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ، فقامت الشاة تثغو ، فقال : يا صاحب الغنم خذ شاتك ، فقال له الراعي : من أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، قال : أنت الساحر ، وفرّ منه . قال عيسى لليهودي : بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفا ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد ، فمرّوا بصاحب بقر ، فنادى عيسى ، فقال : يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً ! قال : ابعث صاحبك يأخذه ، قال : انطلق يا يهودي فجىء به ، فانطلق فجاء به ، فذبحه وشواه ، وصاحب البقر ينظر ، فقال له عيسى : كل ولا تكسرنّ عظما . فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ، ثم ضربه بعصاه ، وقال : قم بإذن الله ! فقام وله خوار ، قال : خذ عجلك ، قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ، قال : أنت السحّار ، ثم فرّ منه . قال اليهودي : يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه ، قال عيسى : فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها ، والعجل بعد ما أكلناه ، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد¹ فانطلقا حتى نزلا قرية ، فنزل اليهودي أعلاها ، وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى ، وقال : أنا الآن أحيي الموتى ، وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض ، فانطلق اليهودي ينادي : من يبتغي طبيبا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية ، فأخبر بوجعه ، فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه ، فقيل له : إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك ، ليس من طبيب يداويه ، ولا يُفيءُ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب ، قال : أدخلوني عليه فإني سأبرئه ، فأدخل عليه ، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ، ويقول : قم بإذن الله ، فأخذ ليصلب ، فبلغ عيسى ، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة ، فقال : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا : نعم ، فأحيا الله الملك لعيسى ، فقام وأنزل اليهودي ، فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس عليّ منة ، والله لا أفارقك أبدا ، قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال أسباط ، عن السدي لليهودي : أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما ، وأحيا هذا بعد ما مات ، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب كم كان معك رغيفا ، قال : فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد ، قال : لا بأس ، فانطلقا حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدوابّ ، فقال اليهودي يا عيسى : لمن هذا المال ، قال عيسى : دعه ، فإن له أهلاً يهلكون عليه ، فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال ، ويكره أن يعصي عيسى ، فانطلق مع عيسى ومرّ بالمال أربعة نفر¹ فلما رأوه ، اجتمعوا عليه ، فقال اثنان لصاحبيهما : انطلقا فابتاعا لنا طعاما وشرابا ودوابّ نحمل عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعاما وشرابا ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما ، فإذا أكلا ماتا ، فكان المال بيني وبينك ، فقال الاَخر نعم ، ففعلا ، وقال الآخران : إذا ما أتيانا بالطعام ، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدوابّ بيني وبينك ، فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما ، ثم قعدا على الطعام ، فأكلا منه فماتا ، وأُعلم ذلك عيسى ، فقال لليهودي : أخرجه حتى نقتسمه ، فأخرجه فقسمه عيسى بين ثلاثة ، فقال اليهودي : يا عيسى اتق الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت ، ما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف ، قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم ، قال أنا هو ، قال : عيسى : خذ حظي وحظك وحظّ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة¹ فلما حمله مشى به شيئا ، فخسف به ، وانطلق عيسى ابن مريم ، فمرّ بالحواريين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك ، فقال : أفلا تمشون حتى تصطاد الناس ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، فآمنوا به ، وانطلقوا معه ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا باللّهِ وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ } .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي من عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } . . . الاَية ، قال : استنصر فنصره الحواريون وظهر عليهم .
وقال آخرون : كان سبب استنصار عيسى من استنصر ، لأن من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ } .
والأنصار : جمع نصير ، كما الأشراف جمع شريف ، والأشهاد جمع شهيد . وأما الحواريون ، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا حواريين ، فقال بعضهم : سموا بذلك لبياض ثيابهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : مما روى أبي ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : إنما سموا الحواريين ببياض ثيابهم .
وقال آخرون : سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبي أرطاة ، قال : الحواريون : الغسالون ، الذين يحوّرون الثياب يغسلونها .
وقال آخرون : هم خاصة الأنبياء وصفوتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، أن قتادة ذكر رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : كان من الحواريين ، فقيل له : من الحواريون ؟ قال : الذين تصلح لهم الخلافة .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : { إِذْ قَالَ الحَوَارِيّونَ } قال : أصفياء الأنبياء .
