{ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم . { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي : لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ، ويتبين بفلتات ألسنتهم ، فإن الألسن مغارف القلوب ، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر { وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } فيجازيكم عليها .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته فقال : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } .
والمراد بالإِرادة هنا : التعريف والعلم الذى يقوم مقام الرؤية بالبصر ، كما فى قولهم : سأريك يا فلان ماأصنع بك . أى : سأعلمك بذلك .
والفاء فى قوله : { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } لترتيب المعرفة على الإِرادة ، والمراد بسيماهم : علاماتهم . يقال : سوم فلان فرسه تسويما ، إذا جعل له علامة يتميز بها .
وكررت اللام فى قوله : { فَلَعَرَفْتَهُم } للتأكيد .
ولحن القول : أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة ، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإِبهام ، يقال : لَحْنتُ لفلان ألْحَن لَحْنا ، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره .
قال الجمل : واللحن يقال على معنيين ، أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك - ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه فى غزوة الأحزاب : " وإن وجدتموهم - أى : بنى قريظة - على الغدر فالحنوا لى الحنا أعرفه " .
والثانى : صرف الكلام من الإِعراب إلى الخطأ - أى : من النطق السليم إلى النطق الخطأ - .
ويقال من الأول : لحنَتْ - بفتح الحاء - ألحن فأنا لاحن ، ويقال من الثانى : لَحِن - بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما - فهو لحن .
والمعنى : ولو نشاء إعلامك وتعريفك - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شئ { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أى : بعلاماتهم الخاصة بهم ، والتى يتميزون بها عن غيرهم .
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } - أيضا - { فِي لَحْنِ القول } أى : ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عن الأساليب المعروفة فى الكلام ، حيث يتخاطبون فيما بينهم بمخاطبات لا يقصدون ظهرها ، وإنما يقصدون أشياء أخرى فيها الإِساءة إليك وإلى أتباعك .
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } يقول - تعالى - : ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا ، ولكن لم يفعل سبحانه - ذلك فى جميع المنافقين ، سترا منه على خلقه .
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } أى : فيما يبدون من كلامهم الدالة على مقاصدهم . كما عثمان - رضى الله عنه - : ما أسر أحد قال سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه . وفى الحديث : " ما اسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها " .
وعن أبى مسعود عقبة بن عمرو قال : " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن منكم منافقين ، فمن سميت فليقم . ثم قال : قم فلان ، قم يا فلان - حتى سمى ستة وثلاثين رجلا - ثم قال : إن فيكم - أو منكم فاتقوا الله " " .
وقوله - سبحانه - : { والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } ببان لعلمه الشامل - سبحانه - وتهديد لم يجترح السيئات ، أى : والله - تالى - يعمل أعمالكم علما تاما كاملا ، وسيجازيكم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب .
وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللمسلمين ، الذين يعيشون بينهم متخفين ؛ يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون :
ولو نشاء لأريناكهم ، فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول ، والله يعلم أعمالكم . ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم . .
ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ) . . أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم ، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه [ وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم ] ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم ، وإمالتهم للقول عن استقامته ، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) . .
ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها : ( والله يعلم أعمالكم ) . . فلا تخفى عليه منها خافية . .
ثم وعد من الله بالابتلاء . . ابتلاء الأمة الإسلامية كلها ، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح
أخبارهم معروفة ، ولا يقع الالتباس في الصفوف ، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين ولا أمر الضعاف والجزعين :
{ وَلَوْ نَشَآءُ لأريناكهم فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } .
كان مرض قلوبهم خفياً لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان ، فذكر الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحداً واحداً فيعرف ذواتهم بعلاماتهم .
والسّيمَى بالقصر : العَلامة الملازمة ، أصله : وِسْمَى بوزن فِعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء ، وهو بكسر أوله . فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سِوْمَى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وتقدم عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة البقرة ( 273 ) .
والمعنى : لأريناكَ أشخاصهم فعرفتهم ، أو لذكرنَا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند . ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عرفه بالمنافقين أو ببعضهم ، ولكن إذا صح هذا فَإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام ، ويحتمل أن الله قال هذا إكراماً لرسوله ولم يطلعه عليهم .
واللام في { لأريناكهم } لام جواب { لو } التي تزاد فيه غالباً . واللام في { فلعرفتهم } تأكيد لِلام { لأريناكهم } لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإراءة .
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } .
هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم { لو نشاء لأريناكهم } من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم . والمعنى : فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله ، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله ، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز .
واللام في { ولتعرفنهم } لام القسم المحذوف .
ولحن القول : الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يُراد أن يفهمه دون أن يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية قال القتَّال الكِلائي :
ولقد وَحيت لكم لكيما تفهموا *** ولَحنتُ لحناً ليس بالمرتاب
كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم .
تذييل ، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم ، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم ، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفاً { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم } [ محمد : 29 ] .
واجتلاب المضارع في قوله : { يعلم } للدلالة على أن علمه بذلك مستمر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء المنافقين حتى تعرفهم وقوله:"فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ" يقول: فلتعرفنهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم، وظاهر أفعالهم، ثم إن الله تعالى ذكره عرّفه إياهم. وقوله: "وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنٍ القَوْلِ "يقول: ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم ونحوه... قال: قال ابن زيد، في قوله: فِي لَحْنِ القَوْلِ قال قولهم: واللّهُ يَعْلَمُ أعمالَكُمْ لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته، والمخالف ذلك، وهو مجازي جميعكم عليها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي لو نشاء لجعلنا لهم أعلاما في الوجه والقول لتعرفهم، ولكن لم يجعل لهم، ولكن جعل معرفتهم بأعمال؛ يعملون فيظهر نفاقهم بذلك، والله أعلم، كقوله: {ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا} [البقرة: 204] وقوله في آية أخرى: {وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] وقوله [في آية أخرى]: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى ولا يُنفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] وقوله في آية أخرى: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} [التوبة: 45] ونحو ذلك من الآيات مما يظهر نفاقهم وخلافهم بالأعمال التي كانوا يعملون. فدلّت هذه الآيات على أنه كان لا يعرفهم بالسّيماء والنّطق والقول والأجسام، وإنما يعرفهم بأفعال كانوا يفعلونها، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} فيه وجهان: أحدهما: في كذب القول...الثاني: في فحوى كلامهم، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب...
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم} فيه وجهان:
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولو نشاء لأريناكهم} مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب {لحن القول} وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة. والسيما: العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم...
وقوله تعالى: {والله يعلم أعمالكم} مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر...
{فلتعرفنهم}... التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة، يقال عرفته ولم يعرف وفهمته ولم يفهم فقال هاهنا {فلعرفتهم} يعني عرفناهم تعريفا تعرفهم به، إشارة إلى قوة التعريف،... {في لحن القول}...
في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره، وهذا يحتمل أمرين أيضا والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم، وأما قوله {بسيماهم} فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى: {ولو نشاء لمسخناهم}... {والله يعلم أعمالكم} وعد للمؤمنين، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق، فإن المنافق كان له قول بلا عمل، والمؤمن كان له عمل ولا يقول به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو} ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو {نشاء} أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده...
{لأريناكهم} أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم {فلعرفتهم} أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك {بسيماهم} أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم- في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه...
{ولتعرفنهم} أي بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم {في لحن القول} أي الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه و- مذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك...
فالله يعلم أقولكم: {والله} أي مما له من صفات الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها، علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم).. أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه [وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم، ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم، وإمالتهم للقول عن استقامته، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم: (ولتعرفنهم في لحن القول).. ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها: (والله يعلم أعمالكم).. فلا تخفى عليه منها خافية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: لأريناكَ أشخاصهم فعرفتهم، أو لذكرنَا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند...
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول}. هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم {لو نشاء لأريناكهم} من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم. والمعنى: فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز...
ولحن القول: الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يُراد أن يفهمه دون أن يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية... كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. {والله يَعْلَمُ أعمالكم}. تذييل، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفاً {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} [محمد: 29]. واجتلاب المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على أن علمه بذلك مستمر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف المنافقين جيداً، من خلال علاماتهم، بعد نزول هذه الآية... والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعياً الله له: (ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره). لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصّةً في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف. واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمة، وخاصة عند الاضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة ويفضحوها...