{ 16 ْ } { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ }
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ْ } من دون ابتلاء وامتحان ، وأمر بما يبين به الصادق والكاذب .
{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ْ } أي : علما يظهر مما في القوة إلى الخارج ، ليترتب عليه الثواب والعقاب ، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله : لإعلاء كلمته { وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ْ } أي : وليا من الكافرين ، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء .
فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم ، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه ، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين .
{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ } أي : يعلم ما يصير منكم ويصدر ، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه ، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض ، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ . . . } .
و " أم " هنا للاستفهام الانكارى . وحسب - كما يقول الراغب - مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله ، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع ، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك . ويقارب ذلك الظن ، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر .
والواو في قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } حالية ، و { لَمَّا } للنفى مع توقع الحصول ، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبين والازهار والتمييز .
وقوله : { وَلِيجَةً } أى ، بطانة ومداخلة . من الولوج في الشئ أى الدخول فيه .
يقال : ولج يلج ولوجا إذا دخل . وكل شئ أدخلته في شئ ولم يكن منه فهو وليجة .
والمراد بالوليجة هنا : البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرارهم المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم .
قال ابن جرير : قوله : { وَلِيجَةً } هو الشئ يدخل في غيره . يقال منه : ولج فلان في كذا يجله فهو وليجة . وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين ، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم .
والمعنى : أحسبتم - أيها المؤمنون - أن تتركوا دون أن تؤمنوا بقتال المشركين ، والحال أن الله - تعالى - لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائاكم . . ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص ؟
لا . أيها المؤمنون ، إن كنتم حسبم ذلك فهو حسبان باطل ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره ، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد والتمحيص .
قال ابن كثير : والحاصل أنه - تعالى - لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن عصيه ، وهو - تعالى - العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، فيعم الشئ قبل كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه .
وقوله تعالى . { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } بيان لشمول علمه - سبحانه لجميع شئون خلقه .
أى : والله - تعالى - خبير بجميع أعمالكم ، مطلع على نياتكم ، فأخلصوا له العمل والطاعة ، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه .
وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هما قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين ، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم ، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة - أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم . . . ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم ، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة ، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة .
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف ، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة ، مرهوبة الجانب ، عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة ، إلا وعدا واحدا : هو الجنة . ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا : هو الصبر . . فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب ، آتاها الله النصر ؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة ، وأن تنبذ عهود المشركين كافة ؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا . . لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا ، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة ، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب ، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير ، وإعلان المفاصلة للجميع ، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة ، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين ، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ، والله خبير بما تعملون ) .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة ، وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة ، وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة ، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة ، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة ، ومن مصلحة العقيدة ، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج ، وتعرف المداخل ، فيمتاز المكافحون المخلصون ، ويكشف المداورون الملتوون ، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته ، وإن كان الله يعلمهم من قبل :
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف ، وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } أيها المؤمنون أن نترككم مهملين ، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ؟ ولهذا قال : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : بطانة ودخيلة{[13287]} بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله ، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا *** أريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : { [ الم ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } {[13288]} [ العنكبوت : 1 - 3 ] وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ]
وقال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ]
والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة ، وهو اختبار{[13289]} عبيده : من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؟ فيعلم الشيء قبل كونه ، ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه .
{ أم حسبتم } خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال ، وقيل للمنافقين و{ أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان . { أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم ، نفى العلم وأراد نفي المعلوم لمبالغة فإن كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه . { ولم يتخذوا } عطف على { جاهدوا } داخل في الصلة . { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم . وما في { لما } من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع . { والله خبير بما تعملون } يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : { ولما يعلم الله } .
{ أم } منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر .
والكلام بعد { أم } المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً ، فقوله : { حسبتم } في قوة ( أحسبتم ) والاستفهام المقدّر إنكاري .
والخطاب للمسلمين ، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم ، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام .
وحسبتم : ظننتم . ومصدر حسب ، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء .
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه ، أي : أن يترككم الله ، فحُذف فاعل الترك لظهوره .
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق : من حال أو مجرور ، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه ، كقوله تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] ومثل قول عنترة :
وقول كبشة بنت معد يكرب ، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن :
وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم
وحذف متعلِّق { تتركوا } في الآية : لدلالة السَياق عليه ، أي أن تتركوا دون جهاد ، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة .
والمعنى : كيف تحسبون أن تتركوا ، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله .
وجملة { ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلخ في موضع الحال من ضمير { تتركوا } أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد ، وحصول تثاقل من تثاقلوا ، وحصول ترك الجهاد من التاركين .
و { لمّا } حرف للنفي ، وهي أخت ( لم ) . وقد تقدّم بيانها ، والفرق بينها وبين ( لم ) عند قوله تعالى : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] وقوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } في سورة آل عمران } ( 142 ) .
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا : علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم ، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة ، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع ، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } في سورة آل عمران ( 142 ) .
و ( الوليجة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يُولجها ، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير وليجة } في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها .
و { من دون الله } متعلّق ب { وليجة } في موضع الحال المبيّنة .
و { من } ابتدائية ، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين .
وجملة { والله خبير بما تعملون } تذييل لإنكار ذلك الحسبان ، أي : لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله:"قاتِلوُهُمْ يُعْذّبْهُمُ اللّهُ بأيْديكُمْ..." الآية، حاضّا على جهادهم: أم حسبتم أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها وبغير اختبار يختبركم به، فيعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه. "وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا "يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله، من المضيعين أمر الله في ذلك المفرّطين. "ولَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُون اللّهِ وَلا رَسُولِهِ" يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله، ولا من دون المؤمنين "وَلِيجَةً" هو الشيء يدخل في آخر غيره... وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوّهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم. "وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" يقول: والله ذو خبرة بما تعملون من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياء وبطانة بعد ما قد نهاكم عنه، لا يخفى ذلك عليه ولا غيره من أعمالكم، والله مجازيكم على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا... عن السديّ:"... وَلِيجَةَ" يتولجها من الولاية للمشركين... عن الربيع: "وَلِيجَةً" قال: دَخَلاً...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال؛ جعل لله -تعالى- القتال مع الكفرة -واللَّه أعلم- وأمر به لمعنيين أحدهما: تطهيرًا للأرض من الكفر؛ كقوله -تعالى -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). والثاني: امتحانًا للمنافقين؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة، وصدق من أظهره حقيقة؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا في الدنيا؛ لتسلم لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه؛ كقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) خوفًا وإشفاقًا على أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية، هذا وصف المنافق، وأما المؤمن المحقق للإيمان، المخلص للإسلام: فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله، وإن كان فيه تلف نفسه؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق، ولكن على الوجوه كلها، والأحوال جميعًا، عبادته تكون لله، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى، ولا كذلك المنافق. وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام.
ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم، فلا تحسبوا ذلك.
والثاني: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي: لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال.
أحد التأويلين يخرج على النهي، والثاني على الإخبار عما حسبوا، وعما عندهم...
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)...
وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها من الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج.
وقال البعض: الوليجة أصلها من الدخول؛ كقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يقال أيضًا: فلان وليجة فلان، أي: خاصته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: الخيانة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: ما يلجأ إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة؛ وبعضه قريب من بعض.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). هو على الوعيد خرج.
معناه: أم حسبتم أن تُتركوا ولم تجاهدوا؛ لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم، فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم. وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ ولا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} يقتضي لزوم اتّباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع. ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة، وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة، فإن كان المعنى هذا فقد دلّ على النهي عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} [آل عمران: 118].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال الجبائي: اتخاذ الوليجة من دون الله ودون رسوله هو النفاق. نهوا أن يكونوا منافقين، وهو قول الحسن، فانه قال: الوليجة هي الكفر والنفاق وفي الآية دلالة على انه لا يجوز أن يتخذ من الفساق وليجة، لأن في ذلك تأليفا بالفسق يجري مجرى الدعاء إليه مع أن الواجب معاداة الفساق والبراءة منهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والذي طالبهم به من حيث الأمر: صِدْقُ المجاهدةِ في الله، وتَرْكُ الركونِ إلى غير الله، والتباعدُ عن مساكَنَةِ أعداءِ الله، ثِقةً بالله، واكتفاءً بالله، وتبرِّياً من غير الله. وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجةً فالمعنى فيه: ألا يُفْشُوا في الكفارِ أسرارَ المؤمنين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} وكقوله {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عندما فرض القتال...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
"وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ" أي: ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم؛ وقد كان يعلم ذلك غيبا، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل.
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب...
المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين: الأول: أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه المعلوم، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده... والثاني: قوله: {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصا بل يكون منافقا، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط، بل الغرض أن يؤتى به انقيادا لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلا.
ثم قال: {والله خبير بما تعملون} أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر، وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال: ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير -لما أرشد إليه تقاعدهم عن القتال وإدخال "أم "المرشد إلى أن مدخوله وسط الكلام فإن الابتداء له الألف وحدها: وهل حسبتم أنه تعالى لا يعلم ذلك أو لا يقدر على نصركم؟ بنى عليه قوله موبخاً لمن تثاقل عن ذلك بنوع تثاقل: {أم حسبتم} أي لنقص في العقل أنه يبني الأمر فيه على غير الحكمة، وذلك هو المراد بقوله: {أن تتركوا} أي قارين على ما أنتم عليه من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن من المنافق {ولما} عبر بها لدلالتها- مع استغراق الزمان الماضي -على أن يتبين ما بعدها متوقع كائن {يعلم الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {الذين جاهدوا منكم} أي علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل.
ولما كان المعنى: جاهدوا مخلصين، ترجمه وبسطه بقوله {ولم} أي ولما يعلم الذين لم {يتخذوا} ويجوز أن يكون حالاً، ودل على تراخي الرتب عن مكانته سبحانه بقوله: {من دون الله} أي الذي لا يعدل عنه ويرغب في غيره من له أدنى بصيرة- كما دل عليه الافتعال -لأنه المنفرد بالكمال، وأكد النفي بتكرير {لا} فقال: {ولا رسوله} أي الذي هو خلاصة خلقه {ولا المؤمنين} أي الذين اصطفاهم من عباده {وليجة} أي بطانة تباطنونها وتسكنون إليها فتلج أسراركم إليها وأسرارها إليكم... يقول: لم يتخذوا دخيلاً من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون، يظهرون الإيمان للذين آمنوا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
والحاصل أنه لا يكون الترك بدون علم الأمرين حاصلين، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، فالمعنى: ولما يكن مجاهدون مخلصون.
ولما كان ظاهر ذلك مظنة أن يتمسك به من لم يرسخ قدمه في المعارف، ختم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {خبير بما تعملون} أي سواء برز إلى الخارج أو لا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية خاتمة هذا السياق في الحث على جهاد المشركين لتطهير جزيرة العرب من الشرك وطغيانه وخرافاته، وإصرار الراسخين فيه على عداوة الإسلام والمسلمين، وقد كان الكلام في الآيات التي قبلها في بيان حال المشركين في مواصلة ما بدأوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم، وقتال هؤلاء لهم إلى حد الفصل التام بين الفريقين على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق في هذا القتال التي لو عرضت على المنصفين من أهل كل ملة لحكموا للمؤمنين عليهم، وقد بسطت في الآيات السابقة بالتفصيل المسهب الذي ليس وراءه غاية، وإنني لا أذكر أنه يوجد في الكتاب العزيز سياق فيه من الإسهاب والتأكيد والتكرار مثل ما في هذا السياق، ولم أر فيما اطلعت عليه من التفاسير من سبق إلى ما وفقني تعالى له من بيان نكتته، والإفصاح بحكمته، والتكرار الذي يقتضيه المقام أعظم أركان البلاغة؛ لأنه أعظم أسباب إقناع العقل والتأثير في الوجدان. وأما الكلام في هذه الآية فهو في بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان، والهوادة في حقوق الإسلام...
والخطاب لمجموع المسلمين الذين كانوا لا يخلون من بقية من المنافقين ومرضى القلوب الذين يثبطون عن القتال. والمعنى على هذا: هل جاهدتم المشركين حق الجهاد وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدأوكم أول مرة، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن في دينكم وصد الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهر الإسلام؟ وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من الأعذار الملفقة الباطلة، وما كان من خبث الذين خرجوا معكم إليها، وتثبيطهم إياكم عن القتال، وغير ذلك مما فضحتهم به هذه السورة؟
{أم حسبتم أن تتركوا} وشأنكم بغير امتحان ولا افتتان.
{ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} أي والحال أنه لم يظهر فيكم إلى الآن ما يمتاز به أولئك الذين جاهدوا منكم في الله حق جهاده من المنافقين ومرضى القلوب.
{ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} أي ولم يتخذوا لأنفسهم دخيلة وبطانة من المشركين الذين يحادون الله تعالى بالشرك به، ويحادون رسوله بالصد عن دعوته، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله، يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة، ويقفونهم على سياسة الأمة، كما فعل ويفعل المنافقون ومرضى القلوب فيكم. فهو بمعنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] عبر عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين الصادقين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان بعدم علمه بهم؛ لأن عدم علمه تعالى بالشيء برهان على عدم ثبوته أو وجوده، ولا يوجد هؤلاء ممتازين ظاهرين إلا بما مضت به السنة في الاجتماع من الابتلاء بالشدائد، كما قال في أول سورة العنكبوت {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:1-3].
وقد ثبت في الصحيح أن حاطب بن أبي بلتعة -وهو من أهل بدر- قد تودد إلى مشركي مكة، وكتب إليهم كتابا يخبرهم به بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم بعد نقضهم لعهده الذي كان في الحديبية، ليكافئوه على ذلك بعدم الاعتداء على ما كان له لديهم في مكة من أهل ومال، فما القول في المنافقين، ومن دون مثل حاطب من ضعفاء المؤمنين؟ إن ما فشا بين المسلمين في ذلك العهد من كراهة قتال المشركين لم يكن كل سببه ما تقدم من كراهة بعض المؤمنين للقتال بنية صحيحة، بل كان من أسبابه دسائس يلقيها المشركون إلى أصدقاء لهم أو أولي قربى من المنافقين وضعفاء الإيمان، حتى قال بعض المفسرين: إن هذه الآية خطاب لهم من دون المؤمنين الصادقين، والصواب أن الخطاب لجماعة المسلمين كما تقدم، ذكر به الغافل، وأنذر به المنافق، فبين لهم أن منهم من يتخذ وليجة من أعدائهم، وأنه لا بد من التمييز بين الخبيث والطيب منهم، بما دل عليه النفي ب (لما) الدال على توقع المنفي لقرب وقوعه، وأكد هذا الإخبار والإنذار بقوله:
{والله خبير بما تعملون} أي عالم بخفايا ما تعملون الآن وبعد الآن، محيط بدقائقه، وقد مضت سنته بأن يكون التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحص ما في القلوب، ويطهر السرائر، ويزكي الأنفس بقدر استعداد معدنها، وأنه هو الذي يبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء معدنها، والواو في الجملة حالية، أي أحسبتم وظننتم أن تتركوا قبل أن يتم هذا التمحيص والتمييز بين الذين صدقوا في جهادهم والكاذبين من فاسدي السريرة، ومتخذي الوليجة، وهو إلى الآن لم يعلم هؤلاء المجاهدين منكم؛ لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وإن ما لا يعلمه الله هو الذي لا وجود له، لأنه لا يخفى عليه شيء من أمركم، وكيف ذلك والله خبير بما تعملون.
فهذه الآية بمعنى آيات أول سورة العنكبوت وآيتي البقرة وآل عمران اللتين أشرنا إليهما وإلى ما تقدم من تفسيرهما، فليرجع إليه من شاء الوقوف على ما فيهما من العلم والعبرة، والموازنة بين مسلمي عصرنا ومسلمي العصر الأول. وقد ثبت بالاختبار أن للحروب على ما يكون فيها من العدوان والشرور فوائد عظيمة في ترقية الأمم ورفع شأنها بقدر استعدادها، وناهيك بالحرب إذا التزم فيها ما قرره الإسلام من إحقاق الحق وإبطال الباطل، ومراعاة قواعد العدل والفضيلة، كاحترام العهود، وتحريم الخيانة، وتقدير الضرورة فيها بقدرها، ووضع كل من الشدة والرحمة في موضعها، كما تقدم بيانه في تفسير آيات هذه السورة وآيات سورة الأنفال قبلها، وكذا آيات القتال من سورتي البقرة وآل عمران، وكذلك كان المسلمون الأولون في جميع حروبهم على تفاوت بين سلفهم وخلفهم، وقد شهد لهم بذلك علماء التاريخ والاجتماع من الإفرنج المنصفين على قلتهم حتى قال حكيم كبير منهم: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ. وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب.
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة، إلا وعدا واحدا: هو الجنة. ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا: هو الصبر.. فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب، آتاها الله النصر؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به. ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته. وإن هي إلا ستار لقدرته..
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة، وأن تنبذ عهود المشركين كافة؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا.. لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة.. لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير، وإعلان المفاصلة للجميع، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، والله خبير بما تعملون).
لقد كان في المجتمع المسلم -كما هو الحال عادة- فئة تجيد المداورة، وتنفذ من الأسوار. وتتقن استخدام الأعذار. وتدور من خلف الجماعة، وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات. فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار.
وإنه لمن مصلحة الجماعة، ومن مصلحة العقيدة، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج، وتعرف المداخل، فيمتاز المكافحون المخلصون، ويكشف المداورون الملتوون، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته، وإن كان الله يعلمهم من قبل:
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم. وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف، وتتمحص القلوب. ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والخطاب للمسلمين، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام.
وحسبتم: ظننتم. ومصدر حسب، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء.
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه، أي: أن يترككم الله، فحُذف فاعل الترك لظهوره.
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق: من حال أو مجرور، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه، كقوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2]...
وحذف متعلِّق {تتركوا} في الآية: لدلالة السَياق عليه، أي أن تتركوا دون جهاد، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة.
والمعنى: كيف تحسبون أن تتركوا، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله.
وجملة {ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم...} في موضع الحال من ضمير {تتركوا} أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد، وحصول تثاقل من تثاقلوا، وحصول ترك الجهاد من التاركين.
و {لمّا} حرف للنفي، وهي أخت (لم). وقد تقدّم بيانها، والفرق بينها وبين (لم) عند قوله تعالى: {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [البقرة: 214] وقوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} في سورة آل عمران} (142).
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا: علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} في سورة آل عمران (142).
و (الوليجة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي الدخيلة، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها، فكأنّه يُولجها، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر، والمراد بها هنا: ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين، لأنّ تنكير وليجة} في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها.
و {من دون الله} متعلّق ب {وليجة} في موضع الحال المبيّنة.
و {من} ابتدائية، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين.
وجملة {والله خبير بما تعملون} تذييل لإنكار ذلك الحسبان، أي: لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... وإن الجهاد جهادان: جهاد بلقاء الأعداء، واشتجار السيوف، وجهاد آخر بتنقية الصفوف من الأعداء والدخول ومنع الولاية لغير المؤمنين، ولذلك عطف {الذين جاهدوا}، وهو وصف آخر بقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}...
... إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله. وساعة يقول الحق عز وجل في شيء كلمة {وَلَمَّا يَعْلِمَ} فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم، لا، فسبحانه يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر، حيث تُحمِّلُ الآية المسلمين مسؤولية ذات عبء كبير، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّاً بادعائكم الإِيمان فحسب، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإِيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصاً من أي نوع من أنواع النفاق.