المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

38- والذي يسرق ، والتي تسرق ، اقطعوا أيديهما جزاء بما ارتكبا ، عقوبة لهما ، وزجراً وردعاً لغيرهما . وذلك الحكم لهما من الله ، والله غالب على أمره ، حكيم في تشريعه ، يضع لكل جريمة ما تستحق من عقاب رادع مانع من شيوعها .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

{ 38 - 40 } { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه . وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة .

وحد اليد عند الإطلاق من الكوع ، فإذا سرق قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم ، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه :

منها : الحرز ، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة . فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه .

ومنها : أنه لابد أن يكون المسروق نصابا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما ، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه .

ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها ، فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه ، وذلك أن يكون المال محرزا ، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية .

ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه ، فلما كان لابد من التقدير ، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب .

والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية ، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت . وقوله : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس .

{ نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عَزَّ وحكم فقطع السارق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

وبعد أن بين - سبحانه - عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله ، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين . بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال - تعالى :

{ والسارق والسارقة فاقطعوا . . . }

قال الجمل ما ملخصه : قوله - تعالى - { والسارق والسارقة } . . إلخ . شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى .

وقرأ الجمهور : والسارق بالرفع وفيها وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصرين - أن السارق مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة . أي : حكم السارق ، ويكون قوله { فاقطعوا } بيانا لذلك الحكم المقدر . فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود . ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبي ، والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية والثانية أمرية .

والثاني : وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة - أنه مبتدأ - أيضاً - والخبر الجملة الأمرية من قوله { فاقطعوا } وإنما دخلت الفاء في الخبر ، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها ، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا .

والمعنى : ( السارق ) أي : من الرجال ( السارقة ) أي : من النساء ( فاقطعوا ) أيديهما ، أي فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده . والأنثى إذا سرقت قطعت يدها .

والخطاب في قوله : ( فاقطعوا ) لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع - سبحانه - اليد فقال " أيديهما " ولم يقل يديهما بالتثنية ، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية .

وقوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت . أي : اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث ، وكسبهما السيء ، وخيانتهما القبيحة ، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما ( نكالا ) أي : عبرة وزجرا من الله - تعالى - لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة .

يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا : أي : صنع به صنيعا يحذر غيره .

والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك . وأصله من النكل - بالكسر - وهو القيد الشديد ، وحديدة اللجام ، لكونهما مانعين وجمعه انكال .

وسميت هذه العقوبة نكالا ، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ، وفضيحة لأمره .

وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : والله - تعالى - غالب على أمره ، حكيم في شرائعه وتكاليفه .

قال صاحب المنار ما ملخصه . وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع اسماء الله - تعالى - في الآيات بحسب المناسبة .

ومن ذلك ما نقل الأصمعي أنه قال : كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية فقلت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله . قال : أعد فأعدت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تنبهت فقلت : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : الآن أصبت فقلت له .

كيف عرفت ؟ يا هذا { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة ، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله - تعالى - يضع كل اسم موضعه من كتابه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ؛ أن ابن مسعود كان يقرؤها : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " . وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر . وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح . ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلا يقال له : " دويك " مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .

وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرًا ؛ لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا ، بل أخذوا بمجرد السرقة .

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن ، عن نَجْدَة الحَنَفِي قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أخاص أم عام ؟

فقال : بل عام .

وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم .

وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَعَن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . {[9796]} وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ ، فعند الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين . {[9797]}

قال مالك ، رحمه الله : وقطع عثمان ، رضي الله عنه ، في أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك . وهذا الأثر عن عثمان ، رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن : أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تُقَوم ، فَقُومَت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار ، فقطع عثمان يده . {[9798]}

قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع{[9799]} يشتهر ، ولم{[9800]} ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السُّكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية . وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم .

وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا . والحجة{[9801]} في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن عَمْرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق{[9802]} في ربع دينار فصاعدا " . {[9803]}

ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عَمْرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " . {[9804]}

قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة{[9805]} دراهم ، لا ينافي هذا ؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهمًا ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق .

ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم . وبه يقول عمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري ، رحمهم الله .

وذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي ، فمن سرق واحدًا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر ، وبحديث عائشة ، رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[9806]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " {[9807]} وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهمًا . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل{[9808]} لعائشة : ما ثمن المجَن ؟ قالت : ربع دينار . {[9809]}

فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .

وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزُفَر ، وكذا سفيان الثوري ، رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نُمَير وعبد الأعلى{[9810]} وعن{[9811]} محمد بن إسحاق ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . {[9812]}

ثم قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المِجَن " . وكان ثمن المجن عشرة دراهم . {[9813]}

قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات .

وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما ، يحكى هذا عن علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم النَّخَِعي ، وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى .

وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهمًا . وينقل هذا عن سعيد بن جبير ، رحمه الله .

وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يَسْرقُ البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة :

أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر ؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ .

والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .

والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .

وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :

يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ{[9814]}*** ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار

تَناقض ما لنا إلا السكوت له*** وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ{[9815]}

ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه{[9816]} الفقهاء فهرب منهم . وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي ، رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت . ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[9817]} { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالا مِنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه { حِكِيمٌ } أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره .


[9796]:صحيح البخاري برقم (6799) وصحيح مسلم برقم (1687).
[9797]:صحيح البخاري برقم (6797) وصحيح مسلم برقم (1686).
[9798]:الموطأ (2/832).
[9799]:في ر: "الصنع".
[9800]:في أ: "فلم".
[9801]:في ر: "أو الحجة".
[9802]:في ر: "يقطع السارق".
[9803]:صحيح البخاري برقم (6789) وصحيح مسلم برقم (1684).
[9804]:صحيح مسلم (1684).
[9805]:في أ: "بثلاثة".
[9806]:زيادة من أ.
[9807]:المسند (6/80).
[9808]:في أ: "فقيل".
[9809]:سنن النسائي (8/80).
[9810]:في أ: "بن عبد الأعلى" وهو خطأ.
[9811]:في أ: "حدثنا".
[9812]:المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/191) من طريق محمد بن إسحاق به.
[9813]:المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/190) من طريق محمد بن إسحاق به، والحديث مضطرب، اختلف فيه على محمد بن إسحاق - كما ترى - وروي من أوجه أخرى كثيرة
[9814]:في ر، أ: "فديت".
[9815]:رواهما الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/30).
[9816]:في أ: "فطلبه".
[9817]:زيادة من ر، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما ، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى : والذي سرق والتي سرقت ، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل . والسرقة : أخذ مال الغير في خفية ، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام " القطع في ربع دينار فصاعدا " وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح ، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهما ، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكم } اكتفاء بتثنية المضاف إليه ، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه . { جزاء بما كسبا نكالا من الله } منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا { والله عزيز حكيم } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

قرأ جمهور القراء «والسارقُ والسارقةُ » بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارقَ والسارقَةَ » بالنصب ، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم ، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله : { الزانية والزاني }{[4532]} وفي قول الله : { واللذان يأتيانها منكم }{[4533]} هو على معنى فيما فرض عليكم . والفاء في قوله تعالى : { فاقطعوا } ردت المستقل غير مستقل ، لأن قوله فيما«فرض عليكم السارق » جملة حقها وظاهرها الاستقلال ، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله : { فاقطعوا } فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل ، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين ، اختار أن يكون «والسارقُ والسارقةُ » رفعاً بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك ، زيداً فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده ، قال الزجاج وهذا القول هو المختار .

قال القاضي أبو محمد : أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم » ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسُّرَّق والسُّرَّقة » هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو .

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق » بغير ألف وافقت في الخط هذه ، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه ، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره ، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ، ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق ، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه ، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن ، منها الإخراج من حرز ، ومنه القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه ، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة ، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه ، فلفظ { السارق } في الآية عموم معناه الخصوص ، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور ، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القطع في ربع دينار فصاعداً »{[4534]} وقال مالك رحمه الله : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها ، روي هذا عن عمر ، وبه قال سليمان بن يسار وابن ابي ليلى وابن شبرمة ، ومنه قول أنس بن مالك : قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خسمة دراهم .

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري : لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم ، وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهم فما فوقه{[4535]} ، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال : تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية . وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس ، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع ، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياساً على المحارب ، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها ، وقوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولاً فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد ، فكأنه قال اقطعوا أَيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين . قال الزجاج عن بعض النحويين ، إنما جعل تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعاً كقوله : { صنعت قلوبكما }{[4536]} لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه . فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين .

قال القاضي أبو محمد : كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة .

واختلف العلماء في ترتيب القطع ، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل : تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس .

وروي عن عطاء بن أبي رباح : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بظاهر الآية ، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد . ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من الفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم . وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } نصبه على المصدر ، وقال الزجاج مفعول من أجله . وكذلك : { نكالاً من الله } والنكال العذاب ، والنكل القيد ، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الأعراب حكاية .


[4532]:- من قوله تعالى في الآية (2) من سورة (النور): {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}.
[4533]:- من قوله تعالى في الآية (16) من سورة (النساء): {والذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما}
[4534]:- أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا).
[4535]:- في بعض النسخ: "في درهمين فما فوقهما"، والصواب ما في النسخة التي اعتمدنا ما فيها لموافقته لما في القرطبي والبحر.
[4536]:- من قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} في الآية (4) من سورة (التحريم).