{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } أي : لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض أي : لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم ، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين .
{ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي : ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال .
ثم بين - سبحانه - أن فرعون وقومه بعد ان غرقوا ، لم يحزن لهلاكهم أحد ، فقال : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } .
أى : أن هؤلاء المغرقين ، الذين كانوا ملء السمع والبصر ، وكانوا يذلون غيرهم ، وكانوا يملكون الجنات والعيون . . هؤلاء الطغاة ، لم يحزن لهلاكهم أحد من أهل السماوات أو أهل الأرض ، ولم يؤخر عذابهم لوقت آخر فى الدنيا أو فى الآخرة ، بل نزل بهم الغرق والدمار بدون تأخير أو تسويف .
فالمقصود من الآية الكريمة ببيان هوان منزلة هؤلاء المغرين ، وتفاهة شأنهم ، وعدم أسف أحد على غرقهم ، لأنهم كانوا ممقوتين من كل عاقل . .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : كان العرب إذا مات فيهم رجل خطير قالوا فى تعظيم مهكله : بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . .
قال جرير فى رثاء عمر بن العزيز :
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا . . . يا خير من حج بيت الله واعتمروا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له . . . وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس طالعة ليست بكاسفة . . . تبكى عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت ليلى بنت طريف الخارجية ، ترثى أخاها الوليد :
أيا شجر الخابور مالك مورقا . . . كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل ، مبالغة فى وجوب الجزع والبكاء عليه . .
وفى الآية تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض . يعنى فما بكى عليهم أهل السماء والأرض ، بل كانكوا بهلاكهم مسرورين . .
وقال الإِمام ابن كثير : قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } أى : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد فى أبواب السماء فتبكى على فقدهم ، ولا لهم بقاع فى الأرض عبدوا الله فيها ففقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا .
ثم ساق - رحمه الله - جملة من الأحاديث منها ما أخرجه ابن جرير " عن شريح بن عبيد الحضرمى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الإِسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، ألا لا غربة على مؤمن . ما مات مؤمن فى غربة غابت عنه فيها بواكيه . إلا بكت عليه السماء والأرض . ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية . ثم قال : إنهما لا يبكيان على كافر " .
ثم ماذا ? ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض : ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد ، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض ؛ ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما حل الميعاد :
( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) . .
وهو تعبير يلقي ظلال الهوان ، كما يلقي ظلال الجفاء . . فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء . ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء . وذهبوا ذهاب النمال ، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال ! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه ، وهو مؤمن بربه ، وهم به كافرون ! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه !
ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله . ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه ، مقطوعين عنه ، لا تربطهم به آصرة ، وقد قطعت آصرة الإيمان .
وقوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } أي : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم ؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم ، وعتوهم وعنادهم .
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني يزيد الرقاشي ، حدثني أنس بن مالك{[26216]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه{[26217]} عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } وذُكر أنهم لم يكونوا عملوا{[26218]} على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم . ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ، ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم{[26219]} .
ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي .
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن طلحة ، حدثني عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26220]} إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا . ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } ثم قال : " إنهما لا يبكيان على الكافر " {[26221]} .
وقال{[26222]} ابن أبى حاتم : حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا العلاء بن صالح ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل عليًّا رضي الله عنه : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إنه ليس [ من ] {[26223]} عبد إلا له مصلى في الأرض ، ومصعد عمله من السماء . وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ، ولا عمل يصعد في السماء ، ثم قرأ علي ، رضي الله عنه { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا طلق بن غَنَّام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن منهال ، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رجلٌ فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض {[26224]} .
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن{[26225]} ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[26226]} قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد .
وقال مجاهد أيضا : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا ، قال : فقلت له : أتبكي الأرض ؟ فقال : أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد ، كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟
وقال قتادة : كانوا أهون على الله من أن تبكي عليهم السماء والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد السلام بن عاصم ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا المستورد بن سابق ، عن عبيد المكتب ، عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال : ذاك مقامه حيث يصعد عمله . قال : وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت {[26227]} لا قال : تحمر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دمًا . وإن حسين بن علي لما قتل احمرت السماء .
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو - زُنَيج - حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل حسين{[26228]} بن علي ، رضي الله عنهما ، احمرت آفاق السماء أربعة أشهر . قال يزيد : واحمرارها بكاؤها . وهكذا قال السدي الكبير .
وقال عطاء الخراساني : بكاؤها : أن تحمر أطرافها .
وذكروا {[26229]} أيضًا في مقتل الحسين أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عَبِيط ، وأنه كسفت الشمس ، واحمر الأفق ، وسقطت حجارة . وفي كل من ذلك نظر ، والظاهر أنه من سُخْف الشيعة وكذبهم ، ليعظموا الأمر - ولا شك أنه عظيم - ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه ، وقد وقع ما هو أعظم من [ ذلك ] {[26230]} - قتل الحسين رضي الله عنه - ولم يقع شيء مما ذكروه ، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب ، وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع {[26231]} [ شيء من ] {[26232]} ذلك ، وعثمان بن عفان قتل محصورًا مظلومًا ، ولم يكن شيء من ذلك . وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قتل في المحراب في صلاة الصبح ، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ، ولم يكن شيء من ذلك . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه . ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس : [ الشمس ]{[26233]} خسفت لموت إبراهيم ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف ، وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته {[26234]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّمَآءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجّيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِياً مّنَ الْمُسْرِفِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فما بكت على هؤلاء الذين غرّقهم الله في البحر ، وهم فرعون وقومه ، السماء والأرض ، وقيل : إن بكاء السماء حمرة أطرافها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن الحكم بن ظهير ، عن السديّ قال : لما قتل الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما بكت السماء عليه ، وبكاؤها حمرتها .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء في قوله : فَمَا بَكَت عَلَيْهمُ السّماءُ والأرْضُ قال : بكاؤها حمرة أطرافها .
وقيل : إنما قيل : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ لأن المؤمن إذا مات ، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، ولم تبكيا على فرعون وقومه ، لأنه لم يكن لهم عمل يَصْعد إلى الله صالح ، فتبكي عليهم السماء ، ولا مسجد في الأرض ، فتبكي عليهم الأرض . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير ، قال : أتى ابن عباس رجل ، فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله تبارك وتعالى فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السّماءُ والأرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، بكى عليه وإذا فقده مُصلاّه من الأرض التي كان يصلي فيها ، ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير ، قال : فلم تبكِ عليهم السماء والأرض .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي يحيى القَتّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس بمثله .
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : حُدثت أن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : حدثنا بكير بن أبي السميط ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن جُبير أنه كان يقول : إن بقاع الأرض التي كان يصعد عمله منها إلى السماء تبكي عليه بعد موته ، يعني المؤمن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس فَمَا بَكَتِ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ قال : إنه ليس أحد إلا له باب في السماء ينزل فيه رزقه ويصعد فيه عمله ، فإذا فُقِد بكت عليه مواضعه التي كان يسجد عليها ، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يقبل منهم ، فيصعد إلى الله عزّ وجلّ ، فقال مجاهد : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كان يقال : إن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا .
حدثنا يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الإسْلامَ بَدأ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا ، ألا لا غُرْبَةَ على المُؤْمن ، ما ماتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غابَتْ عَنْهُ فِيها بَوَاكِيهِ إلاّ بَكَتْ عَلَيْهِ السّماءُ والأرْضُ » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ ، ثم قال : «إنّهُما لا يَبْكِيانِ على الكافِرِ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ . . . الاَية ، قال : ذلك أنه ليس على الأرض مؤمن يموت إلا بكى عليه ما كان يصلي فيه من المساجد حين يفقده ، وإلا بكى عليه من السماء الموضعُ الذي كان يرفع منه كلامه ، فذلك قوله لأهل معصيته : فَمَا بَكَت عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ ، وَما كانُوا مُنْظَرِينَ لأنهما يبكيان على أولياء الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ يقول : لا تبكي السماء والأرض على الكافر ، وتبكي على المؤمن الصالح معالمُه من الأرض ومقرّ عمله من السماء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَمَا بَكتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ والأرْضُ قال : بقاع المؤمن التي كان يصلي عليها من الأرض تبكي عليه إذا مات ، وبقاعه من السماء التي كان يرفع فيها عمله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : سُئل ابن عباس : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال : نعم إنه ليس أحد ، من الخلق إلا له باب في السماء يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، فإذا مات بكى عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه ، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه . وأما قوم فرعون ، فلم يكن لهم آثار صالحة ، ولم يصعد إلى السماء منهم خير ، فلم تبكِ عليهم السماء والأرض .
وقوله : وَما كانُوا مُنْظَرِينَ يقول : وما كانوا مؤخرين بالعقوبة التي حلّت بهم ، ولكنهم عوجلوا بها إذ أسخطوا ربهم عزّ وجلّ عليهم .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض } مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم : بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك . ومنه ما روي في الأخبار : إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه . وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض { وما كانوا منظرين } ممهلين إلى وقت آخر .
نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون ، فاقتضى أن للسماء والأرض بكاء . واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد وابن جبير : إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً ، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله ، قالوا فلم يكن في قوم فرعون مَن هذه حاله ، فهذا معنى الآية . وقال السدي وعطاء : بكاء السماء : حمرة أطرافها . وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي ، وكان ذلك بكاء عليه ، وهذا هو معنى الآية .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم ، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء ، وهذا نحو قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال }{[10235]} [ إبراهيم : 46 ] على قراءة من قرأ «لِتزولَ » بكسر اللام ونصب الفعل وجعل { إن } [ إبراهيم : 46 ] نافية ، ومثل هذا المعنى قول النبي عليه السلام : «لا ينتطح فيها عنزان »{[10236]} فإنه يتضمن التحقير ، لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه ، وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي النبي عليه السلام . وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله : { فما بكت عليهم السماء والأرض } ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير : [ الكامل ]
لما أتى خبر الزبير تواضعت . . . سور المدينة والجبال الخشع{[10237]}
فيقال في تحقير : مات فلان فما خشعت الجبال ، ونحو هذا ، وفي الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال : «ما مات مؤمن في غربة غاب عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض » ثم قرأ هذه الآية ، وقال : «إنهما لا يبكيان على كافر »{[10238]} . ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ [ مجزوء الكامل ] :
الريح تبكي شجوه . . . والبرق يلمع في غمامه{[10239]}
فالشمس طالعة ليست بكاسفة . . . تبكي عليك نجوم الليل والقمرا{[10240]}
تفريع على قوله : { كم تركوا من جنات } إلى قوله : { قوماً آخرين } [ الدخان : 25 28 ] ، فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا ، أي فما كان مُهلَكُهم إلا كمُهلَك غيرهم ولم يكن حدثاً عظيماً كما كانوا يحسبون ويحسب قومُهم ، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهوِّلوا أمر موته بنحو : بَكت عليه السماء ، وبكته الريح ، وتزلزلتْ الجبال ، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه :
فإن يهلك أبو قابوس يهلِك *** ربيعُ الناس والبلدُ الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
بكَى حارثُ الجَولان من فقد ربه *** وحَوْران منه موحَش مُتضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم ، وقريب منه قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } [ إبراهيم : 46 ] ، وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين ، قال أبو بكر بن اللَّبَّانَةِ الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك إشبيلية :
تبكي السماء بمزن رائحٍ غَاد *** على البهاليل من أبناء عَباد
والمعنى : فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم وَلا أنظروا بتأخير هلاكهم بل عجّل لهم الاستئصال .