{ 9-10 } { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
هذا متضمن لنهي المؤمنين ، [ عن ] أن يبغي بعضهم على بعض ، ويقاتل{[798]} بعضهم بعضًا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين ، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير ، بالإصلاح بينهم ، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك ، فإن صلحتا ، فبها ونعمت ، وإن { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : ترجع إلى ما حد الله ورسوله ، من فعل الخير وترك الشر ، الذي من أعظمه ، الاقتتال ، [ وقوله ] { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } هذا أمر بالصلح ، وبالعدل في الصلح ، فإن الصلح ، قد يوجد ، ولكن لا يكون بالعدل ، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين ، فهذا ليس هو الصلح المأمور به ، فيجب أن لا يراعى أحدهما ، لقرابة ، أو وطن ، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض ، التي توجب العدول عن العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات ، التي تولوها ، حتى إنه ، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله ، وعياله ، في أدائه حقوقهم ، وفي الحديث الصحيح : " المقسطون عند الله ، على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ، وما ولوا "
ثم انتقلت السورة إلى دائرة أوسع وأرحب ، فدعت المؤمنين إلى التدخل بين الطوائف المتنازعة لقعد المصالحة بينها ، وإلى قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله - تعالى - فقال - سبحانه - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . . لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها : ما رواه الإِمام أحمد عن أنس قال : قيل للنبى - صلى الله عليه وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبى ؟ فانطلق إليه النبى - صلى الله عليه وسلم وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهى أرض سبخة ، فلما انطلق إليه - عليه الصلاة والسلام - قال إليكم عنى ، فو الله لقد آذانى ريح حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك .
قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، وغضب للأنصارى أصحابه . قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدى . . فبلغنا أنه أنزلت فيهم { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . } .
والخطاب فى الآية لأول الأمر من المسلمين ، والأمر فى قوله { فَأَصْلِحُواْ } للوجوب ، والطائفة : الجماعة من الناس .
أى : وإن حدث قتال بين طائفتين من المؤمنين ، فعليكم يا أولى الأمر من المؤمنين أن تتدخلوا بينهما بالإِصلاح ، عن طريق بذل النصح ، وإزالة أسباب الخلاف .
والتعبير " بإن " للإِشعار بأنه لا يصح أن يقع قتال بين المؤمنين ، فإن وقع على سبيل الندرة ، فعلى المسلمين أن يعملوا بكل وسيلة على إزالته .
وجاء " إقتتلوا " بلفظ الجمع ، لأن لفظ الطائفة وإن كان مفردا فى اللفظ إلا أنه جمع فى المعنى ، فروعى فيه المعنى هنا . وروعى فيه اللفظ فى قوله { بَيْنَهُمَا } .
قالوا : والنكنة فى ذلك أنهم فى حال القتال يكونون مختلطين فلذا جاء الاسلوب بصيغة الجمع ، وفى حال الصلح يكونون متميزين متفرقين فلذا جاء الأسلوب بصيغة التثنية .
ثم بين - سبحانه - حكمه فى حال اعتداء إحداهما على الأخرى فقال : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } .
والبغى : التعدى وتجاوز الحد والامتناع عن قبول الصلح المؤدى إلى الصواب .
أى : فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ، وتجاوزت حدود العدل والحق ، فقاتلوا - أيها المؤمنون - الفتة الباغية ، حتى تفئ وترجع إلى حكم الله - تعالى - وأمره ، وحتى تقبل الصلح الذى أمرناكم بأن تقيموه بينهم .
وقوله : { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الفئة الباغية ، إذا ما قبلت الصلح ورجعت إلى حكم الله - تعالى - .
أى : فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها ، وقبلت الصلح ، وأقلعت عن القتال ، فأصلحوا بين الطائفتين إصلاحا متسما بالعدل التام وبالقسط الكامل .
وقيد - سبحانه - الإِصلاح بالعدل . ثم أكد ذلك بالأمر بالقسط حتى يلتزم الذين يقومون بالصلح بينهما العدالة الى لا يشوبها أى حيف أو جور على إحدى الطائفتين .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } تذييل المقصود به حض المؤمنين على التقيد بالعدل فى أحكامهم ، لأن الله - تعالى - يحب من يفعل ذلك .
( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك ، تحت النزوات والاندفاعات . تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق ، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة ، قبل التثبت والاستيقان .
وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات ، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة ، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق . ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح . والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح .
والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين . ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما ، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى ، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب .
وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين . فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن ، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله . وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين ، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه ، وأدى إلى الخصام والقتال . فإذا تم قبول البغاة لحكم الله ، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه . . ( إن الله يحب المقسطين ) . .
يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين{[27082]} الباغين بعضهم على بعض : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال . وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم . وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " {[27083]} . فكان كما قال ، صلوات الله وسلامه عليه ، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة .
وقوله : { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : حتى ترجع إلى أمر الله{[27084]} وتسمع للحق وتطيعه ، كما ثبت في الصحيح عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قلت : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " {[27085]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يحدث : أن أنسًا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك " فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك . قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }
ورواه البخاري في " الصلح " عن مُسَدَّد ، ومسلم في " المغازي " عن محمد بن عبد الأعلى ، كلاهما عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، به نحوه{[27086]} .
وذكر سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر بالصلح بينهما .
وقال السدي : كان رجلا من الأنصار يقال له : " عمران " ، كانت له امرأة تدعى أم زيد{[27087]} ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها . وإن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، وإن الرجل قد كان خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه الآية . فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، وفاءوا إلى أمر الله .
وقوله : { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض ، بالقسط ، وهو العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عبد الأعلى ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب{[27088]} ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن ، بما أقسطوا في الدنيا " .
ورواه النسائي{[27089]} عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، به{[27090]} . وهذا إسناده جيد قوي ، رجاله على شرط الصحيح .
وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به{[27091]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا ، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى يقول : فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له ، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلاً بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي يقول : فقاتلوا التي تعتدي ، وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ يقول : فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه ، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل : يعني بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَت إحْدَاهُما على الأُخُرَى فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ فإن الله سبحانه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله ، وينصف بعضهم من بعض ، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغٍ ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم ، حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقرّوا بحكم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذا أمر من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس ، وأمرهم أن يصلحوا بينهما ، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله ، فإذا رجعت أصلحوا بينهما ، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه ، مما سأذكره إن شاء الله تعالى . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أنس ، قال : قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أُبيّ ، قال : فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون ، وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ، قال : فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال : فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما .
حدثني أبو حُصَين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : ثني حصين ، عن أبي مالك في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال : رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه ، ولذا قومه ، فاجتمعوا حتى اضّربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال ، فأنزل الله هذه الاَية .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال : كان بينهم قتال بغير سلاح .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَإن طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال : كانا حيين من أحياء الأنصار ، كان بينهما تنازع بغير سلاح .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال : كان قتالهم بالنعال والعصيّ ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم .
قال : ثنا مهران ، قال : حدثنا المُبارك بن فَضَالة ، عن الحسن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأَبْون أن يجيبوا فأنزل الله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول : ادفعوهم إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع .
قال : ثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحوا بَيْنَهُما قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد ، تحت رجل ، فكان بينها وبين زوجها شيء ، فرقاها إلى علية ، فقال لهم : احفظوا ، فبلغ ذلك قومها ، فجاؤوا وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء ليصلح بينهم ، فنزل القرآن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأُخْرَى قال : تبغي : لا ترضى بصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال : الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا . . . الاَية ، الاَية ، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما للاَخر : لاَخذنه عنوة لكثرة عشيرته ، وأن الاَخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف ، فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله ، كتاب الله ، وإلى حكم نبيه صلى الله عليه وسلم وليست كما تأوّلها أهل الشبهات ، وأهل البدع ، وأهل الفراء على الله وعلى كتابه ، أنه المؤمن يحلّ لك قتله ، فوالله لقد عظّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا ، فقال : إنّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ . . . الاَية .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال قتادة : كان رجلان بينهما حقّ ، فتدارآ فيه ، فقال أحدهما : لاَخذنّه عنوة ، لكثرة عشيرته وقال الاَخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : ثني عبد الله بن عباس ، قال : قال زيد ، في قول الله تعالى : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام ، أو النفر والنفر ، أو القبيل والقبيلة فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه : إما القصاص والقود ، وإمّا العقل والعير ، وإمّا العفو ، فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم ، حتى يفيء إلى أمر الله ، ويرضى به .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : ثني ابن شهاب وغيره : يزيد في الحديث بعضهم على بعض ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن أُبيّ ابن سلول : فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : لقد آذانا بول حماره ، وسدّ علينا الروح ، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فحجز بينهم ، فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ :
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهدا *** تُظَلّمْ وَيَصْرَعْكَ الّذِينَ تُصَارِعُ
قال : فأنزلت فيهم هذه الاَية وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا .
وقوله : وأَقْسِطُوا يقول تعالى ذكره : واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ يقول : إن الله يحبّ العادلين في أحكامهم ، القاضين بين خلقه بالقسط .
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع . { فأصلحوا بينهما } بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى . { فإن بغت إحداهما على الأخرى } تعدت عليها . { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ترجع إلى حكمه أو ما أمر به ، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس ، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين . { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } بفصل ما بينهما على ما حكم الله ، وتقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنة مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة . { وأقسطوا } واعدلوا في كل الأمور . { إن الله يحب المقسطين } يحمد فعلهم بحسن الجزاء . والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال ، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى ، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة .
{ طائفتان } مرفوع بإضمار فعل . والطائفة : الجماعة . وقد تقع على الواحد ، واحتج لذلك بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[10457]} [ التوبة : 122 ] . ورأى بعض الناس أن يشهد حداً لزناة رجل واحد . فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد .
واختلف الناس في سبب هذه الآية . فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه . فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله . فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ، ويروى بالحديد{[10458]} .
وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال . فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر{[10459]} ولها زوج من غيرهم . فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه . فوقع قتال نزلت الآية بسببه{[10460]} .
و : { بغت } معناه : طلبت العلو بغير الحق ، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة . وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون أهل صفين والجمل ؟ قال : لا . من الشرك فروا . قيل أفمنافقون ؟ قال : لا . لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح . ولا يطلب هارب . ولا يقتل أسير ){[10461]} و : { تفيء } معناه : ترجع . والإقساط : الحكم بالعدل .