4- ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما جعل زوجة أحدكم حين يقول لها : أنت علىَّ كظهر أمِّى أُمَّا له ، وما جعل الأولاد الذين تتبنوهم أبناء لكم يأخذون حكم الأبناء من النسب . ذلكم - أي جعْلِكُم الأدعياء أبناء - قول يصدر من أفواهكم لا حقيقة له ، فلا حكم يترتب عليه ، والله يقول الأمر الثابت المحقق ، ويرشدكم إليه ، وهو - وحده سبحانه - يهدى الناس إلى طريق الصواب .
{ 4 - 5 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
يعاتب تعالى [ عباده ]{[688]} عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا لا حقيقة له من الأقوال ، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا ، فإن ذلك القول منكم كذب وزور ، يترتب عليه منكرات من الشرع . وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء ، والإخبار بوقوع ووجود ، ما لم يجعله اللّه تعالى .
ولكن خص هذه الأشياء المذكورة ، لوقوعها ، وشدة الحاجة إلى بيانها ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } هذا لا يوجد ، فإياكم أن تقولوا عن أحد : إن له قلبين في جوفه ، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية .
{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } بأن يقول أحدكم لزوجته : " أنت عَليَّ كظهر أمي أو كأمي " فما جعلهن اللّه { أُمَّهَاتِكُمْ } أمك من ولدتك ، وصارت أعظم النساء عليك ، حرمة وتحريمًا ، وزوجتك أحل النساء لك ، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر ؟
هذا أمر لا يجوز ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }
ثم أبطل - سبحانه - بعض العادات التى كان متفشية فى المجتمع ، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإِسلام وآدابه ، فقال - تعالى - : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ . . . . الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت فى رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهرى ، كان حفاظا لما يسمع ، وكان يقول : لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ، ومعهم هذا الرجل ، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه فى يده والأخرى فى رجله - من شدة الهلع - ، فقال له أبو سفيان هو معلق إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما فى رجلى . فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده .
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم له قلبان ، لأنه ربما كان فى شئ فنزع فى غيره نزعه ثم عاد إلى شأنه الأول ، فأكذبهم الله بقوله : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .
ويرى بعضهم : أن هذه الجملة الكريمة ، مثل ضربه الله - تعالى - للمظاهر من امرأته ، والمتبنى ولد غيره ، تمهيدا لما بعده .
أى : كما أن الله - تعالى - لم يخلق للإِنسان قلبين فى جوفه ، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له فى وقت واحد ، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له فى زمن واحد .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : أى : ما جمع الله قلبين فى جوف ، ولا زوجية وأمومة فى امرأة ، ولا بنوة ودعوة فى رجل . . لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والزوجة ليست كذلك .
ولأن البنؤة أصالة فى النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير .
فإن قلت : أى فائدة فى ذكر الجوف ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة فى قوله - تعالى - : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } وذلك ما يصلح للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإِنكار .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه .
يقال . ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها ، إذا قال لها : أنت على كظهر أمى ، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه .
وقد جاء الكلام عن الظهار ، وعن حكمه ، وعن كفارته ، فى سورة المجادلة ، فى قوله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } إبطال لعادة أخرى كانت موجودة ، وهى عادة التبنى .
والأدعياء : جمع دعى . وهو الولد الذى يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره ، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ، ومنها حرمة زواج الأب بزوجه ابنه بالتبنى بعد طلاقها ، ومنها التوارث فيما بينهما .
قال ابن كثير : وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفى ، فإنها نزلت فى شأن زيد بن حارثة ، مولى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له زيد بن محمد . فأراد الله - تعالى - أن يقطع هذا الإِلحاق ، وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، كما قال فى أثناء السورة : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار ، ومن إجراء التبنى على ولد الغير ، وهو مبتدأ ، وما بعده خبر .
أى : ذلكم الذى تزعمونه فى تشبيه الزوجة بالأم فى التحريم ، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين ، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع ، ولا يسانده الحق .
قال ابن جرير : وقوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يقول - تعالى ذكره - هذا القول ، وهو قول الرجل لأمرأته : أنت على كظهر أمى ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، ولا يثبت بهذه الدعوة نسب الذى ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها : أنت على كظهر أمى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أى : والله - تعالى - يقول الحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو - سبحانه - دونه غير يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذى يوصل إلى الخير والصلاح . وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التى ألفتموها . والتى أبطلها الله - تعالى - بحكمته ، وابتعوا ما يأمركم به - سبحانه - .
ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية :
( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
إنه قلب واحد ، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه . ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه . ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم ، ويقوم به الأحداث والأشياء . وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى ، ولم يستقم على اتجاه .
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع . . فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب . إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام !
وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا ، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها ، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا . لا يملك أن يقول كلمة ، أو يتحرك حركة ، أو ينوي نية . أو يتصور تصورا ، غير محكوم في هذا كله بعقيدته - إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه - لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد ، يخضع لناموس واحد ، ويستمد من تصور واحد ، ويزن بميزان واحد .
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية . وفعلت كذا بصفتي الإسلامية ! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات . أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام ! إنه شخص واحد له قلب واحد ، تعمره عقيدة واحدة . وله تصور واحد للحياة ، وميزان واحد للقيم . وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه ، في كل حالة من حالاته على السواء .
وبهذا القلب الواحد يعيش فردا ، ويعيش في الأسرة ، ويعيش في الجماعة ، ويعيش في الدولة . ويعيش في العالم . ويعيش سرا وعلانية . ويعيش عاملا وصاحب عمل . ويعيش حاكما ومحكوما . ويعيش في السراء والضراء . . فلا تتبدل موازينه ، ولا تتبدل قيمه ، ولا تتبدل تصوراته . . ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
ومن ثم فهو منهج واحد ، وطريق واحد ، ووحي واحد ، واتجاه واحد . وهو استسلام لله وحده . فالقلب الواحد لا يعبد إلهين ، ولا يخدم سيدين ، ولا ينهج نهجين ، ولا يتجه اتجاهين . وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام !
وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني . ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم :
( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم . وكان الله غفورا رحيما ) .
كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي . أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي . ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غيره ، ولا هي زوجة فتحل له . وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها ، وسومها كل مشقة وعنت .
فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الإجتماعية في محيط الأسرة ؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال . . جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف ؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر . وكان مما شرعه هذه القاعدة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة ، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة ! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية .
وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من " سورة المجادلة " عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة ، فجاءت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تشكو تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني . حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " ما أراك إلا قد حرمت عليه " . فأعادت ذلك مرارا . فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير . الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا . وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة - من قبل أن يتماسا - ذلكم توعظون به . والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ؛ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله . وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم . . فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء - لا مؤبدا ولا طلاقا - كفارته عتق رقبة ، أو( صيام شهرين متتابعين أو( إطعام ستين مسكينا ) . وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى ، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها . ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية ، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت ، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها ، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي .
يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له ، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } . [ المجادلة : 3 ] .
وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } : هذا هو المقصود بالنفي ؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : " زيد بن محمد " فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كما قال في أثناء السورة : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ الأحزاب : 40 ] وقال هاهنا : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } : قال سعيد بن جبير { يَقُولُ الْحَقَّ } أي : العدل . وقال قتادة : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : الصراط المستقيم .
وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : " ذو القلبين " ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظِبْيَان - أن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى{[23174]} : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخَطَر خَطْرَة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }{[23175]} .
وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به . ثم قال : وهذا حديث حسن . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به . {[23176]}
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، في قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضُرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك{[23177]} .
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة . وهذا يوافق ما قدَّمناه من التفسير ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ } .
اختلف أهل التأويل في المراد من قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فقال بعضهم : عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق ، وصفوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين ، فنفى الله ذلك عن نبيه ، وكذّبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حفص بن نفيل ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه ، قال : قلنا لابن عباس : أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جَوْفِه ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فصلى ، فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : إن له قلبين ، قلبا معكم ، وقلبا معهم ، فأنزل الله : ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين في جَوْفِهِ .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين من دِهْيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : كان رجل من قريش يسمى من دهيه ذا القلبين ، فأنزل الله هذا في شأنه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين فِي جَوْفِهِ قال : إن رجلاً من بني فهر ، قال : إن في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد «وكذب » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال قتادة : كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذا القلبين ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .
قال قتادة : وكان الحسن يقول : كان رجل يقول لي : نفس تأمرني ، ونفس تنهاني ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : كان رجل يسمى ذا القلبين ، فنزلت ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه .
وقال آخرون : بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنّاه ، فضرب الله بذلك مثلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضرب له مثلاً يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك تكذيب من الله تعالى قول من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما ، على النحو الذي رُوي عن ابن عباس وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن يكون تكذيبا لمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبين من دهيه ، وأيّ الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة .
وقوله : وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أمّهاتِكُمْ يقول تعالى ذكره : ولم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ : أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قيلكم كذبا ، وألزمكم عقوبة لكم كفّارة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهاتِكُمْ : أي ما جعلها أمك فإذا ظاهر الرجل من امرأته ، فإن الله لم يجعلها أمه ، ولكن جعل فيها الكفّارة .
وقوله : وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ يقول : ولم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك ، وهو ابن غيرك ابنك بدعواك . وذُكر أن ذلك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنيه زيد بن حارثة . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : نزلت هذه الاَية في زيد بن حارثة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : كان زيد بن حارثة حين منّ الله ورسوله عليه ، يقال له : زيد بن محمد ، كان تبنّاه ، فقال الله : ما كانَ مُحَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال : وهو يذكر الأزواج والأخت ، فأخبره أن الأزواج لم تكن بالأمهات أمهاتكم ، ولا أدعياءكم أبناءكم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ وما جعل دعّيك ابنك ، يقول : إذا ادّعى رجل رجلاً وليس بابنه ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ . . . الاَية . وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : «من ادّعى إلى غَير أبِيهِ مُتَعَمّدا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنّةَ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر ، قال : ليس في الأدعياء زيد .
وقوله ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ يقول تعالى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له ، لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادّعيت بنوّته ، ولا تصير الزوجة أمّا بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي وَاللّهُ يقُولُ الحَقّ يقول : والله هو الصادق الذي يقول الحقّ ، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة للمولود ، أمّا إذا حكم بذلك وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ يقول تعالى ذكره : والله يبين لعباده سبيل الحقّ ، ويرشدهم لطريق الرشاد .
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد . { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل ، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين ، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن محمد ، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبني ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه . والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة ، وقرأ أبو عمرو " اللاي " بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله ، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده ، وأصل { تظاهرون } تتظاهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء . وقرأ ابن عامر { تظاهرون } بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم { تظاهرون } من ظاهر ، وقرئ " تظهرون " من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من الظهور . ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة أنت علي كظهر أمي ، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها ، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج ، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء ، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه . { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير . { قولكم بأفواهكم } لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي . { والله يقول الحق } ما له حقيقة عينية مطابقة له . { وهو يهدي السبيل } سبيل الحق .
اختلف الناس في السبب في قوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، فقال ابن عباس سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فنفاه الله تعالى عنه ، وقال ابن عباس أيضاً بل سببه أنه كان في قريش في بني فهر رجل فهم يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين ، قال الثعلبي وهو أبو معمر{[9446]} وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ، فلما وقعت هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت الآية بسببه ونفياً لدعواه ، وقيل إنه كان ابن خطل{[9447]} ، قال الزهراوي جاء هذا اللفظ على جهة المثل في زيد بن حارثة والتوطئة لقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ، أي كما ليس لأحد قلبان كذلك ليس دعيه ابنه .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن بعض العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك ، ومن هذا قول الكميت : [ الطويل ]
تذكر من أنا ومن أين شربه . . . يؤامر نفسيه كذي الثلة الإبل{[9448]}
والناس حتى الآن يقولون إذا وصفوا أفكارهم في شيء ما يقول لي أحد قلبي كذا ويقول الآخر كذا ، وكذا كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبني ابناً فأعلم الله تعالى أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا أيضاً طعن على المنافقين الذي تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما حله إيمان وإما حله كفر لأن درجة النفاق كأنها متوسطة يؤمن قلب ويكفر الآخر ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد ، وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئاً أو وهم يقول على جهة الاعتذار { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، أي إذا نسي قلبه الواحد يذكره الآخر ، وكذلك أعلم أن الزوجة لا تكون أماً وأن الدعي لم يجعله ابناً ، وقرأ نافع وابن كثير «اللاء » دون ياء ، وروي عن أبي عمرو وابن جبير «اللاي » بياء ساكنة بغير همز ، وقرأ ورش بياء ساكنة مكسورة من غير همز ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وطلحة والأعمش بهمزة مكسورة بعدها ياء ، وقرأ ابن عامر «تظّاهرون » بشد الظاء وألف ، وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة «تُظاهرون » بضم التاء وتخفيف الظاء ، وأنكرها أبو عمرو وقال : إنما هذا في المعاونة .
قال القاضي أبو محمد : وليس بمنكر ولفظة ظهار تقتضيه ، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم «تَظَاهرون » بفتح التاء والظاء مخففة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تظّهّرون » بشد الظاء والهاء دون ألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «تُظْهِرون » بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «تتظهرون » بتاءين ، وكانت العرب تطلق تقول أنت مني كظهر أمي فنزلت الآية وأنزل الله تعالى كفارة الظهار ، وتفسير الظهار وبيانه أثبتناه في سورة المجادلة ، وقوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية سببها أمر زيد حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد ، وذلك أنه كان عبداً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام معه مدة ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك قبل البعث- : «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء » ، فخيراه فاختار الرق مع محمد على حريته وقومه ، فقال محمد عليه السلام : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه » ، فرضي بذلك أبوه وعمه وانصرفا{[9449]} . وقوله تعالى : { بأفواهكم } تأكيد لبطلان القول ، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما هو قول فقط ، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا كثير ، و { يهدي } معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر ، وقرأ قتادة «يُهَدّي » بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، و { السبيل } هو سبيل الشرع والإيمان ، وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص يقفون «السبيلا » ويطرحونها في الوصل ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف وصلاً ووقفاً ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلاً ووقفاً ، وهذا كله في غير هذا الموضع{[9450]} ، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلاً ووقفاً لمكان ألف الوصل التي تلقى اللام .
{ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ فِى جَوْفِه }
استئناف ابتدائي ابتداءَ المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله ، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد ، فهذا مقدمة لِما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه مِما يوحَى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها ، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوَال المنافية للحقائق ، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق ، وهي التي تَرِينُ على القلوب بتلبيس الأشياء .
وذُكر ها هنا نوعان من الحقائق :
أحدهما : من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة ، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل ، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاماً لم يجعله في خلق غيرهم .
وثاني النوعين : من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء . وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أُشير إليه بقوله تعالى : { وما جَعَل أزواجكم اللاّء تَظَّهَّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق } ، أي : لا يقول الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل . والمقصود : التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادّعوها . وابتدىء من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شُبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال .
والإشارة بقوله { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ويقال : ابن أسد بن حبيب الجُمحي الفهري وكان رجلاً داهية قوي الحفظ أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدْعونه ذَا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل . وقد غرّه ذلك أو تغارر به فكان لشدة كفره يقول : « إن في جوفي قلبين أعمَل بكل واحد منهما عَملاً أفضل من عمل محمد » . وسمّوا بذي القلبين أيضاً عبد الله بن خطل التيمي ، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبراً يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعفُ عنه ، فنفت الآية زعمهم نفياً عاماً ، أي : ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل ، فوقوع { رجل } وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم ، ووقوع فعل { جعل } في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي .
ودخول { مِن } على { قلبين } للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان ، عن كل رجل من الناس ، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيّاً كان .
ولفظ { رجل } لا مفهوم له لأنه أُريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جرياً على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضاً أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب .
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي ، أي : ما خَلَق الله رجلاً بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيداً لإبطال ما تواضعوا عليه من جعْل أحدٍ ابناً لمن ليس هو بابنه ، ومِن جَعْل امرأة أمّاً لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل ، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعُون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة ، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق ، فإن البنوة والأمومة صفتان من أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف .
فأما قوله تعالى { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج ؛ ألا ترى ما جاء في الحديث : " أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر : يا رسول الله إنما أنا أخوك ، فقال رسول الله : أنت أخي وهي لي حلال " أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله « أنت أخي وهي لي حلال » .
والجوف : باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ .
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين ، وذلك مثل قوله : { ولكن تعمى القُلوبُ التي في الصُّدور } [ الحج : 46 ] ونحوه من القيود المعلومة ؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيراً بما هو معلوم وتجديداً لتصوره ، ومنه قوله تعالى : { وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } وقد تقدم في سورة الأنعام ( 38 ) .
{ وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظّهّرون مِنْهُنَّ أمَّهاتِكُم }
عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقاً لا رجعة فيه بحال يقول لها : « أنتِ عليّ كظهر أمي » هذه صيغته المعروفة عندهم ، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أُمّاً له ، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أُبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي ؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيداً لتشريع إبطال التبني تنظيراً بين هذه الأوهام إلاّ أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية .
و اللاَّء : اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع ( التي ) ، لأنه على غير قياس صِيغ الجمع ، وفيه لغات : اللاّءِ مكسور الهمزة أبداً بوزن الباببِ ، واللاّئي بوزن الداعي ، والاَّءِ بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء .
وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر { اللاءِ } بهمزة مكسورة غير مشبعة وهو لغة . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف { واللائِي } بياء بعد الهمزة بوزن الدّاعي ، وقرأه أبو عمرو والبزّي عن ابن كثير ويعقوب و { اللاّيْ } بياء ساكنة بعد الألف بدلاً عن الهمزة وهو بدل سماعي ، قيل : وهي لغة قريش . وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر . وروي ذلك عن أبي عمرو والبَزّي أيضاً .
وذِكر الظهر في قولهم : أنت عليّ كظهر أمي ، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها ، وذكر الظهر تخييلاً كما ذُكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف ، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة .
وقولهم : أنت عليَّ ، فيه مضافٌ محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير : غَشَيَانُك ، وكلمة « عليّ » تؤذن بمعنى التحريم ، أي : أنت حرام عليّ ، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي . ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف ( مِن ) الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها .
فلما قال الله تعالى { اللائي تُظّهّرون منهن } علم الناس أنه يعني قولهم : أنت عليّ كظهر أمي .
والمراد بالجعل المنفي في قوله { وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم } الجعل الخَلْقي أيضاً كالذي في قوله : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، أي : ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع ، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخَلْقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، قال تعالى : { إن أمهاتُهم إلا اللاّءِ ولدْنهم } [ المجادلة : 2 ] وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيداً لإبطال التبنّي بشبه أنّ كليهما ترتيب آثار ترتيباً مصنوعاً باليد غير مبني على جعل إلهي . وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافاً لما درَج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب « الإتقان » .
وقال السيوطي : في هذا الترتيب نظر . وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { تَظَّهَّرون } بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون ألف وتشديد الهاء مفتوحة . وقرأ حفص عن عاصم { تُظَاهِرون } بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف : { تَظَاهرون } بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء .
{ وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُم }
هذا هو المقصود الذي وُطِّىء بالآيتين قبله ، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه . وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها .
والقول في المراد من قوله : { ما جَعَل } كالقول في نظيره من قوله { وما جَعَل أزواجكم اللاّءِ تظهرون منهن أمهاتكم } . والمعنى : أنكم تنسبون الأدعياء أبناءً فتقولون للدعيّ : هو ابن فلان ، للذي تبناه ، وتجعلون له جميع ما للأبناء .
والأدعياء : جمع دَعِيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقاً من مادة الادّعاء ، والادّعاء : زعم الزاعم الشيء حقاً له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب ، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أباً له ؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق ، فالدعي لم يجعله الله ابناً لمن ادّعاه للعِلم بأنه ليس أباً له ، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابناً لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له . وجُمع على أفْعِلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى ، والأصح أن أفْعِلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول .
نزلت هذه الآية في إبطال التبني ، أي : إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقية من الإرث ، وتحريم القرابة ، وتحريم الصهر ، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنَّى أحكام البنوة كلها ، وكان من أشهر المتبنَيْنَ في عهد الجاهلية زيدُ بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عُمر بن الخطاب ، وسالم تبناه أبو حذيفة ، والمقدادُ بن عمرو تبناه الأسودُ بن عبد يغوث ، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابناً للذي تبنّاه .
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآيةُ في شأنه كان غريباً من بني كَلْب من وبَرة ، من أهل الشام ، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيداً فبقيا في حجر جدهما ، ثم جاء عماهما فطلبا من الجدّ كفالتهما فأعطاهما جبلة وبَقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيداً فأخذ جدّه يبحث عن مصيره ، وقال أبياتاً منها :
بكيت على زيد ولم أدر ما فعلْ *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
وأنه علم أن زيداً بمكة وأن الذين سَبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمناً ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ أشهد النبي قريشاً أن زيداً ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يُدعَى : زيد بن محمد ، وذلك قبل البعثة .
وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة .
{ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيل }
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعاً ، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها .
والإشارة إلى مذكور ضمناً من الكلام المتقدم ، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل ، ومن كون الزوجة المظاهَر منها أُمّاً لمن ظاهر منها ، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم . وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النِسَب الكلامية الصادقة النِسبَ الخارجية ، وإلاّ فلاَ جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه .
ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله { بأفواهكم } فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر { بأفواهكم } مع العلم به مشيراً إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان ، ونظير هذا قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] أي : لا تتجاوز ذلك الحد ، أي : لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر : { رب ارجعون لَعَلِّيَ أعملُ صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 100 ] ، فعلم من تقييده { بأفواهكم } أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحاً بقوله { والله يقول الحق } فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب . ولهذا عطفت عليه جملة { والله يقول الحق } لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله { ما جعل الله } الخ . فمعنى كونها أقوالاً : أن ناساً يقولون : جميل له قلبان ، وناساً يقولون لأزواجهم : أنت كظهر أمي ، وناساً يقولون للدعي : فلان ابن فلان ، يريدون مَن تبناه .
وانتصب { الحقَ } على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل { يقول . } تقديره : الكلام الحق ، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو { إنها كلمةٌ هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ، فالهاء المضاف إليها ( قائل ) عائدة إلى { كلمة } وهي مفعول أضيف إليها . وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب ، أي : هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم ، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام .
ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة ، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلاً ومجهلة . فالمعنى : وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل .
و { السبيل } : الطريق السابلة الواضحة ، أي : الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها . وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظاً ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيداً للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني ، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية ، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد .
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه .