18- وتظنهم - أيها الناظر - منتبهين ، وفي الحقيقة هم نيام ، ونقلبهم في نومهم يمينا مرة ويسارا مرة لنحفظ أجسامهم من تأثير الأرض ، وكلبهم - الذي صاحبهم - مادا ذراعيه بالفناء وهو نائم أيضاً في شكل اليقظان ، لو اطلعت - أيها المخاطب - عليهم وهم على تلك الحال لفررت منهم هاربا ، ولملئ قلبك منهم فزعا لهيبتهم في منامهم ، فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ، كيلا يدنو منهم أحد ، ولا تمسهم يد حتى تنتهي المدة .
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم [ كأنهم ]{[486]} أيقاظ ، والحال أنهم نيام ، قال المفسرون : وذلك لأن أعينهم منفتحة ، لئلا تفسد ، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ، وهم رقود ، { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم ، لأن الأرض من طبيعتها ، أكل الأجسام المتصلة بها ، فكان من قدر الله ، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا ، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم ، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض ، من غير تقليب ، ولكنه تعالى حكيم ، أراد أن تجري سنته في الكون ، ويربط الأسباب بمسبباتها .
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي : الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته ، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ، أي : الباب ، أو فنائه ، هذا حفظهم من الأرض . وأما حفظهم من الآدميين ، فأخبر أنه حماهم بالرعب ، الذي نشره الله عليهم ، فلو اطلع عليهم أحد ، لامتلأ قلبه رعبا ، وولى منهم فرارا ، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ، وهم لم يعثر عليهم أحد ، مع قربهم من المدينة جدا ، والدليل على قربهم ، أنهم لما استيقظوا ، أرسلوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما من المدينة ، وبقوا في انتظاره ، فدل ذلك على شدة قربهم منها .
ثم صور - سبحانه - بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ . . . } .
والحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم ، والرقود : جمع راقد والمراد به هنا : النائم .
أى : وتظنهم - أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم - أيقاظا منتبهين ، والحال أنهم رقود أى : نيام .
وقالوا : وسبب هذا الظن والحسبان ، أن عيونه كانت مفتوحة ، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة ، كما قال - تعالى - بعد ذلك : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } .
أى : ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التى تلى أيمانهم ، وإلى الجهة التى تلى شمائلهم ، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليهم .
وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله - تعالى - وما أورده المفسرون فى ذلك لم يثبت عن طريق النقل الصحيح ، لذا ضربنا صفحا عنه .
ثم بين - سبحانه - حالة - كلبهم فقال : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .
والمراد بالوصيد - على الصحيح - فناء الكهف قريبا من الباب ، أو هو من الباب نفسه ، ومنه قول الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها . أى : لا يسد بابها .
أى : وكلبهم الذى كان معهم فى رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم .
وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته ، لم نهتم بذكره لعدم فائدته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } .
أى . لو عاينتهم وشاهدتهم - أيها المخاطب - لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت . ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاماً منها : أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها .
قال ابن كثير - رحمه الله - ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب . لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب - كما ورد فى الصحيح . . وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقال القرطبى - رحمه الله - ما ملخصه : قال ابن عطية : وحدثنى أبى قال : سمعت أبا الفضل الجوهرى فى جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله فى محكم تنزيله .
قلت - أى القرطبى - : إذا كان بعض الكلام نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك فى كتابه ، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء . والصالحين ! ! بل فى هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات : المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم وآله خير آله .
روى فى الصحيح عن أنس قال : " بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد ، فلقينا رجل عند سدة المسجد ، فقال : يا رسول الله . متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أعدَدْتَ لها ؟ " قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكنى أحببت الله ورسوله : قال صلى الله عليه وسلم : " فأنت مع من أحببت " "
{ وتحسبهم أيقاظا } لانفتح عيونهم أو لكثرة تقلبهم . { وهم رُقود } نيام . { ونُقلّبهم } في رقدتهم . { ذات اليمين وذات الشمال } كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان . وقرئ " ويقلبهم " بالياء والضمير لله تعالى ، و " تَقَلُبَهُمْ " على المصدر منصوبا بفعل يدل عليه تحسبهم أي وترى تقلبهم . { وكلبهم } هو مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله فقال : أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم . أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب ، ويؤيده قراءة من قرأ : و " كالبهم " أي وصاحب كلبهم . { باسط ذراعيه } حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل . { بالوصيد } بفناء الكهف ، وقيل الوصيد الباب ، وقيل العتبة . { لو اطّلعت عليهم } فنظرت إليهم ، وقرئ " لَوُ اطَّلَعتَ " بضم الواو . { لولّيت منهم فراراً } لهربت منهم ، و{ فرارا } يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال . { ولمُلئت منهم رُعباً } خوفا يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم . وقيل لوحشة مكانهم . وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً } فلم يسمع وبعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم . وقرأ الحجازيان " لَمُلِّئْتَ " بالتشديد للمبالغة وابن عامر والكسائي ويعقوب { رُعُباً } بالتثقيل .
