المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

173- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود ، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان ، ومن الدم المسفوح ، ومثله في التحريم لحم الخنزير ، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه ، على أن من اضطر{[10]} إلى تناول شيء من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه ، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع .


[10]:حال الاضطرار تسوغ ما يحرم لأن الموت المؤكد أشد من الضرر المحتمل، ولأن الجائع تتنبه أجهزة هضمه فيتغلب على المواد الضارة، ولذا لا يصح للمضطر أن يتجاوز حالة الضرورة.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي : ما مات بغير تذكية شرعية ، لأن الميتة خبيثة مضرة ، لرداءتها في نفسها ، ولأن الأغلب ، أن تكون عن مرض ، فيكون زيادة ضرر{[118]}  واستثنى الشارع من هذا العموم ، ميتة الجراد ، وسمك البحر ، فإنه حلال طيب .

{ وَالدَّمَ } أي : المسفوح كما قيد في الآية الأخرى .

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي : ذبح لغير الله ، كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار ، والقبور ونحوها ، وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات ، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله : { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات ، تستفاد من الآية السابقة ، من قوله : { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم .

وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ، لطفا بنا ، وتنزيها عن المضر ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجئ إلى المحرم ، بجوع وعدم ، أو إكراه ، { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب للمحرم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، { وَلَا عَادٍ } أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ، اضطرارا ، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها ، { فَلَا إِثْمَ } [ أي : جناح ] عليه ، وإذا ارتفع الجناح الإثم{[119]}  رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة ، مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه .

فيجب ، إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلا لنفسه .

وهذه الإباحة والتوسعة ، من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور ، اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له ، الملك الرحمن . [ فله الحمد والشكر ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ] .


[118]:- في ب: مرض.
[119]:- في أ: (وإذا ارتفع الجناح) وفوق كلمة الجناح كلمة (الإثم) وفي ب، وردت الجملة هكذا (وإذا ارتفع الاثم).
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا .

و { الميتة } في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل فيها : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع ، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " .

وكان الأكل من الميتة محرماً ، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها .

قال الآلوسي : وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده ، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد ، للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضاً ، فإنه إذا ما قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه " .

والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً . . . } والدم المسفوح : هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها .

أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه .

قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوي ، ومعفو عما تعم به البلوي . والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه . . . وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع .

وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها ، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصد .

قال بعضهم : والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضي شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس ، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراروة في الإِنسان ، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق .

وحرمة الخنزير شاملة للحمة وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر ، لأنه الذي يقصد بالأكل ، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه . وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة - أي : خياطة الجلود وغيرها - ، وبعضهم كره ذلك .

ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذاراته ، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث .

وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت ، وصار في الإِمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير ، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن ؟

إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع ، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس ، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده ، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم .

وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } معطوف على ما قبله من المحرمات . و { أُهِلَّ } من الإِهلال ، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً ، ومنه إهلال الصبي ، والإِهلال بالحج . وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .

فالمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام وغيرها ، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار . ومنه عند جمهور العلماء : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى ، لأنها مما أهل به لغير الله .

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، لعموم قوله - تعالى - في سورة المائدة سوهي من آخر سورة نزولا : ( وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ) أي ذبائحهم ، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون .

وروى الحسن عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل ، فإن غاب عنك فكل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .

وقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " .

فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه .

فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة ، أي : لعله ذاتية فيها ، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه ، ولكن للتوجه به إلى غير الله .

وهي علة روحية تنافي سلامة القلب ، وطهارة الروح ، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملقح بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وزجدر لهم عن التقرب إلى أحد سواه .

وقوله - تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التي يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات .

و { اضطر } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء . يقال : اضطره إلى هذا الشيء . أي : أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار ، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه ، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك .

و { بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب . تقول : بغيته بغاء وبغيا وبغية أي : طلبته .

و { عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول . عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - في شأن قوم لوط { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و { غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر في { اضطر } وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا .

والمعنى : فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات : حالة كونه غير باغ : أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له لإِشباع لذته ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، أو غير ساع في فساد { وَلاَ عَادٍ } أي : وغير متجاوز ما يسد الجوع ، ويحفظ الحياة { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات .

وبهذا نرى لونا من ألوان سماحهة الإِسلام ويسره في تشريعاته ، التي أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج ، ودفع الضرر ، قال - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان . أي : إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين ، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا ، ويغفر الذنوب ، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر .

هذا ، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة ، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية ، فعلى هذا تكون لفظة " إنما " متروكة الظاهر في العمل - كما قال الإِمام الرازي - أي : أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأنعام :

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم } { إنما } هنا حاصرة ، و { الميتة } نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة » بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت » و «ميْت » لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميْت » بالتخفيف .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر( {[1554]} ) : [ الخفيف ]

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ . . . إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير { وما هو بميت }( {[1555]} ) [ إبراهيم : 17 ] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر( {[1556]} ) : [ الوافر ]

إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ . . . فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِىءْ بِزَادِ

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي و { إن } عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حُرِّمَ » على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت { ما } كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر .

ولفظ { الميتة } عموم والمعنى مخصص( {[1557]} ) لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم( {[1558]} ) ، و { الميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه( {[1559]} ) كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب( {[1560]} ) : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل .

و { الدم } يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي( {[1561]} ) أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها( {[1562]} ) ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه( {[1563]} ) ، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيراً .

وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده( {[1564]} ) عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية .

و { ما أُهِلّ به لغير الله } ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و { أهل } معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم( {[1565]} ) ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس( {[1566]} ) ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها( {[1567]} ) عرساً فذبحت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة .

واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع( {[1568]} ) ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى { فمن اضطر } الآية ، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال { فمن اضطِر } بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء ، وقرأ ابن محيصن ، «فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى { اضطر } : ضمه عدم وغرث( {[1569]} ) ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات ، و { غير باغ } في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم( {[1570]} ) ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي { غير باغ } أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، { ولا عاد } أي متزود( {[1571]} ) ، وقال مالك رحمه الله : «يأكل المضطر شبعه » ، وفي الموطأ - وهو لكثير من العلماء : أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في { عاد } أن معناه عايد( {[1572]} ) ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها .

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزاً ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل .

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم ، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه( {[1573]} ) .


[1554]:- هو عدي بن رعلاء الغساني، كما في معالم الاهتداء، شرح شواهد قطر الندى.
[1555]:- [يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت] من الآية (17) من سورة إبراهيم.
[1556]:- هو يزيد بن الصعق الكلابي – أو أبو المهوس الأسدي يهجو بني تميم بحب الطعام. وبعد البيت: بِخُبْـز أو بتَمْـر أوْ بِسَمْــنٍ أو الشّيءِ المُلَفَّــفِ فـي البِجَــادِ تَرَاهُ يُطَوِّفُ الآفَـاقَ حِرصـاً لِيَأكُـلَ رأْسَ لُقمـانَ بـنَ عَــــادِ
[1557]:- هذا رأي ابن عطية، وقد ناقشه فيه (ح) ويخصص عموم الآية حديث الإمام أحمد، وابن ماجة، والدارقطني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال) – وعليه فالمراد بالميتة في الآية ميتة البر.
[1558]:- بحسب الإرادة لأن المخصص دل على أنه لم يرد دخوله في اللفظ العام، وإن كان اللفظ يشمله بحسب الدلالة.
[1559]:- قال الشيخ خليل رحمه الله في مختصر المالكية: وافتقر لما يموت به نحو الجراد.
[1560]:- ابن نافع هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع. وابن عبد الحكم هو: أبو محمد عبد الله بن الحكم وابن وهب هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم. وسحنون هو: أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، وأشهب هو: أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز – وكلهم من فقهاء المالكية المصريين الذين عرفوا بالإمامة في الفقه.
[1561]:- هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف، من أئمة الحديث. توفي سنة 403 هـ.
[1562]:- كل من اللحم والشحم والغضروف اسم خاص إذا أُطلق لا يدخل فيه الآخر ولا يدل عليه، فتخصيص اللحم بالذكر تخصيص له بالحكم، إلا أننا نقول: إن الشحم تابع للحم ومن هنا يشمله، بخلاف اللحم فإنه غير تابع للشحم، ولهذا كان ذكر اللحم ينوب عن ذكر الشحم، قال الإمام مالك رحمه الله: من حلف لا يأكل لحما فأكل شحما يحنث، ومن حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لا يحنث، وقد حرم الله على بني إسرائيل الشحوم فلم يدخل في تحريمها عليهم اللحوم. وقال بعض المحققين في قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلى محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس] الضمير في قوله: [فإنه] عائد على [خنزير] ليفيد تحريم سائر أجزائه، وقد اعترض بأن الكلام إذا كان فيه مضاف ومضاف إليه عاد الضمير إلى المضاف دون المضاف إليه لأنه هو المُحَدَّث عنه – إلا أننا نقول: إعادته على المضاف إليه هنا أولى من حيث المعنى، لأن تحريم اللحم استفيد من قوله أو لحم خنزير، فلو عاد الضمير عليه كان الكلام خاليا من فائدة التأسيس، ونظير ذلك في عود الضمير على المضاف إليه قوله تعالى: [واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون] وقوله تعالى: [كمثل الحمار يحمل أسفارا] وعليه فالقاعدة المذكورة أغلبية.
[1563]:- يخالف داود الظاهري في هذا، اللهم إلا إذا كان خلافه غير معتد به عند ابن عطية تبعا لإمام الحرمين انظر (ح).
[1564]:- هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة: صاحب كتاب المخصص في اللغة توفي سنة 458 هـ.
[1565]:- يعني أن العبرة بالقصد سواء وجد الإهلال والصياح أم لا – فأبو الفرزدق لما كان قصده بالنحر التباهي والتفاخر نهى علي رضي الله عنه عن أكلها.
[1566]:- والذي يُروى في هذه القصة أن (غالبا أبا الفرزدق) فاخر (سُحَيْم بن وَثيل الرياحي) في الطعام، فنحر مائة ناقة، ونحر سحيم ثلاثمائة ناقة وقال للناس: شأنكم بها، فقال علي بن أبي طالب: إنها مما أهل به لغير الله، فتركها الناس حتى أكلتها الوحوش والطيور. ومثل ذلك في الحكم ما يقع للمعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله.
[1567]:- اللّعبة كالتمثال والدمية. والحاصل أن ذبيحة الأصنام والأوثان لا تؤكل، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف عن الحسن بن أبي الحسن، وما يذبح على القبور والأموات عن قصد لأن ذلك بمثابة الأصنام ولا سيما التي يصاح عليها بأنها ذبيحة فلان. والمعوّل عليه هو النية والقصد.
[1568]:- قال في المدونة: وما ذبحه اليهود فأصابوه فاسدا عندهم لحال الرئة وشبهها التي يحرمونها في دينهم – فمرة أجاز مالك أكلها ثم كرهه وقال: لا تؤكل انتهى. قال ابن ناجي في شرحها: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: الجواز – والكراهة – وكلاهما لمالك فيها، والتحريم لظاهر قول ابن القاسم كما هو ظاهر العتبي عن ابن كنانة. وقد اعتمد بعضهم الحرمة لما ذكره الشيخ عبد الحق الإسلامي الذي له مزيد اطلاع على كتب اليهود – من عوامل التحريم.
[1569]:- أي أخذه وألجأه فقر وجوع والعبارة مجاز، ويعني أن الصحيح في تفسير الاضطرار هو إلجاء الفقر والجوع إلى هذه المحرمات، والقول بأن معنى الاضطرار هو الإكراه على أكل هذه المحرمات غير صحيح ولا قوي – والحقّ أن بناء الفعل للمفعول يدل على مطلق الضرورة سواء كان بجوع أو إكراه، في حضر أو سفر.
[1570]:- هذا هو الظاهر، ونحو الآية قوله تعالى: [فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم] وأما آية الأنعام ففيها إحالة على هاتين الآيتين لأن تفصيل المحرم فيهما، وبهذا تكون آيات إباحة هذه المحرمات للمضطر كلها مقيدة بعدم ارتكاب الإثم.
[1571]:- أي من الميتة، وقال مالك رحمه الله: يأكل المضطر حتى يشبع، ويتزود منها إن اقتضته الضرورة، وهذا هو الأصح.
[1572]:- عاد اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد فيكون مقلوبا أو محذوفا من باب شاك ولاث – لأن القلب لا يصار إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب قاله (ح) رحمه الله.
[1573]:- كون الأكل من الميتة رخصة هو الصحيح، ومن الناس من رأى ذلك عزيمة، واستدل بقول مسروق: إن ترك المضطر الأكل من الميتة حتى مات دخل النار لأنه كمن قتل نفسه، والله يقول [ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما] الآية.