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى الحواريين قول من قال : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسالين ، وذلك أن الحور عند العرب : شدة البياض ، ولذلك سمي الحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بياضه ، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين أحور ، وللمرأة حوراء ، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا من تبييضهم الثياب ، وأنهم كانوا قصارين ، فعرفوا بصحبة عيسى واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا ، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل ، حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ ، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ » يعني خاصته . وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرى والأمصار حواريات ، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن ، ومن ذلك قول أبي جَلْدَةَ اليشكُرِي :
فَقُلْ للْحَوَارِيّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنا *** وَلاَ تَبْكِنَا إِلاّ الكِلابُ النَوَابِحُ
ويعني بقوله : { قالَ الحَوَارِيّونَ } قال : هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبييضهم الثياب : آمنا بالله ، صدّقنا بالله ، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون . وهذا خبر من الله عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبياء قبله ، لا النصرانية ولا اليهودية ، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها ، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام ، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } والعدوان ، { قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ } وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم ، واشهد بأنا مسلمون ، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ، يعني وفد نصارى نجران .
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس . { قال من أنصاري إلى الله } ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا أو ضاما إليه ، ويجوز أن يتعلق الجار ب{ أنصاري } مضمنا معنى الإضافة ، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري . وقيل إلى ها هنا بمعنى ( مع ) أو ( في ) أو ( اللام ) . { قال الحواريون } حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص ، ومه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن . سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم . وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود . وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها . { نحن أنصار الله } أي أنصار دين الله . { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ}: فلما وجد عيسى منهم الكفر. والإحساس: هو الوجود، ومنه قول الله عزّ وجلّ: {هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ}.
فتأويل الكلام: فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودا لنبوّته، وتكذيبا لقوله، وصدّا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال: {مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ}، قال عيسى: من أعواني على المكذّبين بحجة الله، والمولين عن دينه، والجاحدين نبوّة نبيه إلى الله عزّ وجلّ، ويعني بقوله {إلى اللّه}: مع الله.
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا، فقال بعضهم:... وانطلق عيسى ابن مريم، فمرّ بالحواريين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك، فقال: أفلا تمشون حتى تصطاد الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به، وانطلقوا معه، فذلك قول الله عزّ وجلّ: {مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا باللّهِ وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ}: استنصر فنصره الحواريون وظهر عليهم.
وقال آخرون: كان سبب استنصار عيسى من استنصر، لأن من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله.
والأنصار: جمع نصير. وأما الحواريون، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا حواريين؛ فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وقال آخرون: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. الحواريون: الغسالون، الذين يحوّرون الثياب يغسلونها.
وقال آخرون: هم خاصة الأنبياء وصفوتهم. وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى الحواريين قول من قال: سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسالين، وذلك أن الحور عند العرب: شدة البياض، ولذلك سمي الحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بياضه، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين أحور، وللمرأة حوراء، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا من تبييضهم الثياب، وأنهم كانوا قصارين، فعرفوا بصحبة عيسى واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل، حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ» يعني خاصته.
{قالَ الحَوَارِيّونَ} قال: هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبييضهم الثياب:"آمنا بالله": صدّقنا بالله، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون. وهذا خبر من الله عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبياء قبله، لا النصرانية ولا اليهودية، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أحس}: عرف... يحتمل، والله أعلم، أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم {مائدة من السماء} [المائدة: 112] تكون لهم آية لرسالته وصدقه، ففعل الله جل وعلا ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من يكفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا، فكفروا به، فعلم أن العذاب ينزل عليهم، فأحب أن يخرج بمن آمن به لئلا يأخذهم العذاب، فقال: {قال من أنصاري إلى الله} يؤيد ذلك قوله: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم} الآية [الصف: 14]، ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد هموا بقتله قال عند ذلك: {من أنصاري إلى الله} أحب أن يكون معه أنصار إلى الله ينصرونه، فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم الله على أعدائهم، ليظهر المؤمنين من غيرهم، وهو قوله: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14]. ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سنة عيسى عليه السلام الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14] أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم فلا يخلو إما أن يكون قتالا وإما غلبة بحجة أو شيء مما يقهرهم، والله أعلم...
