12- قل - أيها النبي - لهؤلاء الجاحدين : مَنْ مَالِك السماوات والأرضِ ومن فيهن ؟ فإن أحجموا فقل الجواب الذي لا جواب غيره : إن مالكها هو الله - وحده - لا شريك له ، وأنه أوجب على نفسه الرحمة بعباده ، فلا يعجل عقوبتهم ، ويقبل توبتهم ، إنه ليحشرنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه . الذين ضيعوا أنفسهم وعرّضوها للعذاب في هذا اليوم ، هم الذين لا يصدقون بالله ، ولا بيوم الحساب .
{ 12 } { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله ، مقررا لهم وملزما بالتوحيد : { لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مَن الخالق لذلك ، المالك له ، المتصرف فيه ؟
{ قُلْ } لهم : { لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه ، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير ، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد ؟ " .
وقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره ، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه ، وتغمدهم برحمته وامتنانه ، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه ، وأن العطاء أحب إليه من المنع ، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة ، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم ، ودعاهم إليها ، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } وهذا قسم منه ، وهو أصدق المخبرين ، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين ، ما يجعله حق اليقين ، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا ، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق ، فأوضعوا في معاصيه ، وتجرءوا على الكفر به ، فخسروا دنياهم وأخراهم ، ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحداينة الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون ، فقال - تعالى - : { قُل لِّمَن . . . } .
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتنبيه - من الذى يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، إن الإجابة الصحيحة التى يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين . قال - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم ، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم .
قال الإمام الرازى : وقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } سؤال ، وقوله { قُل للَّهِ } جواب . فقد أمره الله - تعالى - بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ، وهذا إنما يحسن فى الموضع الذى يكون الجواب قد بلغ فى الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع ، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته " .
ثم قال - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أى : أوجب - سبحانه - على نفسه رحمته التى وسعت كل شىء والتى من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه فى الدنيا للطائعين والعصاة ، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتى تغلب غضبى " .
وجملة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف أى : والله ليجمعنكم ، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب ، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } .
ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة ( ليجمنعكم ) فى محل نصب بدل من الرحمة ، وفسر ( ليجمعنكم ) بمعنى أمهلكم وأمد لكم فى العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير الرحمة ، كما قال - تعالى - فى السورة نفسها ( كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) .
والمقصود بهذه الجملة الكريمة ( ليجمعنكم ) بيان عدل الله بين عباده . فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا ، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسىء .
ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله - تعالى - حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة ، وبتعدية الفعل بإلى دون فى للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة - وبأنه يوم لا ينبغى لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته .
ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال - تعالى - { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
أى : الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم ، وإصرارهم على العناد والجمود ، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت .
قال الآلوسى : ( الفاء ) فى قوله ( فهم لا يؤمنون ) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل والانهماك فى التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان .
( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل لله ، كتب على نفسه الرحمة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم ) . .
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير ، ثم المفاصلة . . ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول [ ص ] لهذه المواجهة . مواجهة المشركين - الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق ؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم - مواجهتهم بالسؤال عن الملكية - بعد الخلق - لكل ما في السماوات والأرض ، مسقصيا بهذا السؤال حدود الملكية في المكان :
( ما في السماوات والأرض ) . . مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها ؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها :
( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله ) . .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة - أرقى - في هذا الجانب - من الجاهلية " العلمية " الحديثة ، التي لا تعرف هذه الحقيقة ، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة ! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض . ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية ؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك ، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه . . وبهذا اعتبروا مشركين ، وسميت حياتهم بالجاهلية ! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه ؛ ويزاولونها هم بأنفسهم ؟ ! بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم ؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك . . فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه . . أيا كانت دعواهم في الإسلام وأيا كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد !
ونعود إلى الآية . لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض ، أنه - سبحانه :
فهو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه - فضلا منه ومنة - كتب على نفسه الرحمة . كتبها بإرادته ومشيئته ؛ لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح ؛ ولا يقتضيها منه مقتض - إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة - وهي - الرحمة - قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة . . والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي ، فرحمة الله بعباده هي الأصل ، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء . فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته ، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . . والرحمة في هذا كله ظاهرة . .
على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال . فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة . . إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار !
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها - وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي - ولكننا سنحاول أن نقف قليلا أمام هذا النص القرآني العجيب :
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) .
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه . . تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده . . تفضله - سبحانه - بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة . . مكتوبة عليه . . كتبها هو على نفسه ؛ وجعلها عهدا منه لعباده . . بمحض إرادته ومطلق مشيئته . . وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة . .
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه - سبحانه - على نفسه من رحمته . فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر ، لا يقل عن ذلك التفضل الأول ! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى ؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله ؟ من هم ؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم ؟ !
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش ؛ كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه !
ومثل هذه الحقائق ، وما تثيره في القلب من مشاعر ؛ ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئا في تصويره ؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه ، لا لتعريفه !
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكون جانبا أساسيا من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها . . وهو تصور جميل مطمئن ودود لطيف . يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب ، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله ! - على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة - فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه . والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه ، كما يروعه بجلال إيقاعة . .
ورحمة الله تفيض على عباده جميعا ؛ وتسعهم جميعا ؛ وبها يقوم وجودهم ، وتقوم حياتهم . وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات . فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته . في نشأتهم من حيث لا يعلمون . وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقاته . وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل . الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته .
وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته . . هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه ! وهومن رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض ، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى . كلما نسي وضل ؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ؛ ولم يسمع صوت النذير ، ولم يصغ للتحذير . وهو على الله هين . ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .
وتتجلى في تجاوز الله - سبحانه - عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب ، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب .
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها . والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء . ومحو السيئة بالحسنة . . وكله من فضل الله . فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته . حتى رسول الله [ ص ] كما قال عن نفسه ، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله .
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها ، وإعلان القصور والعي عنها ، هو أجدر وأولى . وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا ! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن ؛ فيتصل به ؛ ويعرفه ؛ ويطمئن إليه - سبحانه - ويأمن في كنفه ؛ ويستروح في ظله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها ، فضلا على وصفها والتعبير عنها .
فلننظر كيف مثل رسول الله [ ص ] لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما :
" أخرج الشيخان - بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] لما قضى الله الخلق - وعند مسلم : لما خلق الله الخلق - كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . . وعند البخاري في رواية أخرى : إن رحمتي غلبت غضبي " . .
وأخرج الشيخان - بإسناده عنه رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " جعل الله الرحمة مائة جزء . فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا . فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق . حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " . .
وأخرج مسلم - بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن لله مائة رحمة . فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة " . .
وله في أخرى : " إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض . فجعل منها في الأرض رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض . فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة " . .
وهذا التمثيل النبوي الموحي ، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى . . ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها ، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة ، والضعف والمرض ؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب ؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض - ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب - ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه . فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما !
وكان رسول الله [ ص ] لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى :
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قدم على رسول الله [ ص ] بسبي . فإذاامرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها ، إذ وجدت صبيا في السبي ، فأخذته ، فألزقته ببطنها فأرضعته . فقال [ ص ] : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه . قال : " فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها " . . [ أخرجه الشيخان ] .
وكيف لا . وهذه المرأة إنما ترحم ولدها ، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة ؟
ومن تعليم رسول الله [ ص ] لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية ، بهذا الأسلوب الموحي ، كان ينتقل بهم خطوة أخرى ؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته ، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعا ؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها ، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل .
عن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ ص ] " الراحمون يرحمهم الله تعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " . . [ أخرجه أبو داود والترمذي ] .
وعن جرير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يرحم الله من لا يرحم الناس " . . . [ أخرجه الشيخان والترمذي ] .
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - : قال [ ص ] : " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " .
وعن أبى هريرة كذلك . قال : قبل رسول الله [ ص ] الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرع بن حابس . فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا ! فنظر إليه رسول الله [ ص ] ثم قال : " من لا يرحم لا يرحم " . . [ أخرجه الشيخان ] .
ولم يكن [ ص ] يقف في تعليمه لأصحابه - رضوان الله عليهم - عند حد الرحمة بالناس . وقد علم أن رحمه ربه وسعت كل شيء . وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله ؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقا بخلق الله سبحانه . وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها :
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا ، فنزل فيها فشرب ، ثم خرج ، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر ، فملأ خفه ماء ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب . فشكر الله تعالى له فغفر له " . قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ قال : " في كل كبد رطبة أجر " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
وفي أخرى : إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر ، قد أدلع [ أي أخرج ] لسانه من العطش فنزعت له موقها [ أي خفها ] فغفر لها به .
وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر . فرأينا حمرة [ طائر ] معها فرخان لها فأخذناهما . فجاءت الحمرة تعرش [ أو تفرش ] - [ أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض ] فلما جاء رسول الله [ ص ] قال : " من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها " . ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال : " من أحرق هذه ؟ قلنا : نحن . قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار " . . [ أخرجه أبو داود ] . .
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " قرصت نملة نبيا من الأنبياءفأمر بقرية النمل فحرقت . فأوحي الله تعالى إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ؟ " . . . [ أخرجه الشيخان ] .
وهكذا علم رسول الله [ ص ] أصحابه هدى القرآن . ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة . . أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة ؟ !
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشى ء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثارا عميقة ؛ يصعب كذلك تقصيها ؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها ، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية ، إلى قضية مستقلة !
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه - حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء ، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار - فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة ، وكل حالة ، وكل وضع ؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه ، أو طرده من رحمته . فإن الله لا يطرد من رحمته أحدا يرجوها . إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها !
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر ، وبالرجاء والأمل ، وبالهدوء والراحة . . فهو في كنف ودود ، يستروح ظلاله ، ما دام لا يبعد عنه في الشرود !
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله . فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرى ء على المعصية - كما يتوهم البعض - إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم . والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية ! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم ، أو المغفرة ، أو الرحمة . . إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية !
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرا قويا في خلق المؤمن ، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله - سبحانه - وهو يرى نفسه مغمورا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه - فيعلمه ذلك كله كيف يرحم ، وكيف يعفو ، وكيف يغفر . . كما رأينا في تعليم الرسول [ ص ] لأصحابه ؛ مستمدا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة . .
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة : أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة :
( قل لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله . كتب على نفسه الرحمة . ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . . ) . .
فمن هذه الرحمة المكتوبة ، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه . . ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله - سبحانه - بعباده من الناس ؛ فقد خلقهم لأمر ؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية ، ولم يخلقهم عبثا ، ولم يتركهم سدى . ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة - فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته - فيعطيهم جزاء كدحهم إليه ، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا . فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر ؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة . . وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها . . كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها ، والحسنة بعشرة أمثالها ، والإضعاف لمن يشاء ، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء . . كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضا .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم - يكذبونبيوم القيامة - شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية " العلمية " الحديثة ! ! ! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات ، لمواجهة ذلك التكذيب :
( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) . .
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا . . وهؤلاء لن يخسروا شيئا ويكسبوا شيئا . . هؤلاء خسروا كل شيء . . فقد خسروا أنفسهم كلها ، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئا . أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه ؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب ؟ ولمن يكسب ؟ ! .
( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) . .
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها ؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن ! . . وهو تعبير دقيق عن حالة واقعة . . إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين - مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله - هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم ! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة ؛ أو محجوبة مغلفة . فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها ، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها ، ومن ثم فهم لا يؤمنون . . إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون . . وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم . . وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم . وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم !
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعْمَش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي{[10582]} صلى الله عليه وسلم " إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي " {[10583]}
وقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [ وهو يوم القيامة ]{[10584]} الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم{[10585]} في ريبهم{[10586]} يترددون .
وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني ، عن الزبير بن شَبِيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء ؟ قال : " والذي نَفْسِي بيَدِه ، إن فيه لماءً ، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء ، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار ، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء " .
هذا حديث غريب{[10587]} وفي الترمذي : " إن لكل نبي حَوْضًا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة{[10588]} {[10589]}
ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [ أي يوم القيامة ]{[10590]} { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .