{ 38 - 40 } { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه . وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة .
وحد اليد عند الإطلاق من الكوع ، فإذا سرق قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم ، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه :
منها : الحرز ، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة . فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه .
ومنها : أنه لابد أن يكون المسروق نصابا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما ، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه .
ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها ، فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه ، وذلك أن يكون المال محرزا ، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية .
ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه ، فلما كان لابد من التقدير ، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب .
والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية ، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت . وقوله : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس .
{ نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا .
وبعد أن بين - سبحانه - عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله ، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين . بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال - تعالى :
{ والسارق والسارقة فاقطعوا . . . }
قال الجمل ما ملخصه : قوله - تعالى - { والسارق والسارقة } . . إلخ . شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى .
وقرأ الجمهور : والسارق بالرفع وفيها وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصرين - أن السارق مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة . أي : حكم السارق ، ويكون قوله { فاقطعوا } بيانا لذلك الحكم المقدر . فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود . ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبي ، والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية والثانية أمرية .
والثاني : وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة - أنه مبتدأ - أيضاً - والخبر الجملة الأمرية من قوله { فاقطعوا } وإنما دخلت الفاء في الخبر ، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها ، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا .
والمعنى : ( السارق ) أي : من الرجال ( السارقة ) أي : من النساء ( فاقطعوا ) أيديهما ، أي فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده . والأنثى إذا سرقت قطعت يدها .
والخطاب في قوله : ( فاقطعوا ) لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع - سبحانه - اليد فقال " أيديهما " ولم يقل يديهما بالتثنية ، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية .
وقوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت . أي : اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث ، وكسبهما السيء ، وخيانتهما القبيحة ، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما ( نكالا ) أي : عبرة وزجرا من الله - تعالى - لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة .
يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا : أي : صنع به صنيعا يحذر غيره .
والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك . وأصله من النكل - بالكسر - وهو القيد الشديد ، وحديدة اللجام ، لكونهما مانعين وجمعه انكال .
وسميت هذه العقوبة نكالا ، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ، وفضيحة لأمره .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : والله - تعالى - غالب على أمره ، حكيم في شرائعه وتكاليفه .
قال صاحب المنار ما ملخصه . وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع اسماء الله - تعالى - في الآيات بحسب المناسبة .
ومن ذلك ما نقل الأصمعي أنه قال : كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية فقلت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله . قال : أعد فأعدت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تنبهت فقلت : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : الآن أصبت فقلت له .
كيف عرفت ؟ يا هذا { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة ، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله - تعالى - يضع كل اسم موضعه من كتابه .
وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة :
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا - نكالا من الله - والله عزيز حكيم . فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، إن الله غفور رحيم . ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .
إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام - على اختلاف عقائدهم - ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية . وضمانات التربية والتقويم . وضمانات العدالة في التوزيع . وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه . . ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة ، والاعتداء على الملكية الفردية ، والاعتداء على أمن الجماعة . . ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت . .
ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال . .
إن النظام الإسلامي كل متكامل ، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته . كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ؛ ويعمل به جملة . أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام ، أو مبدأ من مبادئه ، في ظل نظام ليس كله إسلاميا ، فلا جدوى له ؛ ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام . لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق . الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة . .
هذا بصفة عامة . أما بالنسبة لموضوع السرقة ، فالأمر لا يختلف . .
إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ، في الحياة . وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة . . من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه ، ويجد فيه السكن والراحة . . من حق كل فرد على الجماعة - وعلى الدولة النائبة عن الجماعة - أن يحصل على هذه الضروريات . . أولا عن طريق العمل - ما دام قادرا على العمل - وعلى الجماعة - والدولة النائبة عن الجماعة - أن تعلمه كيف يعمل ، وأن تيسر له العمل ، وأداة العمل . . فإذا تعطل لعدم وجود العمل ، أو أداته ، أو لعدم قدرته على العمل ، جزئيا أو كليا ، وقتيا أو دائما . أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته . فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه : أولا : من النفقة التي تفرض له شرعاعلى القادرين في أسرته . وثانيا على القادرين من أهل محلته . وثالثا : من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة . فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام ، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ؛ بحيث لا تتجاوز هذه الحدود ، ولا تتوسع في غير ضرورة . ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال . .
والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال . . ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين . وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية ؛ ولا يدعهم محرومين . والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها . . فإذا لم يوجد العمل ، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم ، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة . .
وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام ؟ إنه لا يسرق لسد حاجة . إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل . والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام . ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها . ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال .
وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع ، كسب ماله من حلال ، لا من ربا ، ولا من غش ، ولا من احتكار ، ولا من أكل أجور العمال ، ثم أخرج زكاته ، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة . . من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص ، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات .
فإذا سرق السارق بعد ذلك كله . . إذا سرق وهو مكفي الحاجة ، متبين حرمة الجريمة ، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين ، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام . . إذا سرق في مثل هذه الأحوال . فإنه لا يسرق وله عذر . ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة .
فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها ، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات . لذلك لم يقطع عمر - رضي الله عنه - في عام الرمادة ، حينما عمت المجاعة . ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ؛ عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة . فقد أمر بقطعهم ؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم ، درا عنهم الحد ؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له . .
وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام ، في ظل نظامه المتكامل ؛ الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة . . والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة . والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء . .
وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة . .
السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز ، خفية . . فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما . . والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار . . أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر . . ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه ، ويخرج به عنه . . فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه . والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرزا منه . ولا على المستعير إذا جحد العارية . ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين . ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته . . وهكذا . . ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير . . فلا قطعحين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير . والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك . . والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع ، وإنما هي التعزيز . . [ والتعزيز عقوبة دون الحد ، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة ] .
والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ . فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع . . ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة .
والشبهه تدرأ الحد . . فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد . وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد . ورجوع المعترف في اعترافه - إذا لم يكن هناك شهود - شبهة تدرأ الحد . ونكول الشهود شبهة . . وهكذا . .
ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة . فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل - حتى بعد إحرازه - كسرقة الماء بعد إحرازه ، وسرقة الصيد بعد صيده ، لأن كليهما مباح الأصل . وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه . والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز . . بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة . ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد ، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه . ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة .
ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال ، فتطلب في كتب الفقة ؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات . . ورسول الله [ ص ] يقول : " ادرأوا الحدود بالشبهات " وعمر ابن الخطاب يقول : " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات " . .
ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة ؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة . .
وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره . فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام . وهو لا يكتفي بثمرة عمله ، فيطمع في ثمرة عمل غيره . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . أو ليأمن على مستقبله . فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء . . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع . لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء . وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل .
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود للجريمة مرة ثانية .
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية . وإنه لعمري خير أساس قامت عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن . . .
" وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة . وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم . والسرقة على الخصوص . والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة . لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس ، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب . وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته ، من طريق الحلال والحرام على السواء ! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف ، فيأمنوا جانبه ، ويتعاونوا معه .
فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد ؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً ، ولم تفته منفعة ذات بال .
" أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل ، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً ؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال ، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم - لا السارق وحده - أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة .
" وأعجب بعد ذلك ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر . كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته ، وأن نشجعه على السير في غوايته ، وأن نعيش في خوف واضطراب ، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص !
" ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية ، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق ؛ وأن ننسى طبائع البشر ، ونتجاهل تجارب الأمم ؛ وأن نلغي عقولنا ، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا ، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلاً إلا التهويل والتضليل !
" وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية ، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء ، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء . لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس . وطبائع البشر وتجارب الأمم ، ومنطق العقول والأشياء . وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية . أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء .
" إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته . فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد ، وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة ، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم ، وتأمين المجتمع . و ما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة ، فهي أفضل العقوبات وأعدلها " .
" ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع ، لأنهم يرونها - كما يقولون - عقوبة موسومة بالقسوة . وتلك حجتهم الأولى والأخيرة . وهي حجة داحضة . فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف ، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا .
فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم "
والله - سبحانه - وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة :
( فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله . . )
فهي تنكيل من الله رادع . والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها ، لأنه يكفه عنها ، ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة . . ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس ، إلا وفي قلبه عمى ، وفي روحه أنطماس ! والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ؛ لأن المجتمع بنظامه ، والعقوبة بشدتها ، والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد .
يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ؛ أن ابن مسعود كان يقرؤها : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " . وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر . وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح . ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلا يقال له : " دويك " مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .
وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرًا ؛ لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا ، بل أخذوا بمجرد السرقة .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن ، عن نَجْدَة الحَنَفِي قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أخاص أم عام ؟
وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم .
وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَعَن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . {[9796]} وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ ، فعند الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين . {[9797]}
قال مالك ، رحمه الله : وقطع عثمان ، رضي الله عنه ، في أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك . وهذا الأثر عن عثمان ، رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن : أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تُقَوم ، فَقُومَت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار ، فقطع عثمان يده . {[9798]}
قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع{[9799]} يشتهر ، ولم{[9800]} ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السُّكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية . وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم .
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا . والحجة{[9801]} في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن عَمْرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق{[9802]} في ربع دينار فصاعدا " . {[9803]}
ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عَمْرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " . {[9804]}
قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة{[9805]} دراهم ، لا ينافي هذا ؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهمًا ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق .
ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم . وبه يقول عمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري ، رحمهم الله .
وذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي ، فمن سرق واحدًا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر ، وبحديث عائشة ، رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[9806]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " {[9807]} وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهمًا . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل{[9808]} لعائشة : ما ثمن المجَن ؟ قالت : ربع دينار . {[9809]}
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزُفَر ، وكذا سفيان الثوري ، رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نُمَير وعبد الأعلى{[9810]} وعن{[9811]} محمد بن إسحاق ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . {[9812]}
ثم قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المِجَن " . وكان ثمن المجن عشرة دراهم . {[9813]}
قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما ، يحكى هذا عن علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم النَّخَِعي ، وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهمًا . وينقل هذا عن سعيد بن جبير ، رحمه الله .
وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يَسْرقُ البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة :
أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر ؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ .
والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .
والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .
وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :
يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ{[9814]}*** ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار
تَناقض ما لنا إلا السكوت له*** وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ{[9815]}
ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه{[9816]} الفقهاء فهرب منهم . وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي ، رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت . ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[9817]} { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالا مِنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه { حِكِيمٌ } أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره .
{ وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . .
يقول جلّ ثناؤه : ومن سرق من رجل أو امرأة ، فاقطعوا أيها الناس يده . ولذلك رفع السارق والسارقة ، لأنهما غير معينين ، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب . وقد رُوي عن عبد لله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «والسارقو ن والسارقات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : في قراءتنا قال : وربما قال في قراءة عبد الله : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم : في قراءتنا : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه ، وصحة الرفع فيه ، وأن السارق والسارقة مرفوعان بفعلهما على ما وصفت للعلل التي وصفت . وقال تعالى ذكره : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما والمعنى أيديهما اليمنى كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما : اليمنى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : في قراءة عبد الله : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما » .
ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله ، فقال بعضهم : عني بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا وذلك قول جماعة من أهل المدينة ، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق القليل والكثير . واحتجوا في ذلك بأن الاَية على الظاهر ، وأنه ليس لأحد أن يخصّ منها شيئا إلاّ بحجة يجب التسليم لها . وقالوا : لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بأن ذلك في خاصّ من السّرّاق . قالوا : والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة ، ولم يرو عنه أحد أنه أُتِي بسارق درهم فخلّى عنه ، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم . قالوا : وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانق أن يقطع . قالوا : وقد قطع ابن الزبير في درهم . ورُوي عن ابن عباس أنه قال : الاَية على العموم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة الحنفي ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ أخاصّ أم عامّ ؟ فقال : بل عامّ .
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : الاَية معنيّ بها خاصّ من السراق ، وهو سراق ربع دينار فصاعدا أو قيمته ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القَطْعُ في رُبعِ دِينَارٍ فصَاعِدا » . وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم ، والتلميح عن أوْلاها بالصواب بشواهده في كتابنا كتاب السرقة ، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع . وقوله : جَزَاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ يقول : مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله . نَكَالاً مِنَ الله يقول : عقوبة من الله على لصوصيتهما . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيدِيَهُما جَزَاءً بِمَا كَسَبا نِكالاٍ مِنَ اللّهِ وَالله عَزَيزٌ حَكيمٌ : لا تَرْثُوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود ، فإنه والله ما أمر الله بأمر قطّ إلاّ وهو صلاح ، ولا نهى عن أمر قطّ إلاّ وهو فساد .
وكان عمر بن الخطاب يقول : اشتدّوا على السّراق فاقطعوهم يدا يدا ورِجلاً رجلاً . وقوله : وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكيمٌ يقول جلّ ثناؤه : والله عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه ، حكيم في حكمه فيهم وقضائه عليهم . يقول : فلا تفرطوا إيها المؤمنون في إقامة حكمي على السارق وغيرهم من أهل الجرئم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبة لهم ، فإني بحكمي قضيت ذلك عليهم ، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، يعني أيْمانهما من الكرسوع، يقول: القطع {جزاء بما كسبا}، يعني سرقا، {نكالا من الله}: عقوبة من الله قطع اليد، {والله عزيز حكيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
من سرق من رجل أو امرأة، فاقطعوا أيها الناس يده. ولذلك رفع السارق والسارقة، لأنهما غير معينين، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب. وقد رُوي عن عبد لله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: «والسارقون والسارقات».
"فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما" والمعنى أيديهما اليمنى... في قراءة عبد الله: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما».
ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله؛
فقال بعضهم: عني بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا، وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم».
وقال آخرون: بل عنى بذلك: سارق ربع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا».
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم».
وقال آخرون: بل عني بذلك سارق القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنه ليس لأحد أن يخصّ منها شيئا إلاّ بحجة يجب التسليم لها. وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بأن ذلك في خاصّ من السّرّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يرو عنه أحد أنه أُتِي بسارق درهم فخلّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانق أن يقطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في درهم. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الآية على العموم.
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: الآية معنيّ بها خاصّ من السراق، وهو سراق ربع دينار فصاعدا أو قيمته، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القَطْعُ في رُبعِ دِينَارٍ فصَاعِدا». وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم، والتلميح عن أوْلاها بالصواب بشواهده في كتابنا "كتاب السرقة". "جَزَاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ": مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله.
"نَكَالاً مِنَ الله": عقوبة من الله على لصوصيتهما. عن قتادة: لا تَرْثُوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمر قطّ إلاّ وهو صلاح، ولا نهى عن أمر قطّ إلاّ وهو فساد.
" وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكيمٌ": والله عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه، حكيم في حكمه فيهم وقضائه عليهم. يقول: فلا تفرطوا إيها المؤمنون في إقامة حكمي على السارق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبة لهم، فإني بحكمي قضيت ذلك عليهم، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن قيل لنا إيش الحكمة في إقامة الحد في السرقة على ما به تكتسب السرقة، وهو اليد؟ ولم يقم الحد في سائر الحدود في ما به كان اكتسابها من نحو القصاص [في الزنى] وغيره: إنه إذا قتل [فلان] آخر لا تقطع يده، وبها كان اكتساب القتل، وكذا الزنى لم يقم الحد إلا ما به كان الزنى، بل أقيم على غير ما به كان ذلك الفعل؟ وفي السرقة أقيم على ما به كان ذلك الفعل خاصة؟. قيل، والله أعلم، لخلتين: إما لقصور في الاستيفاء من الحق أو لخوف الزيادة في الاستيفاء على الحق لأنه إذا قتل، أو قطعت يده، بقيت له النفس، وقد تتلف نفس الآخر، فكان في ذلك قصور في استفاء الحق. وفي الزنى لو أقيم به على الذي كان اكتساب الفعل لخيف تلف نفسه به، فكان في ذلك استيفاء الزيادة على الحق. وأما السرقة فإنه أمكن استيفاء الحق مما كان به اكتسابها على غير قصور يقع في الاستيفاء ولا خوف الزيادة في الاستيفاء. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم. فإن قيل: ما الحكمة في يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة؟ وذلك مما لا يماثله في الظاهر، وقد أخبر أن {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام: 160 وغافر: 40] كيف جزى هذا بأضعاف ذلك؟ قيل: لهذا جوابان: أحدهما: أن جزاء الدنيا محنة، يمتحن عباده بأنواع المحن ابتداء على غير جعل ذلك جزاء لكسب يكتسب. فمن له الامتحان بأنواع المحن على غير جعلها جزاء الشيء كان له الامتحان بأن يجعل ما يساوي ألوفا فلسا أو حبة. وبالله العصمة والنجاة. والثاني: أن ليس القطع في السرقة جزاء ما أخذ من المال، ولكنه جزاء ما هتك من الحرمة. ألا ترى أنه قال: {جزاء بما كسبا} ولم يقل بما أخذا من الأموال؟ فيجوز أن يبلغ جزاء هتك تلك الحرمة قطع اليد، وإن قصر علم البشر على ذلك لأن مقادير العقوبات إنما يعرفها من يعرف مقادير الإجرام. وليس أحد من الخلائق يحتمل علمه مبلغ مقادير الإجرام. فإذا لم يحتمل علمهم مبلغ مقادير عقوبات ماذا كان؟ فحق القول فيه الاتباع والتسليم بعد العلم في الاتباع أن الله لا يجزي السيئة إلا مثلها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني، لأن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معانٍ: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. والثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر، وقطع الذكر في الزنى باطن، والثالث: أن في قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- يرتب الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبيب فهو تنبيه على الحكم بالفعل الذي رتب عليه، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فدل ذلك على أن القطع معلل بالسرقة، وأنها سببه. [نفسه: 27-28].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه؛ فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما، ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن، منها الإخراج من حرز، ومنه القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه، فلفظ {السارق} في الآية عموم معناه الخصوص...
في اتصال الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، بين في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، والثاني: أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام، فذكر أولا: قطع الطريق، وثانيا: أمر السرقة...
{والله عزيز حكيم}: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت السرقة من جملة المحاربة والسعي بالفساد، وكان فاعلها غير متقٍ ولا متوسل، عقب بها فقال: {والسارق} الآخذ لما هو في حرز خفيةً لكونه لا يستحقه {والسارقة} أي كذلك؛ ولما كان التقدير: وهما مفسدان، أو حكمهما فيما يتلى عليكم، سبب عنه قوله: {فاقطعوا} وال -قال المبرد- للتعريف بمعنى: الذي، والفاء للسبب كقولك: الذي يأتيني فله كذا كذا درهم {أيديهما} أي الأيامن من الكوع إذا كان المأخوذ ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه -كما بين جميع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم- ويرد مع القطع ما سرقه؛ ثم علل ذلك بقوله: {جزاء بما كسبا} أي فعلا من ذلك، وإدالته على أدنى وجوه السرقة وقاية للمال وهواناً لها للخيانة، وديتها إذا قطعت في غير حقها خمسمائة دينار وقاية للنفس من غير أن ترخصها الخيانة، ثم علل هذا الجزاء بقوله: {نكالاً} أي منعاً لهما كما يمنع القيد {من الله} أي الذي له جميع العظمة فهو المرهوب لكل مربوب، وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عزيز} أي في انتقامه فلا يغالبه شيء {حكيم} أي بالغ الحكم والحكمة في شرائعه، فلا يستطاع الامتناع من سطوته ولا نقض شيء يفعله، لأنه يضعه في أتقن مواضعه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
المحاربون المفسدون في الأرض يأكلون أموال الناس بالباطل جهرة، وينتزعونها منهم عنوة، واللصوص يأكلونها كذلك ولكنهم يأخذونها خفية، فلما بين الله تعالى عقاب أولئك، وأمر بالتقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيل الله – وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان، وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام، -بين عقاب هؤلاء أيضا، جمعا بين الوازع النفسي وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال، فقال عز من قائل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أي والسارق والسارقة مما يتلى عليكم حكمهما، ويبين لكم حدهما، كما بين لكم حد المفسدين في الأرض مثلهما، فاقطعوا أيديهما، أو التقدير: وكل من السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، كما تقطعون أيدي المحاربين إذا سلبا المال مثلهما. والمراد قطع يد كل منهما، أي إذا سرق الذكر تقطع يده، وإذا سرقت الأنثى تقطع يدها، وإنما جمع اليد ولم يقل يديهما لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية، أي الجمع بين تثنيتين. ومثله قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (التحريم: 4) والوصف هنا متضمن لمعنى الشرط فقرن خبره بالفاء على الأظهر.
وقد صرح بأن هذا الحد على الرجال والنساء كما صرح بذلك في حد الزنا لأن كلا من الذنبين يقع من كل منهما، فأراد الله زجر كل منهما بتلاوة القرآن، وإن كانت الأحكام الشرعية مشتركة بينهما عند الإطلاق، وتغليب وصف الذكورة وضمائرها في الكلام، إلا ما خص الشرع الرجال، كالإمامة والقتال. والمتبادر من إطلاق اليد أنها الكف إلى الرسغ، ولهذا قال في آية الوضوء {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6] وإنما تقع السرقة بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملها معها البدن، فيقال إن اليد لا تعمل إلا بهما. ولهذا المعنى- وهو إيقاع العذاب على العضو المباشر للجريمة – قالوا إن اليمنى هي التي تقطع، لأن التناول يكون بها إلا ما شذ.
{جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} هذا تعليل للحد، أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيئ، ونكالا وعبرة لغيرهما. فالنكال مأخوذ من النكل وهو (بالكسر) قيد الدابة.؟ ونكل عن الشيء عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه. فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا. ولعمر الحق أن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم الذل والعار هو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم، لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السرقة عند العلم بهم {وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهو غالب على أمره، حكيم في صنعه وفي شرعه، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة:
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا -نكالا من الله- والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، والله على كل شيء قدير)..
إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام -على اختلاف عقائدهم- ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية.. إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية. وضمانات التربية والتقويم. وضمانات العدالة في التوزيع. وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه.. ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية.. فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة، والاعتداء على الملكية الفردية، والاعتداء على أمن الجماعة.. ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت..
ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال..
إن النظام الإسلامي كل متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته. كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا؛ ويعمل به جملة. أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام، أو مبدأ من مبادئه، في ظل نظام ليس كله إسلاميا، فلا جدوى له؛ ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام. لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق. الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة..
هذا بصفة عامة. أما بالنسبة لموضوع السرقة، فالأمر لا يختلف..
إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد، في المجتمع المسلم في دار الإسلام، في الحياة. وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة.. من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه، ويجد فيه السكن والراحة.. من حق كل فرد على الجماعة -وعلى الدولة النائبة عن الجماعة- أن يحصل على هذه الضروريات.. أولا عن طريق العمل -ما دام قادرا على العمل- وعلى الجماعة -والدولة النائبة عن الجماعة- أن تعلمه كيف يعمل، وأن تيسر له العمل، وأداة العمل.. فإذا تعطل لعدم وجود العمل، أو أداته، أو لعدم قدرته على العمل، جزئيا أو كليا، وقتيا أو دائما. أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته. فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه: أولا: من النفقة التي تفرض له شرعاعلى القادرين في أسرته. وثانيا على القادرين من أهل محلته. وثالثا: من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة. فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين؛ بحيث لا تتجاوز هذه الحدود، ولا تتوسع في غير ضرورة. ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال..
والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال.. ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين. وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية؛ ولا يدعهم محرومين. والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها.. فإذا لم يوجد العمل، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة..
وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام؟ إنه لا يسرق لسد حاجة. إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل. والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام. ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها. ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال.
وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع، كسب ماله من حلال، لا من ربا، ولا من غش، ولا من احتكار، ولا من أكل أجور العمال، ثم أخرج زكاته، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة.. من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات.
فإذا سرق السارق بعد ذلك كله.. إذا سرق وهو مكفي الحاجة، متبين حرمة الجريمة، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام.. إذا سرق في مثل هذه الأحوال. فإنه لا يسرق وله عذر. ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة.
فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات. لذلك لم يقطع عمر -رضي الله عنه- في عام الرمادة، حينما عمت المجاعة. ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة؛ عندما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة. فقد أمر بقطعهم؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم، درا عنهم الحد؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له..
وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام، في ظل نظامه المتكامل؛ الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة.. والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة. والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء..
وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة..
السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز، خفية.. فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما.. والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار.. أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر.. ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه، ويخرج به عنه.. فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه. والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لأنه ليس محرزا منه. ولا على المستعير إذا جحد العارية. ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين. ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته.. وهكذا.. ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير.. فلا قطعحين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير. والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك.. والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع، وإنما هي التعزيز.. [والتعزيز عقوبة دون الحد، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة].
والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ. فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع.. ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة.
والشبهة تدرأ الحد.. فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد. وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد. ورجوع المعترف في اعترافه -إذا لم يكن هناك شهود- شبهة تدرأ الحد. ونكول الشهود شبهة.. وهكذا..
ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة. فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل -حتى بعد إحرازه- كسرقة الماء بعد إحرازه، وسرقة الصيد بعد صيده، لأن كليهما مباح الأصل. وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه. والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز.. بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة. ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه. ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة.
ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال، فتطلب في كتب الفقه؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ادرأوا الحدود بالشبهات "وعمر ابن الخطاب يقول: "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات"..
ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد، في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة..
وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره. فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام. وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع في ثمرة عمل غيره. وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل. أو ليأمن على مستقبله. فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء.. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع. لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان. ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء. وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل، والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة. فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية. وإنه لعمري خير أساس قامت عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن...
"وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة. وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم. والسرقة على الخصوص. والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة. لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب. وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته، من طريق الحلال والحرام على السواء! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف، فيأمنوا جانبه، ويتعاونوا معه.
فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً، ولم تفته منفعة ذات بال.
" أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه. فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس. وفي طبيعة الناس كلهم -لا السارق وحده- أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة.
" وأعجب بعد ذلك ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر. كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على السير في غوايته، وأن نعيش في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!
" ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق؛ وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم؛ وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلاً إلا التهويل والتضليل!
" وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء. لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس. وطبائع البشر وتجارب الأمم، ومنطق العقول والأشياء. وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية. أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء.
" إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته. فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع. و ما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها".
" ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع، لأنهم يرونها -كما يقولون- عقوبة موسومة بالقسوة. وتلك حجتهم الأولى والأخيرة. وهي حجة داحضة. فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا.
فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم "
والله -سبحانه- وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة:
(فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله..)
فهي تنكيل من الله رادع. والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها، لأنه يكفه عنها، ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة.. ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس، إلا وفي قلبه عمى، وفي روحه انطماس! والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد؛ لأن المجتمع بنظامه، والعقوبة بشدتها، والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووجه ذكر السارقة مع السارق دفعُ توهّم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيداً بحيث لا يجري حدّ السرقة إلاّ على الرجال، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزناً فلا يجرون عليها الحدود، وهو الدّاعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة: (178) {الحُرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وقد سرقت المخزوميّة في زمن رسول الله فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش، فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله إلاّ زيد بن حارثة، فلمّا شفع لها أنكر عليه وقال: أتشفع في حدّ من حدود الله، وخطب فقال: إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه وإذا سرق الضّعيف قطعوه، والله لو أنّ فاطمة سرقت لقطعت يدها.
.. وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحدّ وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأيّمة المذاهب وليس من غرض المفسّر. وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشّرعية وتفاصيلها ولكنّه يؤصّل تأوصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللّسان من معرفة حقائقها وتمييزها عمّا يشابهها..
فحكمة مشروعيّة القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود، أي جزاء ليس بانتقام ولكنّه استصلاح.
وضَلّ من حسب القطع تعويضاً عن المسروق.
وضرورة الإعلان عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤثم من أجل الاعتبار والعظة، فالتشريع ليس من بشر لبشر، إنما تشريع خالق لمخلوق، والخالق هو الذي صنع الصنعة فلا تتعالم على خالق الصنعة، والشريعة لا تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع الأيدي بل تريد أن تمنع قطع الأيادي. وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد، والذين قالوا "قطع الأيدي فعل وحشي"، نقول لهم: إن يدا واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة، وإذا كان القتل أنفى للقتل، فالقطع أنف للقطع، أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عددا من الناس وكذلك حادثة انفجار لأنبوبة "بوتاجاز "تفعل أكثر من ذلك فلا تنظروا إلى القصاص مفصولا عن السرقة إن انتشرت في المجتمع، وإبطاء القائمين على الأمر للإجراءات التي يترتب عليها العقوبات يُنسي المجتمع بشاعة الجريمة الأولى، وعندما يحين وقت محاكمة المجرم تكون الرحمة موجودة. لكن إن وقع العقاب ساعة الجرم تنته المسألة، وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق، سيكفر كل منهم قبل أن يسرق ولا يرتكب الجرم لأن المراد من الجزاء العبرة والعظة ومقصد من مقاصد التربية وتذكرة للإنسان بمطلوبات الله عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء هنا نكالا أي عقابا و" نكولا "وهو الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجرم، فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى الإنسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت إليه هذه الحالة.