وقوله { وتحسبهم } الآية ، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزاً واتساعاً و { أيقاظاً } جمع يقظ كعضد وأعضاد ، وهو المنتبه قال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فلذلك كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظاناً وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم » بنون العظمة ، وقرأ الحسن «وَتَقلُّبُهم » بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء ، وهو مصدر مرتفع بالابتداء ، قاله أبو حاتم ، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء ، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم{[8]} .
وأبو حاتم أثبت ، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } وهذا وإن كان التقلب لمن صادف رؤيته دليلاً على ذلك ، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبراً مستأنفاً ، وقال أبو عياض : كان هذا التقليب مرتين في السنة ، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة ، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا ، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظاً من الأرض ، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض .
قال القاضي أبو محمد : وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب . وتتأمل بعد{[7767]} ، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيراً من النوام ، لأن القوم لم يكونوا موتى . وقوله { وكلبهم } أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي ، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله ، وقيل كان أنمر{[7768]} ، وقيل أحمر ، وقالت فرقة كان رجلاً طباخاً لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله ، وقالت فرقة : كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم .
قال القاضي أبو محمد : فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً لأنه منها كالكلب من الإنسان ، ويقال له كلب الحيار : أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين ، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه السلام : «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب »{[7769]} ، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرىء «وكالبهم باسط ذراعيه » فيحتمل أن يريد ب «الكالب » هذا الرجل ، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة{[7770]} ، المستخفي بنفسه ، ويحتمل أن يريد ب «الكالب » الكلب ، وقوله { باسط ذراعيه } أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال ، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب ، و «الوصيد » العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست . وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد » الفناء ، وقال ابن عباس أيضاً «الوصيد » الباب ، وقال ابن جبير أيضاً «الوصيد » التراب ، والقول الأول أصح ، والباب الموصد هو المغلق ، أي قد وقف على وصيده ، ثم ذكر الله عز وجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة ، وقرأ «لوِ اطلعت » بكسر الواو جمهور القراء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لوُ اطلعت » بضمها . وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت » بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت ، وقرأ الباقون «لمُلِئت » بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة ، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي : [ الطويل ]
وإذ فتك النعمان بالناس محرماً . . . فملىء من كعب بن عوف سلاسله{[7771]}
وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم ، ذكره المهدوي والزجاج ، وهذا قول بعيد ، ولو كانت حالهم هكذا ، لم يقولوا { لبثنا يوماً أبو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] وإنما الصحيح في أمرهم ، أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ، ولا تغيرت صفة ، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم ، ولروي ذلك ، وقرأ الجمهور «رعْباً » بسكون العين ، وقرأ «رعُباً » بضمها أبو جعفر وعيسى ، قال أبو حاتم : هما لغتان .
{ وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }
عطف على بقية القصة ، وما بينهما اعتراض . والخطاب فيه كالخطاب في قوله : { وترى الشمس } [ الكهف : 17 ] . وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم ، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس .
ومعنى حسبانهم أيقاضاً : أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم ، فقيل : كانت أعينهم مفتوحة .
وصيغ فعل { تحسبهم } مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة .
والأيقاظ : جمع يَقِظ ، بوزن كتف ، وبضم القاف بوزن عَضُد .
والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه ، قال تعالى : { فأصبح يقلب كفيه } [ الكهف : 42 ] .
و{ ذات اليمين وذات الشمال } أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم . والمعنى : أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس ، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة .
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي . ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية .
{ وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد }
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم ، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب .
والوصيد : مدخل الكهف ، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق .
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم . وقد يقال : إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه .
{ لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }
الخطاب لغير معين ، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله ، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية .
والمعنى : لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق ، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابىء لقطاع الطريق ، كما قال تأبط شراً :
أقولُ للَحْيَانٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم ، كقوله تعالى : { نكرهم وأوجس منهم خيفة } [ هود : 70 ] . وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس ، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب ، على أنه قد سبق { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } .
والاطلاع : الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع ، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا ، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء ، وضمن معنى الإشراف فعدي ب ( على ) ، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد ، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى : { أطلع الغيب } في سورة مريم ( 78 ) ، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء . و« في الكشاف » عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح .
وانتصب { فراراً } على المفعول المطلق المبين لنوع { وليت .
و{ مُلّئتَ } مبني للمجهول ، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرىء بهما .
والمَلْء : كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف ، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف ، ومُثل عقل الإنسان بالظرف ، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف ، فكان في قوله : { ملّئت } استعارة تمثيلية ، وعكسه قوله تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] .
وانتصب { رعباً } على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً . وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال ، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادىء الرأي .
والرعب تقدم في قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } في سورة آل عمران ( 151 ) .
وقرأ نافع وابن كثير { ولَمُلِّئْتَ } بتشديد اللام على المبالغة في الملء ، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل .
وقرأ الجمهور { رعباً } بسكون العين . وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين .