64- قل - يا أيها النبي : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم نذكرها على السواء ، وهي أن نخص الله بالعبادة ولا نجعل غيره شريكاً له فيها ، ولا يطيع بعضنا بعضاً وينقاد له في تحليل شيء أو تحريمه ، تاركاً حكم الله فيما أحلَّ وحرَّم ، فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الحقة فقولوا لهم : اشهدوا بأنا منقادون لأحكام الله ، مخلصون له الدين لا ندعو سواه .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
أي : قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } أي : هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون ، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون ، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر ، بل مشتركة بيننا وبينكم ، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال ، ثم فسرها بقوله { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله ، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق ، لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية ، فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك ، فإن أجابوا كانوا مثلكم ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فاشهدوهم أنكم مسلمون ، ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك وأنتم أهل العلم على الحقيقة ، كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين ، وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث طويتهم ، كما قال تعالى { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآية وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة الإيمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلامه ، إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه .
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه - فى بضع آيات متوالية - إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك المحاجة الباطلة فى شأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإلى الإقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق . .
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول : { قُلْ يا أهل . . . } .
أنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات فى هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يتوبوا إلى رشدهم ، وأن يخلصوا لله العبادة فقال { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } .
والسواء : العدل والنصفة ، أى قل يا محمد لأهل الكتاب : هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم .
أو السواء : مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة ، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق .
ثم بين - سبحانه - هذه الكلمة العادلة المستقيمة التى هى محل اتفاق بين الأنبياء فقال : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله ، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان .
{ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أى ولا نشرك معه أحدا فى العبادة والخضوع ، بأن نقول : فلان إله ، أو فلان ابن إله ، أو أن الله ثالث ثلاثة .
{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أى ولا يطيع بعضنا بعضا فى معصية الله . قال الآلوسى : ويؤيده ما أخرجه الترمذى وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم هو ذاك " قيل إلى هذا أشار - سبحانه - بقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله ، وعن أن يشرك معه فى الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك ، وعن أن يتخذ أحد من البشر فى مقام الرب - عز وجل - بأن يتبع فى تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه .
ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا مالج الجاحدون فى طغيانهم فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
أى فإن أعرض هؤلاء الكفاء عن دعوة الحق ، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم ، بل قولوا لهم : اشهدوا : بأنا مسملون مذعنون لكلمة الحق ، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل .
قال صاحب الكشاف وقوله { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم . وذلك كما يقول الغالب للمغلوب فى جدال وصراع أو غيرهما : اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لى بالغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعنا : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره " .
هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التى تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقى رصين ، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتبها في بعض رسائله التى أرسلها إلى الملكوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام - .
فقد جاء فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - ملك الروم - " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .
أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسليم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، { ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } إلخ الآية " .
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا . ثم وصفها بقوله : { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : عدل ونصف ، نستوي نحن وأنتم فيها . ثم فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } لا وَثَنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارًا ، ولا شيئًا{[5147]} بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . [ وقال تعالى ]{[5148]} { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . ثم قال : { وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقال ابن جُرَيْج : يعني : يطيع بعضنا بعضا في معصية الله . وقال عكرمة : يعني : يسجد بعضنا لبعض .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم .
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد ، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح ، كما هو مُصَرّح به في الحديث ، ولأنه لما قال{[5149]} هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه : والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :
" بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن{[5150]} تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين ، و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }{[5151]} .
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران ، وقال الزهري : هم أول من بَذَلَ الجزية . ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : " إلى بضع وثمانين آية " ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [ الكلام ]{[5152]} في كتابه إلى هرقل لم{[5153]} يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله :
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وفي قوله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
{ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل : { تَعَالَوْا } هلمّوا { إلى كَلِمَة سَوَاء } يعني إلى كلمة عدل { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } والكلمة العدل : هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا . وقوله : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا } يقول : ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له ، كما يسجد لربه . { فإنْ تَوَلّوْا } يقول : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها ، فلم يجيبوك إليها ، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك : اشهدوا بأنا مسلمون .
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى كلمة السواء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم ، قال : دعاهم إلى قول الله عزّ وجلّ : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية ، إلى قوله : { فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ } قال : فدعاهم إلى النّصَف ، وقطع عنهم الحجة¹ يعني وفد نجران .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الوفد من نصارى نجران فقال : { يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، قال : قال : يعني جل ثناؤه : { إنّ هَذا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } في عِيسَى على ما قد بيناه فيما مضى قال : { فأبَوْا } ، يعني الوفد من نجران ، فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . فقرأ حتى بلغ : { أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخَر .
وإنما قلنا : عنى بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ } : أهل الكتابين ، لأنهما جميعا من أهل الكتاب ، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ } بَعْضا دون بعض ، فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة بأولى منه ، بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوارة . وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر ، لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح ، فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به ، لأن إفراد العبادة لله وحده ، وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهيّ من خلق الله ، وأهل الكتاب يعمّ أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا .
وأما تأويل قوله : { تَعالَوْا } فإنه : أقبلوا وهلمّوا ، وإنما هو تفاعلوا من العلوّ ، فكأن القائل لصاحبه : تعالى إليّ ، فإنه تفاعل من العلوّ ، كما يقال : تدان مني من الدنوّ ، وتقاربْ مني من القرب . وقوله : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } فإنها الكلمة العدل ، و«السواء » : من نعت «الكلمة » .
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع سواء في الإعراب لكلمة ، وهو اسم لا صفة ، فقال بعض نحويي البصرة : جرّ سواء لأنها من صفة الكلمة : وهي العدل ، وأراد مستوية . قال : ولو أراد استواء كان النصب ، وإن شاء أن يجعلها على الاستواء ويجرّ جاز ، ويجعله من صفة الكلمة مثل الخلق ، لأن الخلق هو المخلوق ، والخلق قد يكون صفة واسما ، ويجعل الاستواء مثل المستوى ، قال عزّ وجلّ : { الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ سَوَاء العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ } لأن السواء للآخر وهو اسم ليس بصفة ، فيجري على الأول وذلك إذا أراد به الاستواء ، فإن أراد به مستويا جاز أن يجري على الأول ، والرفع في ذا المعنى جيد ، لأنها لا تغيّر عن حالها ، ولا تثنى ، ولا تجمع ، ولا تؤنث ، فأشبهت الأسماء التي هي مثل عدل ورضا وجنب ، وما أشبه ذلك . وقال : { أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَوَاءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ } فالسواء للمحيا والممات بهذا المبتدإ . وإن شئت أجريته على الأوّل وجعلته صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأوّل فجرت عليه ، وذلك إذا جعلته في معنى مستوي ، والرفع وجه الكلام كما فسرت لك .
وقال بعض نحويي الكوفة : «سواء » مصدر وضع موضع الفعل ، يعني موضع متساوية ومتساو ، فمرّة يأتي عن الفعل ، ومرّة على المصدر ، وقد يقال في سواء بمعنى عدل : سِوًى وسُوًى ، كما قال جلّ ثناؤه : { مَكانا سُوًى } و«سِوًى » يراد به عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم » .
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم } بأن السواء : هو العدل ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } : عدل بيننا وبينكم { ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ } . . . الاَية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا } بمثله .
وقال آخرون : هو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال أبو العالية : كلمة السواء : لا إلَه إلاّ الله .
وأما قوله : { ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ } فإنّ «أنْ » في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله ، وقد بينا معنى العبادة في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا } فإنّ اتخاذ بعضهم بعضا ، هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال جل ثناؤه : { اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلها وَاحِدا } . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } يقول : لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، ويقال : إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يُصَلّوا لهم .
وقال آخرون : اتخاذ بعضهم بعضا أربابا : سجود بعضهم لبعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } قال : سجود بعضهم لبعض .
وأما قوله : { فَإنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ } فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم أيها المؤمنون لهم : اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له ، وأنه الإلَه الذي لا شريك له مسلمون ، يعني خاضعون لله به متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا ، وقد بينا معنى الإسلام فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته .
واختلف المفسرون من المراد بقوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا } فقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وقاله الربيع وابن جريج ، وقال : محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت الآية في وفد نجران ، وقاله السدي ، وقال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء » والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران ، لكن لفظ { أهل الكتاب } يعمهم وسواهم من النصارى واليهود ، فدعى النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية ، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم ، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة ، وقرأ جمهور الناس «إلى كَلِمة » بفتح الكاف وكسر اللام ، وروى أبو السمال : «كَلْمة » بفتح الكاف وسكون اللام ، وروي عنه أنه قرأ «كِلْمة » بكسر الكاف وسكون اللام ، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد ، كبد بكسر الكاف وسكون الباء ، و «الكلمة » هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها ، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله { ألا نعبد } الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة ، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد ، وقال أبو العالية : «الكلمة السواء » ، لا إله إلا الله .
قال الفقيه الإمام : وقوله : { سواء } نعت للكلمة ، قال قتادة والربيع وغيرهما : معناه إلى كلمة عدل ، فهذا معنى «السواء » ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم » ، كما فسر قتادة والربيع ، وقال بعض المفسرين : معناه إلى كلمة قصد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قريب في المعنى من الأول ، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها ، والذي أقوله في لفظة { سواء } انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق{[3223]} لا يتفاضل الناس فيه ، ف { سواء } على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه .
والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، وعلى هذا الحد جاءت لفظة { سواء } في قوله تعالى : { فانبذ إليهم على سواء }{[3224]} على بعض التأويلات ، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك ، لكنت قد دعوته إلى السواء ، الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل{[3225]} ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب برحمته .
وقوله { ألا نعبد } يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى ، إلى { ألا نعبد } ، فذلك على البدل من { كلمة } ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى ، هي { ألا نعبد } وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع { نعبد } إكثار منهم فاختصرته ، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب ، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية ، وعبادتهم لهم على ذلك ، كعزير وعيسى ابن مريم ، وبهذا فسر عكرمة ، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ، ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً ، وبهذا فسر ابن جريج ، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان{[3226]} نبيه عليه السلام ، وقوله تعالى : { فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون } أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون .