272- ليس عليك - يا محمد - هداية هؤلاء الضالين أو حملهم على الخير ، وإنما عليك البلاغ ، والله يهدي من يشاء ، وما تبذلونه من معونة لغيركم ففائدته عائدة عليكم ، والله مثيبكم عليه ، وهذا إذا كنتم لا تقصدون بالإنفاق إلا رضاء الله ، وأي خير تنفقونه على هذا الوجه يعود إليكم ، ويصلكم ثوابه كاملا دون أن ينالكم ظلم .
{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق ، وإنما عليك البلاغ المبين ، والهداية بيد الله تعالى ، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد ، فلهذا قال : { وما تنفقوا من خير } أي : قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر { فلأنفسكم } أي : نفعه راجع إليكم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى ، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يوم القيامة تستوفون أجوركم { وأنتم لا تظلمون } أي : تنقصون من أعمالكم شيئا ولا مثقال ذرة ، كما لا يزاد في سيئاتكم .
ثم ختمت السورة حديثها عن النفقة والمنفقين ببيان حسن عاقبة من يبذل ماله في سبيل الله ، وبيان صفات بعض المستحقين للصدقة ، وببيان أن هداية البشرإنما هي بيد الله- تعالى - وحده ، فقال - تعالى - :
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن . . . }
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 )
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } هذا الكلام متصل بذكر الصدقات ، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين . روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما أكثر فقراء المسلمين على من ليس من دين الإِسلام . وروى عن ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير كانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية بسبب أولئك . ثم قال : قال علماؤنا : هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع ، وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم " .
والمعنى : ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في دينك . ولكن الله - تعالى - يهدي من يشاء هداينه إلى نور الإِيمان ، وطريق الحق . وما دام الأمر كذلك فعليك وعلى أتباعك أن تعاملوا غيركم بما يوجبه عليكم إيمانكم من سماحة في الخلق ، وعطف على المحتاجين حتى ولو كانوا من المخالفين لكم في الدين .
وعلى هذا المعنى الذي يؤيده سبب النزول يكون الضمير في قوله : { هُدَاهُمْ } يعود على غير المسلمين .
ومن المفسرين من يرى أن الضمير في قوله : { هُدَاهُمْ } يعود إلى المسلمين المخاطبين في الآيات السابقة ، فيكون المعنى : لا يجب عليك أيها الرسول الكريم أن تجعل المسلمين جميعاً مهديين إلى الإِتيان بما أمروا به ومنتهين عما نهوا عنه من ترك المن والأذى والرياء في صدقتهم ، ولكن الله وحده هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى الاستجابة لتوجيهات هذا الدين الحنيف .
قال الآلوسي : وعلى هذا الرأي تكون الجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال . . ثم قال : " والذي يستدعيه سبب النزول رجوع ضمير { هُدَاهُمْ } إلى الكفار ، وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط . . . "
ثم حض - سبحانه - المؤمنين على الإِنفاق في وجوه الخير فقال : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } أي : ما تقدمونه من مال في وجوه البر - أيها المؤمنون - فإن نفعه سيعود عليكم بالسعادة في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة ، فكونوا أسخياء في الإِحسان إلى الفقراء ، وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي { يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } و " ما " شرطية جازمة لتنفقوا ، وهي منتصبة به على المفعولية ، و " من " للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لفعل الشرط والتقدير : أي شيء تنفقوا كائنا من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيرها .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله } يحتمل وجوها :
الأول : أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإِنفاق عليهم .
الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهى أي : ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله .
الثالث : أن قوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ } أي ولا تكونوا منفقين مستحقين الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله . وفي ذكر الوجه تشريف عظيم لأنك إذا قلت : فعلت هذا الشيء لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ ، وأيضاً فإن قولك : فعلت هذا الفعل لوجهه يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : أن ما تنفقونه من خير - أيها المؤمنون ستعود عليكم ثماره ومنافعه في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنكم بسبب هذا الانفاق تزكو أموالكم ، وتحسن سيرتكم بين الناس ، وأما في الآخرة فإنكم تنالون من خالقكم ورازقكم أجزل الثواب ، وأفضل الدرجات .
وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تنقصون شيئاً مما وعدكم الله به على نفقتكم في سبيله .
قال الجمل : وهاتان الجملتان أي قوله - تعالى - { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } تأكيد للجملة الشرطية الأولى وهي قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في { إِلَيْكُمْ } فالعامل فيها { يُوَفَّ } وهي تشبه الحال المؤكدة لأن معناها مفهوم من قوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } لأنهم إذا وفقوا حقوقهم لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب أخبرهم فيها أنه لا يقع لهم ظلم فيندرج فيه توفية أجورهم بسبب إنفاقهم في طاعة الله - تعالى - اندراجاً أولياً .
هذا ، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة يراها من أجمع الآيات التي وردت في الحض على بذل المال في وجوه الخير ، فقدر كرر فيها فعل { تُنْفِقُواْ } ثلاث مرات لمزيد الاهتمام بمدلوله ، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإِنفاق والثواب ، وجاءت كل جملة منها مستقلة ببعض الأحكام لكي يسهل حفظها وتأملها فتجري على الألسنة مجرى الأمثال وتتناقلها الأمم والأجيال .
ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير ، خص - سبحانه - بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولى الناس بالعون والمساعدة ، ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجتهم .
ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول [ ص ] لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة ، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده ، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه :
( ليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء . وما تنفقوا من خير فلأنفسكم . وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .
روى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي [ ص ] أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية : ليس عليك هداهم . . إلى آخرها . . فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . .
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله - ولو كان هو رسول الله [ ص ] إنه من أمر الله وحده . فهذه القلوب من صنعه ؛ ولا يحكمها غيره ، ولا يصرفها سواه ، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله . وما على الرسول إلا البلاغ . فأما الهدى فهو بيد الله ، يعطيه من يشاء ، ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى ، ويسعى إليه . وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده ، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده . . ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين ، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ؛ ويعطف عليهم ، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي ، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد .
( ليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء ) . .
فلتفسح لهم صدرك ، ولتفض عليهم سماحتك ، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك . وأمرهم إلى الله . وجزاء المنفق عند الله .
ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها ، ويروضهم عليها . . إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده ؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب . إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله . يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله - سبحانه - يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة - ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة - دون نظر إلى عقيدتهم . ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال ، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله . وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام ؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام :
( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم ، وأنتم لا تظلمون ) . .
ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون :
( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) . .
إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . لا ينفق عن هوى ولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون ! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان ! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . خالصا متجردا لله . . ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ؛ ويطمئن لبركة الله في ماله ؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه ؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله . ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض . وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل !
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 )
روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم » ، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام( {[2667]} ) ، وذكر النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال : أعطني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء » ، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية ، { ليس عليك هداهم } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ، ثم نسخ الله ذلك بآية { إنما الصدقات }( {[2668]} ) [ التوبة : 60 ] وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافراً ، فنزلت الآية في ذلك ، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله : { ليس عليك هداهم } قال أبو محمد : وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار( {[2669]} ) إنما هي صدقة التطوع . وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر( {[2670]} ) ، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين . قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً ، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ، ولم يذكر خلافاً ، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود عندي( {[2671]} ) ، والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم ، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد في هذه الآية ، ثم أخبر تعالى أنه هو : { يهدي من يشاء } أي يرشده( {[2672]} ) ، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة ، ثم أخبر أن نفقة المرء تأجراً( {[2673]} ) إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت( {[2674]} ) ، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله ، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله ، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل ، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة ، ونصب قوله { ابتغاء } هو على المفعول من أجله ، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئاً ، فيكون ذلك أبخس ظلماً لهم ، وهذا هو بيان قوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }( {[2675]} ) والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ، نحو قوله تعالى : { خيراً مستقراً }( {[2676]} ) [ الفرقان : 24 ] وقوله تعالى : { مثقال ذرة خيراً يره }( {[2677]} ) [ الزلزلة : 7 ] إلى غير ذلك ، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة : كل خير في كتاب الله فهو المال .
استئناف معترض به بين قوله { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] وبين قوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } ، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس : منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمَنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعَدهم الشيطان الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء . وكان وجود هذه الفرق مما يَثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هُداهم ولكن عليه البلاغ . فالهُدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النَّبِيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة . فالضمير رَاجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنّه كان لأسماء ابنةِ أبي بكر أمٌّ كافرة وجَدٌّ كافر فأرادت أسماء عام عمرة القضية أن تواسيهما بمال ، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهَى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار ، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { ليس عليك هداهم } الآيات ، أي هدى الكفّار إلى الإسلام ، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة .
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب . فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئاً عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سببَ السبب لنزول هذه الآية .
والمعنى أنْ ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء ؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسّر للهُدى .
والخطاب في { ليس عليك هداهم } ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم . ويجوز أن يكون خطاباً لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك .
و ( على ) في قوله { عليك } للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب . والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء .
وتقديم الظرف وهو { عليك } على المسند إليه وهو { هُداهم } إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّناً لا غبار عليه نحو { لكم دينكم ولي ديني } [ الكافرون : 6 ] وقولِه : { لها ما كسبت عليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] ، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيداً للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار ؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها . فإذا دخل عليها النفي كان مقتضياً نفي النسبة المقيّدة ، أي نفي ذلك الانحصارِ ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد . لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] ، فقد مثل به في « الكشاف » عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] فقال : « قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا » ، وقال السيد في شرحه هنالك « عُدّ قصراً للموصوف على الصفة ، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور » . وقد أحلتُ عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] على هذه الآية هنا ، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيداً لفظياً بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو { لا فيها غول } يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة . وإلى هذا أشار السيّد في شرح « الكشاف » عند قوله { لا ريب فيه } إذ قال « وبالجملة يجعل حرف النفي جزءاً أو حرفاً من حروف المسند أو المسند إليه » . وعلى هذا بنى صاحب « الكشاف » فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله : { لا ريب فيه } كما قدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتاباً آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد .
فإذا تقرر هذا فقوله : { ليس عليك هداهم } إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني . فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري :
ما فيه من عيب سوى أنّه *** يوم النَّدى قِسمته ضيزى
بنفي كون هداهم حقاً على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضاً إلى الله فمن قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } . وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه .
وقوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة ، أعْني { من يشاء } ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه . والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
عطف على جملة { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] ؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها ، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يُكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها .
وقوله : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلممٍ وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتمَلين في الآية التي قبلها . ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلاّ ابتغاء وجه الله . وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة وما تنفقوا من خير يوف إليكم } .
وقوله : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه . وكُرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلاّ لابتغاء وجه الله .
وتقديم { وأنتم } على الخَبَر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم لا يُظلَمون ، وإنّما يَظْلمون أنفسهم .
وإنما جعلت هاته الأحكام جملاً مستقلاً بعضُها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيَّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريراً للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال ، وتتناقلها الأجيال .
وقد أخذ من الآيات الأخيرة على أحد التفسيرين جواز الصدقة على الكفّار ، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران . واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين ، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجراً .
فقال : « في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ » .
واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة أعني الزكاة لا تعطى للكفّار ، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أوَد المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة ، ففيه غنَى المسلمين ، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة . واختلفوا في صدقة الفطر ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر . ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشْبَه ، فإنّ العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقةَ شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدِّق لا حال المتصدَّق عليه . وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالاً منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوّع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة... عن شعبة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتصدّق على المشركين، فنزلت:"وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ" فتصدّق عليهم.
عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت: "لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ"، فرخص لهم.
عن قتادة، وذكر لنا أن رجالاً من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنتصدّق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن: "لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ".
"يُوَفّ إِلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ": هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمنّ عليه، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ، فدل أن هناك فضل هدى لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له...
ويحتمل قوله: {ليس عليك هداهم} أي حساب ترك اهتدائهم كقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} [الأنعام: 25]...
وفي قوله: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتدوا من الدين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما يقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدين. يقع من التعاون على ما اعتدوا من الدين؛ فبين، جل، وعلا، أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم وتكفير ما ارتكبتم.
ثم في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} فهو دليل لأصحابنا لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة. وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} يعني يوف عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة. وقوله تعالى: {وأنتم لا تظلمون} في حرمان الثواب والجزاء...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال الكلبي: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أُمّها قتيلة وجدّتها تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئاً حتّى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما...
وعن عمر بن عبد العزيز قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً من أهل الذمّة يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك نأخذ منك الجزية ما دمت شاباً ثم ضيّعناك اليوم، فأمر أن تجرى عليه قوته من بيت المال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب.
{ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} من مال {فَلأنفُسِكُمْ} فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم {وَمَا تُنفِقُونَ} وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله ولطلب ما عنده، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية، ثم أخبر تعالى أنه هو: {يهدي من يشاء} أي يرشده...
ثم أخبر أن نفقة المرء تأجراً إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت،
ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله}
وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل،
وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله {ابتغاء} هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئاً، فيكون ذلك أبخس ظلماً لهم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله: {يؤتي الحكمة من يشاء} الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين: من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال. فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين، تجوز الصدقة عليهم...
ومعنى توفيته: إجزال ثوابه. {وأنتم لا تظلمون} جملة حالية، العامل فيها يوفَّ. والمعنى: أنكم لا تنفقون شيئاً من ثواب إنفاقكم...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها؟ وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم، وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة، ولا يظلم منها مثقال ذرة. وصدر هذا الكلام بأن الله سبحانه هو الهادي الموفق لمعاملته. وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله صلى الله عليه وسلم هداهم، بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حث سبحانه وتعالى على وجوه الخير ورغب في لزوم الهدى وكان أكثرهم معرضين، لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه من الحب لتوفير المال والحفيظة على النفس، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليهم دائم القلق من أجلهم لعظيم رحمته لهم وشفقته عليهم، فكان يجد من تقاعدهم عما يدعوهم إليه من هذه الحالة العلية التي هي حكمة الله التي رأسها الإيمان بالله واشتراء الآخرة بكلية الدنيا وجداً شديداً، خفض سبحانه وتعالى عليه الأمر وخفف عليه الحال فقال: {ليس عليك} أي عندك {هداهم} حتى تكون قادراً عليه، فما عليك إلا البلاغ، وأما خلق الهداية لهم فليس عليك ولا تقدر عليه {ولكن الله} الذي لا كفوء له هو القادر على ذلك وحده فهو {يهدي من يشاء} فظهر من هذا أنه يتعين أن يكون عليك بمعنى عندك ومعك ونحو ذلك، لأن لكن للاستدراك وهو أن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وكلام أهل اللغة يساعد على ذلك...
ولما كان الكلام في النفقة مع المؤمنين المنفقين وفي سبيل الله وعبر عنها بالخير و كل ذلك إشارة إلى الإخلاص الحري بحال المؤمن فقال: {وما} أي والحال أنكم ما {تنفقون إلا ابتغاء} أي إرادة...
ولما كان تذكر الوجه لما له من الشرف أدعى إلى الاجتهاد في تشريف العمل بإحسانه وإخلاصه قال: {وجه الله} أي الملك الأعظم من سد خلة فقير أو صلة رحم مسلم أو كافر تجوز الصدقة عليه لا لأنفسكم ولا غيرها بل تخلصاً من إمساك المال بأداء الأمانة فيه إلى عباد الله لأنهم عباده، هذا هو الذي يدعو إليه الإيمان فلا يظن لمؤمن أن يفعل غيره وذلك يقتضي البعد جداً عن الأذى والرياء وكل نقيصة والملابسة لكل ما يوجب القبول من الكمال الحسي والمعنوي...
ولما كان الإيقان بالوفا مرغباً في الإحسان ومبعداً من الإساءة والامتنان خوفاً من جزاء الملك الديان قال {وما تنفقوا من خير} أي على أي وجه كان وبأي وصف كان التصدق والمتصدق عليه {يوف} أي يبالغ في وفائه بالتضعيف واصلاً {إليكم وأنتم لا تظلمون} أي لا يقع عليكم ظلم في ترك شيء مما أنفقتموه ولا في نقص مما وعدتموه من التضعيف إن أحسنتم والمماثلة إن أسأتم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولكن الله يهدي من يشاء} بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدي إلى الاعتقاد الجازم الذي يثمر العمل. وأما الباعث في الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه سبحانه في قوله: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} الخ. قالوا معنى هذا أن نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم. وهكذا صرح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة. وقال الأستاذ الإمام هنا: أي لأن نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة. وسيأتي أنه بجعله خاصا بالدنيا، ومعنى كونه خيرا في الدنيا أنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم، ثم يسري شرهم إلى غيرهم وربما صار فسادا عاما بسوء القدوة، فيذهب بالأمن والراحة من الأمة...
وبعد أن ذكر الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله: {وما تنفقوا من خير} الخ أي وإنكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقة لقرب الله ورضوانه لا يضيع عليكم ما تنفقونه بل توفونه لا تظلمون منه شيئا ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة. والكلام على هذا التفسير أشد التئاما وأحسن نظاما، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان وقوله: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} جملة حالية قيد في الشرطية الأولى.
وللإنفاق على هذا فائدتان أولاهما وهي المقصودة بالذات، تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه. والأخرى الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين... وابتغاء وجه الله بالعمل أن يعمل له دون سواه تقربا إليه وإرضاء له لذاته لا للتشوف إلى شيء آخر، كأن المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط. ولا يفهم هذا حق فهمه إلا من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك، ذلك أن منهم من يعمل للملك خوفا من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه. ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل، فهو لا يكفر في غيره...
ولك أن تقول: إن معنى ابتغاء وجه الله تعالى هو طلب إقباله ومحبته للعامل قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم} [يوسف: 9] فمعنى خلو وجهه لهم أن لا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبته لهم مشارك. ولبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله تعالى، وهو أن لكل شيء وجهين: وجها إلى هذا العالم الحادث، وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له لأن جميع المحدثات عرضة للزوال، ووجها إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله تعالى. فمعنى ابتغاء وجه الله بالإنفاق على هذا المنزع أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة، وهي إنما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول [ص] لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه... إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله -ولو كان هو رسول الله [ص] إنه من أمر الله وحده. فهذه القلوب من صنعه؛ ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله. وما على الرسول إلا البلاغ. فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم- سبحانه -أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه. وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده.. ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم؛ ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد. {ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء}.. فلتفسح لهم صدرك، ولتفض عليهم سماحتك، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك. وأمرهم إلى الله. وجزاء المنفق عند الله. ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروضهم عليها.. إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب. إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله. يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من... توجيه الله- سبحانه -يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة- ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة -دون نظر إلى عقيدتهم. ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله. وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام:... {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله}.. إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه. إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله. لا ينفق عن هوى ولا عن غرض. لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله. خالصا متجردا لله.. ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله. ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض. وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى أنْ ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسّر للهُدى. والخطاب في {ليس عليك هداهم} ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطاباً لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك.
و (على) في قوله {عليك} للاستعلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب. والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وقوله: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه.
واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة أعني الزكاة لا تعطى للكفّار، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أوَد المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة، ففيه غنَى المسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة. واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر. ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشْبَه، فإنّ العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقةَ شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدِّق لا حال المتصدَّق عليه. وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالاً منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان المسلمون الأولون قلة في أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار، فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين أولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة، فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه...
وإن هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام، فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام، فقد قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة 208) وقال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} (الأنفال 61)... و عليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن. و بهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشتري به قمحا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم مازالوا مشركين...
و إنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين. وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية، فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم، وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وغني وسارق فأتى، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها،ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله،ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته" {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم}... وخيريتها ثابتة من ثلاث نواح:
الناحية الأولى: أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس، وهذا ما ذكره سبحانه بقوله: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوي صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها، فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبا، وافترست كل ما في طريقها، وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} لأنه حماية لها. فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرا، ولذا قال: [من خير] ف "من "الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفي كل خير يعود على النفس.
و الناحية الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر، ذلك لأنه لا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية، فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة. و قوله تعالى: {ابتغاء وجه الله} لا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة {وجه الله} تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه، وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطى كافرا عاصيا.
ولقد قال بعض الصوفية في معنى {ابتغاء وجه الله} أي طلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهي ناحية الله تعالى، ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين: وجها يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسي، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى...
أما الناحية الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها، والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفي الآخرة، أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع...
كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف: أنتم المستحقون لذلك؛ لأنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم، ولو جعلتم الله في بالكم لما حدث ذلك منهم أبداً. {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أهذه الآية تزكية لعمل المؤمنين، أم خبر أريد به الأمر؟ إنها الاثنان معا، فهي تعني أنفقوا ابتغاء وجه الله. {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} أنتم لا تظلمون من الخلق، ولا تظلمون من الخالق، أما من الخلق فقد استبرأتم دينكم وعرضكم حين أدّيتم بعض حقوق الله في أموالكم، فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما يقول، وأما عند الله فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهنا تلتفت الآية إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتخفف عنه بعض الحالات السلبية التي قد تطوف في خاطره وهو يشاهد بعض أوضاع المؤمنين من حوله، إذ ينحرفون عن الخط الذي يأمرهم به وينهاهم عنه من شؤون الإنفاق، فقد كان يريد من المؤمنين أن يرتفعوا إلى مستوى إيمانهم في الانضباط والسير على هدى الله في جميع أمورهم. فأراد الله أن يضع له القضية في مكانها الطبيعي، من أن دور النبي هو أن يفتح لهم أبواب الهدى، ويهيئ لهم أجواء الفلاح، وتنتهي مهمته عند استنفاد كل الأساليب في ذلك. وتبقى للأسباب الأخرى الخارجة عن إرادة رسول الله واختياره، نتائجها السلبية والإيجابية في ما تقتضيه من حالات الهدى والضلال... وهذا هو مدلول نسبة هدايتهم إلى الله، باعتبار ارتباط الأسباب العادية للأشياء بخالقها ومسبّبها، ما يوحي أن هذه النسبة لا تمنع نسبتها إلى العباد من حيث إنهم السبب المباشر للأشياء.
ثم تلتفت الآية إلى المؤمنين لتدلهم على طريق الهدى وتدعوهم إلى سلوكه، وتوحي إليهم بالفكرة التي ترجع فوائد العمل للعامل من دون أن يرجع إلى الله منها شيء، وتهيب بهم أن يبتغوا وجه الله في إنفاقهم إذا أنفقوا لأن ذلك هو الذي يجعل منه معنى يتصل بالله ويرتبط بالآخرة، وهو الذي يستحق العبد من خلاله العوض من ربّه في الدنيا والآخرة من دون ظلم ولا حيف ولا نقصان...
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} في إلزامهم القسري بطريقةٍ غير عادية بالاستقامة على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي في الإنفاق وغيره بالسير على خط الإخلاص وعدم المنّ على الفقراء في العطية والابتعاد عن التثاقل والتلكّؤ في دائرة مسؤولياتهم العامة والخاصة، فإن دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذ من خلالها الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي، لأن المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية، وبما يمنحه من ألطافه الخاصة لبعض عباده الذين يريد أن يقرّبهم إلى دينه من خلال حكمته ورحمته التي يختص بها من يشاء. وبذلك تكون المهمّة النبوية في الهداية مهمّة تشريعية، بينما تكون الخصائص التكوينية للهداية لله سبحانه بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي ضوء ذلك، كان نفي الهداية عن مسؤولية النبي تتصل بالهداية الفعلية الوجودية وإثباتها لله في هذا الجانب، لتكون المسؤولية النبوية منحصرة في تهيئة الوسائل المتنوعة في نطاق القدرة البشرية التي يقنع فيها الإنسان إنساناً ليهديه إلى الإيمان بما يريد له الإيمان به.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} لأنكم أنتم الذين تحصلون على نتائجه في الدنيا والآخرة، وليس لله من ذلك شيء، لأنه الغني عنكم وعن كل عباده {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} فهو الذي ينبغي أن يتوجه الناس إليه في صدقاتهم وفي كل أعمالهم، لأنه هو الذي يملك المصير كله والثواب كله، فله الأمر، فلا بد للعباد من اتباع مواقع رضوانه للحصول عليه {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في وجوه البر {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره كاملاً غير منقوص {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فالله لا يظلم أيّ عبد من عباده حقاً من حقوقه التي يستحقها من خلال ما جعله له من ذلك في وعده له بالثواب على العمل الصالح، ولا ينقص منه شيئاً...