24- ولقد عزمت أن تخالطه ونازعته نفسه إليها ، لولا أن رأي نور الله الحق نُصْبَ عينيه قد استضاء به ، ولم يطاوع ميل النفس ، وارتفع عن الهوى ، فامتنع عن المعصية والخيانة وثبت على طهره وعفته . وهكذا ثبتنا يوسف على الطهر والعفاف لنصرف عنه سوء الخيانة ومعصية الزنا ، إنه من عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله .
{ 23 - 29 } { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها ، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد ، ولا إحساس بشر .
{ وَ } زادت المصيبة ، بأن { غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي : افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ ، ومع هذا فهو غريب ، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم .
فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي .
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح ، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه .
ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . } .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .
وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .
وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .
وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .
كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .
والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .
أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .
والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .
{ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .
ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .
هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .
فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .
وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .
فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية ؟
قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "
ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .
والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .
{ وَهَمَّ بِهَا } أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .
والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .
وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .
وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان .
وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .
وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .
ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى في الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .
هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هي من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .
قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .
والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .
والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء - أى في المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .
والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة من السلف في ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره ، والله أعلم .
وقال بعضهم : المراد بهمه بها هَمّ خَطَرات حديث{[15125]} النفس . حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ، ثم أورد{[15126]} البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إذا هَمّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها من جَرّائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها " {[15127]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين{[15128]} وله ألفاظ كثيرة ، هذا منها .
وقيل : هم بضربها . وقيل : تمناها زوجة . وقيل : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : فلم يهم بها .
وفي هذا القول نظر من حيث العربية ، ذكره ابن جرير وغيره{[15129]} .
وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا : فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، وأبي صالح ، والضحاك ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب ، عليه السلام ، عاضا على أصبعه بفمه{[15130]} .
وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : رأى خيال{[15131]} الملك ، يعني : سيده ، وكذا قال محمد بن إسحاق ، فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال إطفير سيده ، حين دنا من الباب{[15132]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن أبي مودود{[15133]} سمعت من محمد بن كعب القُرَظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ]
وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني ، عن محمد بن كعب .
وقال عبد الله بن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول في : " البرهان " الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } الآية [ الانفطار : 10 ] ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الآية : [ يونس : 61 ] ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ]قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية رابعة { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا } [ الإسراء : 32 ]
وقال الأوزاعي : رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه{[15134]} عن ذلك .
قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به ، وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون [ صورة ]{[15135]} الملك ، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك . ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى .
قال : وقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } أي : كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي : من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه .
الهم : العزم على الفعل . وتقدم عند قوله تعالى : { وهمّوا بما لم ينالوا } في سورة براءة ( 74 ) . وأكد همّها ب { قد } ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزماً محققاً .
وجملة { ولقد همت به } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة . والمقصود من ذكر هَمّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم .
وجملة { وهَمّ بها لولا أن رأى برهان ربه } معطوفة على جملة { ولقد همت به } كلها . وليست معطوفة على جملة { همت } التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ، لأنه لما أردفت جملة { وهمّ بها } بجملة شرط { لولا } المتمحض لكونه من أحوال يوسف عليه السّلام وحْده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها .
فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به . ولم يقرن الجواب باللاّم التي يكثر اقتران جواب { لولا } بها لأنه ليس لازماً ولأنه لمّا قُدم على { لولا } كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : { ولقد همت به } ليظهر معنى الابتداء بجملة { وهَمّ بها } واضحاً . وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان .
قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : { ولقد همّت به وهمّ بها } الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها .
وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب { لولا } لا يتقدم عليها . ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب { لولا } ، على أنه قد يجعل المذكور قبل { لولا } دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل { لولا } عليه . ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن { لولا } وشرطها تقييد لقوله : { وهمّ بها } على جميع التأويلات ، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات .
وقال جماعة : هَمّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعْلب . وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته ، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور ، وفيه خلاف ، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف . وقال جماعة : هَمّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهاناً صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك . وهذا قول السديّ ، ورواية عن ابن عباس . وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله .
وقد خبط صاحب « الكشاف » في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجْبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات ( رمتني بدائها وانسلت ) ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف عليه السّلام قتلَه والقتلُ أشد .
والرؤية : هنا عِلمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر .
والبرهان : الحجة . وهذا البرهان من جملته صرفهُ عن الهمّ بها ، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها ، ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر .
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له .
والإشارة في قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله : { رأى برهان ربّه } ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء .
والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئاً . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .
والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية ، وهي الزنى . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .
وجملة { إنه من عبادنا المخلصين } تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس .
قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { المخلَصين } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .