35- إن المنقادين من الرجال والنساء ، والمصدقين بالله ورسوله والمصدقات ، والقائمين بالطاعة والقائمات ، والصادقين في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم والصادقات ، والصابرين على تحمل المشاق في سبيل الله والصابرات ، والمتواضعين لله والمتواضعات ، والمتصدقين من مالهم على المحتاجين والمتصدقات ، والصائمين الفرض والنفل والصائمات ، والحافظين فروجهم عما لا يحل والحافظات ، والذاكرين الله كثيرا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات . أعد الله لهم غفراناً لذنوبهم وثوابا عظيما على أعمالهم .
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعقابهن [ لو قدر عدم الامتثال ]{[3]} وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ، ذكر بقية النساء غيرهن .
ولما كان حكمهن والرجال واحدًا ، جعل الحكم مشتركًا ، فقال : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } وهذا في الشرائع الظاهرة ، إذا كانوا قائمين بها . { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وهذا في الأمور الباطنة ، من عقائد القلب وأعماله .
{ وَالْقَانِتِينَ } أي : المطيعين للّه ولرسوله { وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ } في مقالهم وفعالهم { وَالصَّادِقَاتِ } { وَالصَّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ } في جميع أحوالهم ، خصوصًا في عباداتهم ، خصوصًا في صلواتهم ، { وَالْخَاشِعَاتِ } { وَالْمُتَصَدِّقِينَ } فرضًا ونفلاً { وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } شمل ذلك ، الفرض والنفل . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } عن الزنا ومقدماته ، { وَالْحَافِظَاتِ } { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [ كَثِيرًا } أي : ] {[4]} في أكثر الأوقات ، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة ، كالصباح والمساء ، وأدبار الصلوات المكتوبات { وَالذَّاكِرَاتِ }
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ } أي : لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ، والمناقب الجليلة ، التي هي ، ما بين اعتقادات ، وأعمال قلوب ، وأعمال جوارح ، وأقوال لسان ، ونفع متعد وقاصر ، وما بين أفعال الخير ، وترك الشر ، الذي من قام بهن ، فقد قام بالدين كله ، ظاهره وباطنه ، بالإسلام والإيمان والإحسان .
فجازاهم على عملهم { بِالْمَغْفِرَةً } لذنوبهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } لا يقدر قدره ، إلا الذي أعطاه ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم .
وبعد هذه التوجيهات الحكيمة لأمهات المؤمنين ، ساق - سبحانه - توجيها جامعا لأمهات الفضائل ، وبشر المتصفين بهذه الفضائل بالمغفرة والأجر العظيم فقال - تعالى - : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } .
ورد فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه الإِمام أحمد والنسائى وغيرهما ، عن أم سلمة - رضى الله عنها - قالت : قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت : فلم يرعنى منه صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلا نداؤه على المنبر ، وهو يتلو هذه الآية : { إِنَّ المسلمين والمسلمات . . . } .
وأخرج الترمذى وغيره عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى كل شئ إلا للرجال ، وما أرى النساء يذكرون بشئ ، فنزلت هذه الآية .
وأخرجه ابن جرير عن قتادة قال : دخل نساء على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فقلن : قد ذكركن الله - تعالى - فى القرآن ، وما يذكرنا بشئ أما فينا ما يذكر ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
والمعنى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } والإِسلام : الانقياد لأمر الله - تعالى - وإسلام الوجه له - سبحانه - وتفويض الأمر إليه وحده .
{ والمؤمنين والمؤمنات } والإِيمان : هو التصديق القلبى ، والإِذعان الباطنى ، لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
{ والقانتين والقانتات } والقنوت : هو المواظبة على فعل الطاعات عن رضا واختيار .
{ والصادقين والصادقات } والصدق : والصدق : هو النطف بما يطابق الواقع ، والبعد عن الكذب والقول الباطل . .
{ والصابرين والصابرات } والصبر : هو توطين النفس على احتمال المكاره والمشاق فى سبيل الحق ، وحبس النفس عن الشهوات .
{ والخاشعين والخاشعات } والخشوع : صفة تجعل القلب والجوارح فى حالة انقياد تام لله - تعالى - ومراقبة له ، واستشعار لجلاله وهيبته .
{ والمتصدقين والمتصدقات } والتصدق : تقديم الخير إلى الغير بإخلاص ، فدعا لحاجته ، وعملا على عونه ومساعدته .
{ والصائمين والصائمات } والصوم : هو تقرب إلى الله - تعالى - واستعلاء على مطالب الحياة ولذائذها ، من أجل التقرب إليه - سبحانه - بما يرضيه .
{ والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } وحفظ الفرج : كناية عن التعفف والتطهر والتصون عن أن يضع الإِنسان شهوته فى غير الموضع الذى أحله الله - تعالى - .
{ والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } وذكر الله - تعالى - يتمثل فى النطق بما يرضيه كقراءة القرآن الكريم ، والإِكثار من تسبيحه - عز وجل - وتحميده وتكبيره . .
وفى شهور النفس فى كل لحظة مراقبته - سبحانه - .
هؤلاء الذين اصتفوا بهذه الصفات من الرجال والنساء { أَعَدَّ الله } - تعالى - { لَهُم مَّغْفِرَةً } واسعة لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } لا يعلم مقداره إلا هو - عز وجل - .
وهكذا نجد القرآن الكريم يسوق الصفات الكريمة ، التى من شأن الرجل والمرأة إذا ما اتصفا بها ، أن يسعدا فى دنياهما وفى أخراهما ، وأن يسعد بهما المجتمع الذى يعيشان فيه . .
إنها صفات نظمت علاقة الإِنسان بربه ، وبنفسه ، وبغيره ، تنظيما حكيما ، يهدى الى الرشد ، ويوصل إلى الظفر والنجاح .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا{[23447]} عبد الرحمن بن شيبة ، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت{[23448]} : فلم يَرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر ، قالت ، وأنا أسَرّح شعري ، فلففت شعري ، ثم خرجت إلى حُجْرة من حُجَر بيتي ، فجعلت سمعي عند الجريد ، فإذا هو يقول عند المنبر : " يا أيها الناس ، إن الله يقول : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " إلى آخر الآية .
وهكذا رواه النسائي وابن جرير ، من حديث عبد الواحد بن زياد ، به مثله{[23449]} .
طريق أخرى عنها : قال النسائي أيضا : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سُوَيْد ، أخبرنا عبد الله بن شَريك ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء لا يذكرن ؟ فأنزل الله { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }{[23450]} .
وقد رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن أبي معاوية ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة : أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، حدثه عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23451]}
طريق أخرى : قال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يذكر الرجال ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية .
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب قال : حدثنا سَيَّار بن مظاهر العَنزي{[23452]} حدثنا أبو كُدَيْنة يحيى بن المهلَّب ، عن قابوس بن أبي ظِبْيَان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23453]} .
وحدثنا بشر{[23454]} حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد{[23455]} ؛ عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلن : قد ذَكَركُنّ الله في القرآن ، ولم نُذكَر بشيء ، أما فينا ما يذكر ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23456]} .
فقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } دليل على أن الإيمان غير الإسلام ، وهو أخص منه ، لقوله{[23457]} تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] . وفي الصحيحين : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . فيسلبه{[23458]} الإيمان ، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين ، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري .
[ وقوله ]{[23459]} : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } القنوت : هو الطاعة في سكون ، { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [ الروم : 26 ] ، { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ، { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] . فالإسلام بعده مرتبة{[23460]} يرتقي إليها ، ثم القنوت ناشئ عنهما .
{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } : هذا في الأقوال ، فإن الصدق خصلة محمودة ؛ ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجَرّب عليه كِذْبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام{[23461]} ، وهو علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، ومَنْ صدق نجا ، " عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة . وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار . ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " {[23462]} . والأحاديث فيه كثيرة جدا .
{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } : هذه سَجِيّة الأثبات ، وهي الصبر على المصائب ، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة ، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ، أي : أصعبه في أول وهلة ، ثم ما بعده أسهل منه ، وهو صدق السجية وثباتها .
{ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } الخشوع {[23463]} : السكون والطمأنينة ، والتؤدة والوقار والتواضع . والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته ، [ كما في الحديث ]{[23464]} : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } : الصدقة : هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء ، الذين لا كَسْبَ لهم ولا كاسب ، يعطون من فضول الأموال{[23465]} طاعة لله ، وإحسانا إلى خلقه ، وقد ثبت في الصحيحين : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " فذكر منهم : " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " {[23466]} . وفي الحديث الآخر : " والصدقة تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار " {[23467]} .
[ وفي الترمذي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء " .
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظر أشأم منه ، فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه . فاتقوا النار ولو بشق تمرة " .
وفي حديث أبي ذر أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال : " الإيمان بالله " . قلت : يا نبي الله ، مع الإيمان عمل ؟ قال : " ترضخ مما خوَّلك الله " ، أو " ترضخ مما رزقك الله " ؛ ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته : " يا معشر النساء تصدَّقْنَ ولو من حليكن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " . وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار ، وقال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ذكر لي أن الأعمال تتباهى ، فتقول الصدقة : أنا أفضلكم .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل البخيل والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، أو جنتان من حديد . قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ، فجعل المتصدق ، كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه ، حتى تغشى أنامله ، وتعفو أثره ، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت ، وأخذت كل حلقة مكانها . قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه . فلو رأيته يوسعها ولا يتسع . وقد قال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ التغابن : 16 ] فجود الرجل يحببه إلى أضداده ، وبخله يبغضه إلى أولاده . كما قيل :
وَيُظْهر عيبَ المرء في الناس بخلُه *** وتستره عنهم جميعا سخاؤه
تَغَطَّ بأثواب السخاء فإنني *** أرى كل عيب والسخاء غطاؤه ]{[23468]}
والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا ، له موضع بذاته .
{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } : في الحديث الذي رواه ابن ماجه : " والصوم زكاة البدن " أي : تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا .
قال{[23469]} سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر ، دخل في قوله : { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } .
ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب ، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَن للفرج ، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء " {[23470]} - ناسب أن يذكر بعده : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } أي : عن المحارم والمآثم إلا عن المباح ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [ المؤمنون : 5 - 7 ] .
وقوله : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن جابر ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغَرِّ أبي مسلم{[23471]} ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل ، فصليا ركعتين ، كتبا{[23472]} تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " .
وقد رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الأعمش ، [ عن علي بن الأقمر ]{[23473]} ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله{[23474]} .
وقال{[23475]} الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .
قال : قلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه " {[23476]} .
وقال{[23477]} الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة ، فأتى على جُمْدان فقال : " هذا جُمْدان ، سيروا فقد سبق المُفَرّدون " . قالوا : وما المُفَرّدون{[23478]} ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا{[23479]} " . ثم قال : " اللهم اغفر للمحلقين " . قالوا : والمقصرين ؟ قال : " اللهم ، اغفر للمحلقين " . قالوا : والمقصرين ؟ قال : " والمقصرين " .
تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم دون آخره{[23480]} .
وقال{[23481]} الإمام أحمد : حدثنا حُجَيْن بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن زياد بن أبي زياد - مولى عبد الله بن عَيَّاش{[23482]} بن أبي ربيعة - أنه بلغه عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " . وقال معاذ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " ذكر الله عز وجل " {[23483]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنيّ ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلا سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله ؟ فقال : " أكثرهم{[23484]} لله ذكرًا " . قال : فأي الصائمين أكثر أجرًا ؟ قال : " أكثرهم لله ذكرا " . ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثرهم لله ذكرا " . فقال أبو بكر لعمر ، رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل " {[23485]} .
وسنذكر بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } الآية [ الأحزاب : 41 ، 42 ] ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : هيأ لهم {[23486]} منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة .
وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } الآية روي عن أم سلمة أنها قالت : إن سبب هذه الآية أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء ولا يذكرنا ، فنزلت الآية في ذلك{[9512]} .
وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لهن : ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء بشيء فنزلت الآية في ذلك{[9513]} ، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ، فنزلت الآية في ذلك{[9514]} .
وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح ، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً وتنبيهاً على أنه عظم الإسلام ودعامته ، و «القانت » : العابد المطيع ، و «الصادق » معناه : فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله ، و «الصابر » : عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط ، و «الخاشع » : الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور ، و «المتصدق » : بالفرض والنفل ، وقيل هي في الفرض خاصة ، والأول أمدح ، و «الصائم » كذلك : في الفرض والنفل ، و «حفظ الفرج » هو : من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه ، وفي قوله : { الحافظات } حذف ضمير يدل عليه المتقدم والحافظاُتها ، وفي { الذاكرات } أيضاً مثله ، و «المغفرة » هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها ، و «الأجر العظيم » الجنة .
يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين } [ الأحزاب : 31 ] بعدَ قوله : { لستن كأحد من النساء } [ الأحزاب : 32 ] يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ : أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات ، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها .
ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
روى ابن جرير والواحدي عن قتادة : أن نساءً دخلْنَ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن : قد ذَكَرَكُنّ الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء ، ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية .
وروى النسائي وأحمد : أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى الترمذي والطبراني : « أن أم عُمارة الأنصارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى النساء يُذْكَرن بشيء » فنزلت هذه الآية .
وقال الواحدي : « قال مقاتل : بلغني أن أسماء بنت عُميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبي فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قيل : لا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار . قال : ومم ذلِك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بالخير كما يذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية » .
فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساءُ ، وأما ذِكْر الرجال فللإِشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصاً بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء ، فشريعة الإِسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُصّ على تخصيصه بأحد الصنفين ، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأَغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة ، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة .
وسُلك مسلك الإِطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك ، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية .
وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها . وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر بحرف { إنَّ } لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء .
والمراد ب { المسلمين والمسلمات } من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعاً . والإِسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصومُ رمضان وحج البيت ، ولا يعتبر إسلاماً إلا مع الإيمان . وذكرُ { المؤمنين والمؤمنات بعده للتنبيه على أن الإِيمان هو الأصل ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } في البقرة ( 132 ) .
والمراد { بالمؤمنين والمؤمنات } الذين آمنوا . والإِيمان : أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقَدر خيرِه وشره . وتقدم الكلام على الإِيمان في أوائل سورة البقرة .
و { والقانتين والقانتات } : أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته ، وتقدم آنفا { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ الأحزاب : 31 ] و { الصادقين والصادقات } من حصَل منهم صدق القول وهو ضد الكذب ، والصدق كله حسن ، والكذب لا خير فيه إلا لضرورة . وشمل ذلك الوفاءَ بما يُلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر ، وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك الذين صدقوا } في سورة البقرة ( 177 ) .
{ وبالصابرين والصابرات } : أهل الصبر والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة ، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين ، وتحمُّل المكاره في الذبّ عن الحوزة الإسلامية ، وتقدم مستوفى عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } آخر سورة آل عمران ( 200 ) .
و { بالخاشعين والخاشعات } : أهلُ الخشوع ، وهو الخضوع للَّه والخوفُ منه ، وهو يرجع إلى معنى الإِخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف ، ومطابقة ذلك لما يَظهر من آثاره على صاحبه . والمراد : الخشوع للَّه بالقلب والجوارح ، وتقدم في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } في سورة البقرة ( 45 ) .
و { بالمتصدقين والمتصدقات } : من يبذل الصدقة من ماله للفقراء ، وتقدم في قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } في سورة النساء ( 114 ) . وفائدة ذلك للأمة عظيمة .
وأما ( الصائمون والصائمات ) فظاهرٌ ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله ، إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقرباً إلى الله ، أي برهاناً على أن رضى الله عنه ألذُّ عنده من أشد اللذات ملازمة له .
وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية ، وهي في الرجل أشد ، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى { وحَصوراً } [ آل عمران : 39 ] وقال في مريم { والتي أحصنت فرجها } [ الأنبياء : 91 ] ، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة ، فالمراد : حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعاً ، وليس المراد : حفظها عن الاستعمال أصلاً وهو الرهبنة ، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى .
وأما ( الذاكرون والذاكرات ) فهو وصف صالح لأن يَكون من الذِّكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله : { فاذكروني أذكُرْكُم } [ البقرة : 152 ] وقوله في الحديث : « ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي » ومن الذُّكر بضمها كما تقدم آنفاً في قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] ، والذي في قوله : { ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] .
ومفعول و { الحافظات } محذوف دل عليه ما قبله من قوله : { والحافظين فروجهم } ، وكذلك مفعول و { الذاكرات } .
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها .
فالإِسلام : يجمع قواعد الدين الخمس المفروضةَ التي هي أعمال ، والإِيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإِسلام كلها ، قال تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] .
والقنوت : يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها ، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها ، وهو معنى التوبة ، فالقنوت هو تمام الطاعة ، فهو مساوٍ للتقوى . فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم .
والصدق : يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة ، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها . ومن الصدق صدق الأفعال .
والصبر : جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله ، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس .
والخشوع : الإخلاص بالقلب والظاهر ، وهو الانقياد وتجنب المعاصي ، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » . ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع ، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها .
والتصدق : يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق .
والصوم : عبادة عظيمة ، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله : { إن المسلمين والمسلمات } ويفي صوم النافلة ، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به . وفي الحديث " قال الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به " . وحفظ الفروج : أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه ، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها .
وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان :
أحدهما : ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته .
قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " ففي قوله : « وذكرهم اللَّه » إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى : { فاذكروني أذكرْكُم } [ البقرة : 152 ] وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم " وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم " . وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار .
والمحمل الثاني : الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ، وهو الذي في قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة والإِضرار بالناس في المعاملات . ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب { كثيراً } لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيراً فقد استغرق ذكره على المحملين جميعَ ما يُذكر الله عنده .
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها .
والمغفرة : عدم المؤاخذة بما فَرَط من الذنوب ، وقد تقدمت في قوله تعالى : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } في سورة الأعراف ( 23 ) . واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب : الفاءِ وثم ، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتاً لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات ، فإذا قلت : وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى : أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات . وفي الحديث : فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة ، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى : { والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً } [ الصافات : 1 3 ] فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد . ولهذا فحقّ جملة { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } أن تكون خبراً في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل : إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً ، وهكذا . والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل { أعد } قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر .
وأما صحة الإِخبار بفعل { أعد } عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو { مغفرة } فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعداً من الله بقوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [ الأنعام : 54 ] . وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى .
والوجه في تفسير ذلك عندي : أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة ، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملاً أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله : { أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب .
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة . وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب « الكشاف » فجعل معنى قوله : { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ، وجعل واو العطف بمعنى المعية ، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات ، وهذا تكلّف وصنع باليد ، وتبعه البيضاوي وكثير . ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة ، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل { والذاكرين الله والذاكرات } على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي ، فيكون الذكر القلبي شاملاً للتوبة كما في قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة ، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية ، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار ، منها قوله تعالى : { وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً } إلى قوله : { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } الآية في سورة الفرقان ( 63 ، 75 ) .