وقيل: الحواري: الوزير والناصر والخاص على ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواريين، وحواري فلان وفلان) [البخاري 2846] وذكر نفرا من الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإنما أراد، والله اعلم، الناصر والوزير. ويحتمل أن يكونوا سموا بذلك لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى رضي الله عنه كذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه والله أعلم بهم. وقوله تعالى: {نحن أنصار الله}؛ إن الله يتعالى عن أن يُنصر، ولكن يحتمل {نحن أنصار الله} أي أنصار دين الله وأنصار نبيه أو أنصار أوليائه تعظيما، وكذلك قوله: {إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] [إن الله لا ينصر] ولكن ينصر دينه أو رسله أو أولياؤه، وهو كقوله: {يخادعون الله} [البقرة: 9] إنه لا يخادع، ولا يمكن [أن يخادع] ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه أضاف ذلك إلى نفسه. فعلى ذلك لما نصروا دين الله ونبيه ووليه أضافه إلى نفسه. وقوله تعالى: {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} الآية تنقض من يجعل الإيمان غير الإسلام لأنهم أخبروا أنهم آمنوا وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما /60-أ/، وكذلك قوله: {فأخرجنا من كل فيها من المؤمنين} {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35 و 36] لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدا، وكذلك قول موسى لقومه: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84] لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقا، وهو قوله: إن العمل فيهما واحد، لأن الإيمان بأن تصدق بأنك عبد الله، والإسلام هو أن تجعل نفسك لله سالما، وقيل: الإيمان اسم ما بطن، والإسلام اسم ما ظهر. ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة وفي الإيمان التصديق؟...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حين بَلَّغهم الرسالة واختلفوا -فمنهم من صدَّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون- عَلِمَ أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء، فقطع عنهم قلبه، وصدق إلى الله قصده، وقال لقومه: مَنْ أنْصاري إلى الله ليساعدوني على التجرد لحقِّه والخلوص في قصده؟ فقال مَنْ انبسطت عليهم آثار العناية، واستخلصوا بآثار التخصيص: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد علينا بالصدق، وليس يشكل عليك شيءٌ مما نحن فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمَّا أَحَسَّ} فلما علم منهم {الكفر} علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس. و {إِلَى الله} من صلة أنصاري مضمناً معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله، ينصرونني كما ينصرني، أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء، أي من أنصاري، ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قول الحواريين: {واشهد} يحتمل أن يكون خطاباً لعيسى عليه السلام، أي اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى كما تقول: أنا أشهد الله على كذا، إذا عزمت وبالغت في الالتزام، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع: {اللهم اشهد}... وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى، لا ما تقولونه أنتم، يا من يدعي له الألوهية...
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم} وفي الآية مسائل:... والرابع: أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى « اللهم منك وإليك» أي تقربا إليك، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياه:"إلي": أي انضم إلي، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى... أما قوله {آمنا بالله} فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه. ثم قالوا: {واشهد بأنا مسلمون} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد لله تعالى أيضا، ثم فيه قولان: الأول: المراد: واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه. الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة، وكان قوله: في أول السورة {يصوركم في الأرحام كيف يشاء} وقوله هنا {يخلق ما يشاء} مغنياً عن ذكر حملها، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: فصدق الله فيما قال لها، فحملت به من غير ذكر فولدته -على ما قال سبحانه وتعالى- وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {فلما أحس} قال الحرالي: من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني -انتهى. {عيسى منهم الكفر} أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار، فعزم على إلحاقهم دار البوار {قال من أنصاري}.
ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال: {إلى} أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى {الله} أي الملك الأعظم {قال الحواريون} قال الحرالي: جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب- انتهى.
وهو مصروف لأن ياءه عارضة {نحن أنصار الله} أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم: {آمنا بالله} أي على ما له من صفات الكمال، ثم أكدوا ذلك بقولهم مخاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخلق إذ ذاك: {واشهد بأنا مسلمون} أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: انتقل من البشارة بعيسى إلى ذكر خبره مع قومه وطوى ما بينهما من خبر ولادته ونشأته وبعثته مؤيدا الآيات وهذا من إيجاز القرآن الذي انفرد به. فقد انطوى تحت قوله: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} جميع ما دلت عليه البشارة وهم بنو إسرائيل الكفر والمقاومة والقصد بالإيذاء وفي هذا من العبرة والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ما فيه وأن أكبر ما فيه الإعلام بأن الآيات الكونية وإن كثرت وعظمت ليست ملزمة بالإيمان ولا مفضية إليه حتما، وإنما يكون الإيمان باستعداد المدعو إليه وحسن بيان الداعي. ولذلك كان من أمر عيسى عليه السلام أنه لما أحس من قومه الكفر {قال من أنصاري إلى الله} أي توجه إلى البحث عن أهل الاستعداد الذين ينصرونه في دعوته تاركين لأجلها كل ما يشغل عنها منخلعين عما كانوا فيه متحيزين ومنزوين إل الله منصرفين إلى تأييد رسوله ونصره على خاذليه والكافرين بما جاء به {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي أنصار دينه. وهذا القول يفيد الانخلاع والانفصال من التقاليد السابقة، والأخذ بالتعليم الجديد. وبذل منتهى الاستطاعة في تأييده، فإن نصر الله لا يكون إلا بذلك.
والحواريون أنصار المسيح. والنصر لا يستلزم القتال فالعمل بالدين والدعوة إليه نصر له. قال الأستاذ الإمام: ولا نتكلم في عددهم لأن القرآن لم يعينه. أقول ولعل لفظ الحواري مأخوذ من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه لأنه من خيار القوم وصفوتهم، أو من الحور وهو البياض، وفي حديث الصحيحين "لكل نبي حواري وحواري الزبير "ومن هنا قيل خاص بأنصار الأنبياء.
{آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} مخلصون له منقادون لأمره وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن "أحس" يستعمل في إدراك الحسي والمعنوي ففي حقيقة الإحساس: أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر وما أحسسنا منه خبرا وهل تحس من فلان بخبر؟ والمكر من الأمور المعنوية وإن كان يستنبط من الأعمال الحسية ويستدل عليه بها. وقال البيضاوي في الآية: تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدركه بالحواس. وهو مبني على أن معنى أحس الشيء: أدركه بإحدى حواسه، وأن إطلاقه على إدراك الأمور المعنوية مجاز، شبه فيه معقول بالمحسوس في الجلاء والوصول إلى درجة اليقين. على أن الكفر يعرف بالأقوال والأعمال المحسوسة. وقال الأستاذ الإمام: إن الجار في "إلى الله" متعلق بلفظ "أنصاري" وإن لم يعرف أن مادة نصر تعدى ب"إلى". ذلك بأن مجموع الكلام هنا قد أشرب الكلمة معنى اللجأ والانضمام، لأن النصر يحصل بذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة.. ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه -عليه السلام- بالكفر من بني إسرائيل، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله:
(فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).
وهنا فجوة كبيرة في السياق. فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل؛ ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد؛ ولا أنه دعا قومه وهو كهل؛ ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه [كما جاء في سورة مريم].. وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني، لعدم التكرار في العرض من جهة، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى..
والأن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل -بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر؛ والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها، وتؤيد من جاءت على يده. ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف..
من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه، وأؤدي عنه؟
ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويلغونها إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها..
(قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون).
فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين، وأشهدوا عيسى- عليه السلام -على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله.. أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وطَلَبُ النصرِ لإظهار الدعوة لله، موقفٌ من مواقف الرسل، فقد أخبر الله عن نوح {فدعا رَبه أنّي مغلوب فانتصر} وقال موسى: {واجعل لي وزيراً من أهلي} [طه: 29] وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يُبلغ دعوة ربّه. وقوله: {قال من أنصاري إلى الله} لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبْلاغاً للدعوة، وقطعاً للمعذرة. والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه...
والحواريون: لقب لأصحاب عيسى، عليه السلام: الذين آمنوا به ولازموه، وهو اسم معرَّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن عن الضحاك...
وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته.
وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم "لكل نبيِّء حَوَارِيٌّ وحَوارِيّ الزُّبَيْر بنُ العوام".
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء.
...وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله، وليس في قولهم: {نحن أنصار الله} ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً، فلم يحصل تعريف الجزأين، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة،أي أنهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا... وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة: أولها:أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين؛ ولذلك عبر بقوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} فنسب الكفر إليهم، وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى. المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمته من تلك الكثرة الساحقة؛ ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى. المعنى الثالث: الذي يشير إليه النص: هو أن النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم عن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فها هنا نضع اليد مرة أخرى على الوحدة القائمة بين رسالات الرسل ومواقف أتباعهم الصادقين، ونجد هذه الوحدة بارزة حتى في الألقاب والأسماء والاصطلاحات، فأتباع عيسى عليه السلام يسميهم القرآن (أنصارا) كما سمى أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الذين بايعوه على النصرة، من الأوس والخزرج، أنصارا {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ} وكما نسمي نحن أنفسنا (مسلمين) فقد سمى الحواريون أنفسهم بنفس الاسم، إبرازا للصفة المهيمنة على حياة المؤمنين، والموجهة لهم في جميع أعمالهم وتصرفاتهم، ألا وهي صفة الطاعة المطلقة، والامتثال الكامل، والتسليم لتوجيهات الله وتعليماته في تدبير شؤونهم الخاصة والعامة، دون مناقشة منهم ولا اعتراض ولا تمرد {آمَنَّا باللهِ واشهَد بِأنّا مُسلِمُونَ}...
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلتَ واتَّبَعنَا الرَّسُولَ فاكتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} فاتباع المؤمنين لرسولهم، وتطبيقهم لشريعته على حياتهم اليومية الخاصة والعامة، هو وحده البرهان الناطق على قوة إيمانهم، وهو وحده المعيار الصحيح لصدق عقيدتهم، وهو وحده الأساس الذي تبنى عليه الشهادة لهم بأنهم من المسلمين، والذي يسجلون على أساسه في عداد (الشاهدين). ولذلك كانت (الشهادة) مما بني عليه الإسلام، بل هي أول ما بني عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا). ولذلك كانت الشهادة أيضا عنصرا ضروريا في الأذان إلى الصلاة وعند إقامتها، ولذلك أيضا خصص من الصلاة جزء للتشهد فيها، فالتشهد تعبير دائم ونطق صريح شبيه بالأمر اليومي الذي تصدره قيادة الجيش إلى القوات العاملة فيه، مضمونه أن المؤمن المتشهد مقتنع كل الاقتناع بدينه، ملتزم له فكرا وقولا وعملا، وأنه مرتبط بإلهه ونبيه ارتباطا مستمرا، وأنه معتز بهذا الارتباط، وأنه مفتخر بهذا الانتساب وهذا الالتزام، أمام العالم أجمع، بما فيه من مسلمين وغير مسلمين، وإذا كانت الشهادة بمعناها العادي تتضمن اقتناع الشاهد بمحتواها، وحرصه التام على إبرازها وعدم كتمانها، وامتناعه من إدخال أي تبديل أو تغيير عليها، فما بالك بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، التي هي أم الشهادات جميعا؟...
قول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} يدل على أن كل صاحب فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لا بد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور. وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟ وتكون الإجابة: إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ -اغتصابا- خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم، ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها. إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها، فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس، والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم. إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر ويفرح. وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والانتباه. إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة. وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة. {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}؟ إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية. والتضحية تكون بالنفس والنفيس، لذلك لا بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة. وهو لم يناد أفرادا محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع. {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} وكلمة "أنصار "هي جمع "نصير". والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك. وعندما سأل عيسى: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ؟} كانت إلى في السؤال تفيد الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه، أو غير ذلك، إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة الله وحده...
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم -الحواريين- الإيمان أولا، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] وهذه الشهادة تعطي للموقف بُعداً مهماً على صعيد حركة الإسلام في داخل النفس، فإنَّ الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكر وشعور، ولكنَّها تشتدّ كلّما تحوّلت إلى معاناة في الروح وإعلانٍ في حركة الإنسان في الحياة، لأنَّ الموقف يتخذ لنفسه معنى المسؤولية المتحركة أمام اللّه والنّاس، من خلال الإيحاء بإلزامه بما التزم به. وربَّما كان هذا هو السرّ في أنَّ إعلان الشهادة من قِبَل المسلم يعتبر عنصراً أساسياً في إسلام المسلم، فلا يكتفي بما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لاحظ أنّ الحواريين لم يقولوا: نحن أنصارك، بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم، ولكن لا يشمّ من كلامهم أيّ رائحة للشرك، قالوا: نحن أنصار الله، ننصر دينه، ونريدك شاهداً على هذه الحقيقة، لعلّهم قد شمّوا منذ ذلك اليوم رائحة الانحراف في المستقبل وأنّ هناك من يستدعي ألوهية عيسى من بعده، فسعوا ألاَّ يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرّعوا به...
وهنا ميّز المسيح (عليه السلام) أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع لدعوته برنامجاً دقيقاً وخطة مدروسة كما صنع نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك في بيعة العقبة...