المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

189- ويسألك قوم عن الهلال{[14]} يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس . فما وراء هذا التغير ، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟ . فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية ، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم ، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم ، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم ، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق ، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ، متميزين بذلك عن الناس ، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس ، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم ، فاطلبوا رضا الله ، واتقوا عذابه ، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار .


[14]:إن القمر يعكس ضوء الشمس نحو الأرض من أجزاء سطحه المرئية والمضيئة فتظهر الأهلة، فإذا كان القمر في (الاقتران) أي بين الشمس والأرض فهو في المحاق ويبدأ ميلاد الهلال الجديد لجميع سكان الأرض، وإذا كان في الاستقبال أي الجهة المقابلة للشمس بالنسبة للأرض يظهر بدرا ثم يأخذ في التناقص حتى الاقتران الثاني، وتتم الدورة الاقترانية أي الشهر العربي في مدى 5309 ر29 يوما وعلى ذلك فإنه يمكن تعيين التاريخ العربي من ساعة الهلال وشدة إضاءته، فإذا شوهد الهلال خطا رفيعا عند الأفق الغربي وغرب بعد الغروب ببضع دقائق تمكن الرؤية بعد هذا الغروب، وتثبت بداية الشهر ويتيسر تعيين التاريخ من هذا الشهر للناس. ودورة القمر هي التي علمت الناس حساب الشهور ومنها شهر الحج وبدايته.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

يقول{[127]}  تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها ؟ أو عن ذاتها ، { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } أي : جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر ، ثم يتزايد إلى نصفه ، ثم يشرع في النقص إلى كماله ، وهكذا ، ليعرف الناس بذلك ، مواقيت عباداتهم من الصيام ، وأوقات الزكاة ، والكفارات ، وأوقات الحج .

ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات ، ويستغرق أوقاتا كثيرة قال : { وَالْحَجِّ } وكذلك تعرف بذلك ، أوقات الديون المؤجلات ، ومدة الإجارات ، ومدة العدد والحمل ، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق ، فجعله تعالى ، حسابا ، يعرفه كل أحد ، من صغير ، وكبير ، وعالم ، وجاهل ، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية ، لم يعرفه إلا النادر من الناس .

{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب ، إذا أحرموا ، لم يدخلوا البيوت من أبوابها ، تعبدا بذلك ، وظنا أنه بر . فأخبر الله أنه ليس ببر{[128]}  لأن الله تعالى ، لم يشرعه لهم ، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله ، فهو متعبد ببدعة ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم ، التي هي قاعدة من قواعد الشرع .

ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور ، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب ، الذي قد جعل له موصلا ، فالآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور ، ويستعمل معه الرفق والسياسة ، التي بها يحصل المقصود أو بعضه ، والمتعلم والمعلم ، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله ، يحصل به مقصوده ، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه ، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } هذا هو البر الذي أمر الله به ، وهو لزوم تقواه على الدوام ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإنه سبب للفلاح ، الذي هو الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المرهوب ، فمن لم يتق الله تعالى ، لم يكن له سبيل إلى الفلاح ، ومن اتقاه ، فاز بالفلاح والنجاح .


[127]:- في ب: فقوله.
[128]:- في ب: ليس من البر.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرام وبمواقيت الحج فقال - تعالى - :

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر . . . )

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : " بلغنا أن بعض الناس قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة فنزلت " .

والأهلة : جمع الهلال ، وهو الكوكب الذي يبزغ في أول كل شهر ، ويسمى هلالا لثلثا ليال أو لسبع ليلا من ظهوره ، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثاني .

قال بعضهم : وهو مشتق من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير ، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل .

والمواقيت : جمع ميقات بمعنى الوقت ، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل : الميقات منتهى الوقت .

والمعنى : يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة ، قل لهم - يا محمد 0 إن الله - تعالى - قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم .

قال - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وخص الجح بالكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتبيه على أن الحج مقصور وقد أدائه على الزمن الذي عينه الله - تعالى - وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل ، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرام الأربعة التي من جملتها ذو الحجدة إلى شهر آخر غير حرام ، وهو النسيء المشار إليه بقوله - تعالى - : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها ، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه ، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا بخلاف الأشهر الشمسية ، فإن معرفتها تنبني على النظر في حركات الفلك وهي لا تتيسر ألا للعارفين بدقائق علم الفلك .

هذا ، وم الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا : يا رسول الله . ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت .

وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله - تعالى - : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } من قبيل أسلوب الحكيم ، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له .

فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألأوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان ، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه ، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره ، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة ، وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت .

ولعلماء البلاغة كلام جيد في مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم ، فقد قال السكاكي ما ملخصه : " ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها . وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب ، أو السائل بغير ما يتطلب ، كما قال - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } الآية . قالوا في السؤال ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . ألخ فأجيبوا بما ترى . وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ، وهل ألان شكيمة " الحجاج الثقفي " لذلك الرجل الخارجي ، وسل سخيمته ، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم " فقال الخارجي متغابيا : مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب . مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه : أن رجلا مثله جدير بأن يعد لا أن يوعد " .

وقوله - تعالى - : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كونا يفعلونها في الجاهلية ، وهي أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم .

أخرج البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء - رضي الله عنه - يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت : { وَلَيْسَ البر } إلخ .

والمعنى : وليس من البر ما كنتم تفعلونهن في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم ، وكلن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوى الله بأن تمتثلوا أوامرره وتجتنبوا نواهيه ، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم .

وفي الأمر بأتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إيتانها من ظهورا ابسم الدين غير مأذون فيه ، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .

وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة ، ولا تتوقف معرفته على الوحي ، فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه .

قال بعضهم : وذلك لأن العلم على ضربين : علم دنيوي يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات ومعرفة المعادن والنبات ، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك غير لسان بينه صلى الله عليه وسلم .

وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم . ثم بين لهم أن البر في التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين " .

قا صاحب الكشاف : فإن قلت . ما وجه اتصال قوله - تعالى - { وَلَيْسَ البر } إلخ بما قبله ؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها : إن كل ما يفعله الله - تعالى - لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تعفلونهها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا . ويجوز أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلبك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب .

وقوله - تعالى - { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات . أي : افعلوا ما أمركم الله به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه ، لتكونوا من المفلحين ، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل في سنن الله وفي خلفه على النحو الذي ينشئ التقوى في النفوس ، ويوجه إلأى العمل الصالح الذي يرضى الله - تعالى - .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك عن الأهلة } سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) { قل هي مواقيت للناس والحج } فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها . وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء . والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها . والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر . { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر . { ولكن البر من اتقى } وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف { ولكن } ورفع { البر } . كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلوا من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين . أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه . والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله . { وأتوا البيوت من أبوابها } إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها . { واتقوا الله } في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله . { لعلكم تفلحون } لكي تظفروا بالهدى والبر .