40- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي تفضلت بها عليكم أنتم وآباؤكم بالتفكير فيها والقيام بواجب شكرها ، وأوفوا بعهدي الذي أخذته عليكم وأقررتموه على أنفسكم ، وهو الإيمان ، والعمل الصالح ، والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء ، حتى أوفى بوعدي لكم وهو حسن الثواب والنعيم المقيم ، ولا تخافوا أحداً غيري ، واحذروا من أسباب غضبى عليكم .
ثم شرع تعالى يذكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام ، والخطاب مع فرق بني إسرائيل ، الذين بالمدينة وما حولها ، ويدخل فيهم من أتى من بعدهم ، فأمرهم بأمر عام ، فقال : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها ، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } وهو ما عهده إليهم من الإيمان به ، وبرسله وإقامة شرعه .
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } وهو المجازاة على ذلك .
والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ] } إلى قوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده ، وهو الرهبة منه تعالى ، وخشيته وحده ، فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه .
هذا ، وبعد أن ذكر القرآن الكريم الناس جميعاً بنعم الله عليهم ، ليحملهم بذلك على إخلاص العبادة له ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، ومن بين هذه النعم خلق آدم وإظهار فضله على الملائكة ، بعد كل ذلك اتجه إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو إسرائيل ، استمالة لقلوبهم نحو الإِيمان بالله ، وكسرا لعنادهم ولجاجتهم ، فقال - تعالى - :
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ . . . } :
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - وفي إضافتهم إلى أبيهم إسرائيل تشريف لهم وتكريم ، وحث لهم على الامتثال لأوامر الله ونواهيه ، فكأنه قيل : يا بني العبد الصالح ، والنبي الكريم ، كونوا مثل أبيكم في الطاعة والعبادة .
ويستعمل مثل هذا التعبير في مقام الترغيب والترهيب ، بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن ، والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ ، ففي هذا النداء . خير داع لذوي الفطر السليمة منهم إلى الإِقبال على ما يرد بعده من التذكير بالنعمة ، واستعمالها فيما خلقت له .
ومعنى { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنافع التي أتتكم على سبيل الإِحسان منى ، وقوموا بحقوقها وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم ، فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها .
والمراد بنعمة : المنعم بها عليهم ، وتجمع على نعم ، وقد وردت في القرآن الكريم بمعنى الجمع كما في قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } فإن لفظ العدد والإِحصاء قرينة على أن المراد بالنعمة : النعم الكثيرة ، ويبدوا أن المراد بالنعمة في الآية التي معنا كذلك النعم المتعددة حيث إنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معهودة ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع - اعتماداً على القرينة - من أبلغ الأساليب الكلامية .
ثم أمرهم - سبحانه - بالوفاء بما عاهدهم عليه ، فقال تعالى : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } العهد ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كاليمين والوصية وغيرهما ، ويضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً ، يقال : أوفيت بعهدي ، أي بما عاهدت غيري عليه ، وأوفيت بعهدك ، أي بما عاهدتني عليه ، وعهد الله : أوامره ونواهيه ، والوفاء به يتأتى باتباع ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، ويندرج فيه كل ما أخذ على بني إسرائيل من التوراة ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم متى بعث ، والإِيمان بما جاء به من عند الله وتصديقه فيما يخبر عن ربه .
والمعنى : وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإِيمان بي ، والطاعة لي ، والتصديق برسلي ، أوف بما عاهدتكم عليه من التمكين في الأرض في الدنيا والسعادة في الآخرة .
ثم أمرهم - سبحانه - بأن يجعلوا خوفهم من خالقهم وحده ، فقال - تعالى - { وَإِيَّايَ فارهبون } أي : خافوني ولا تخافوا سواي ، ولتكم قلوبكم عامرة بخشيتي وحدي ، فإن ذلك يعينكم على طاعتي ، ويبعدكم عن معصيتي .
وحذف متعلق الرهبة للعموم ، أي ارهبوني في جميع ما تأتون ، وما تذرون ، حتى لا أنزل بكم من النقم مثل ما أنزلت بمن قبلكم من المسخ وغيره ، فالآيات الكريمة قد تضمنت وعداً ووعيداً وترغيباً وترهيباً .
فلننظر بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني :
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين . الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، وأنهم إليه راجعون ) .
إن المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم ، ومن الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار . . وهنا يذكرهم الله بنعمته التي انعمها عليهم إجمالا ، قبل البدء في تفصيل بعضها في الفقر التالية . يذكرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه - سبحانه - كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء :
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) . .
فأي عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام ؟ أهو العهد الأول ، عهد الله لآدم : ( فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . ؟ أم هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع آدم . العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه : أن يعرفه ويعبده وحده لا شريك له . وهو العهد الذي لا يحتاج إلى بيان ، ولا يحتاج إلى برهان ، لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها اللدنية ، ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف ؟ أم هو العهدالخاص الذي قطعه الله لإبراهيم جد إسرائيل . والذي سيجيء في سياق السورة : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، قال : إني جاعلك للناس إماما ، قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . . ؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور ، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة والذي سيأتي ذكره في هذه الجولة ؟ .
إن هذه العهود جميعا إن هي إلا عهد واحد في صميمها . إنه العهد بين الباريء وعباده أن يصغوا قلوبهم إليه ، وأن يسلموا أنفسهم كلها له . وهذا هو الدين الواحد . وهذا هو الإسلام الذي جاء به الرسل جميعا ؛ وسار موكب الإيمان يحمله شعارا له على مدار القرون .
ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية :
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : يا بَنِي إسْرَائِيلَ : يا ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى إسرائيل ، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه وإيل هو الله وإسرا : هو العبد ، كما قيل جبريل بمعنى عبد الله . وكما :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : إن إسرائيل كقولك عبد الله .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : إيل : الله بالعبرانية .
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ أحبار اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنسبهم جلّ ذكره إلى يعقوب ، كما نسب ذرية آدم إلى آدم ، فقال : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وما أشبه ذلك . وإنما خصهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الاَي التي ذكرهم فيها نعمه ، وإن كان قد تقدم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم أن الذي احتجّ به من الحجج والاَيات التي فيها أنباء أسلافهم وأخبار أوائلهم ، وقصص الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم ، ليس عند غيرهم من العلم بصحته ، وحقيقته مثل الذي لهم من العلم به إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم . فعرّفهم باطلاع محمد على علمها مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها ، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم دراسة الكتب التي فيها أنباء ذلك ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيل منه ذلك إليه لأنهم من علم صحة ذلك بمحل ليس به من الأمم غيرهم . فلذلك جل ثناؤه خصّ بقوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ خطابهم كما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ قال : يا أهل الكتاب للأحبار من يهود .
القول في تأويل قوله تعالى : اذْكُرُوا نِعْمَتِي التِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ .
قال أبو جعفر : ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جل ذكره اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضرّاء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المنّ والسلوى . فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحلّ بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه عنده . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : اذْكُرُوا نَعْمَتِي التي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي آلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ قال : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ يعني نعمته التي أنعم على بني إسرائيل فيما سمي وفيما سوى ذلك ، فجر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وأنجاهم عن عبودية آل فرعون .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : نِعمتي الّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قال : نعمه عامة ، ولا نعمة أفضل من الإسلام ، والنعم بعد تبعَ لها . وقرأ قول الله يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إسْلاَمَكُمْ الآية . وتذكير الله الذين ذكرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، نظير تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافهم على عهده الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم . وذلك قوله : وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلوكا وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العَالَمِينَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ .
قال أبو جعفر : قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا هذا واختلاف المختلفين في تأويله والصوابُ عندنا من القول فيه . وهو في هذا الموضع عهد الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن يبينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول ، وأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله ، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله . أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وعهده إياهم : أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، كما قال جل ثناؤه : وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبا الآية ، وكما قال : فَسأكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتنا يُؤْمِنُونَ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ أُلامّيّ الآية . وكما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وأوْفُوا بعَهْدِي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم . أُوفِ بعَهْدِكُمْ : أي أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه ، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : أوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال : عهده إلى عباده : دين الإسلام أن يتبعوه . أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يعني الجنة .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أوْفُوا بعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أما أوفوا بعهدي : فما عهدت إليكم في الكتاب ، وأما أوف بعهدكم : فالجنة ، عهدت إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال : ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَني إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبا إلى آخر الآية . فهذا عهد الله الذي عهد إليهم ، وهو عهد الله فينا ، فمن أوفى بعهد الله وفى الله له بعهده .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وأُوفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ يقول : أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره أوف بعهدكم يقول : أرض عنكم وأدخلكم الجنة .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأُوْفوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال : أوفوا بأمري ، أوف بالذي وعدتكم ، وقرأ : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنُفُسَهُمْ وأمُوَالَهُمْ حتى بلغ : وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ قال : هذا عهده الذي عهده لهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِيّايَ فارْهَبُونِ .
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ وإياي فاخشوا ، واتقوا أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل والمكذّبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت من الكتب على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أحلّ بكم من عقوبتي ، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ما أحللت بمن خالف أمري وكذّب رسلي من أسلافكم . كما :
حدثني به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإيّايَ فَارْهَبُونِ أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره .
وحدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثني آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَإيّايَ فَارْهَبُونِ يقول : فاخشون .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ بقول : وإياي فاخشون .
{ يا بني إسرائيل } أي أولاد يعقوب ، والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال : أبو الحرب ، وبنت الفكر . وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية : صفوة الله ، وقيل : عبد الله ، وقرئ { إسرائيل } بحذف الياء وإسرال بحذفهما و{ إسرائيل } بقلب الهمزة ياء . { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ، وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر . وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ، ومن العفو عن اتخاذ العجل ، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ { اذكروا } والأصل إذتكروا . ونعمتي بإسكان الياء وقفا وإسقاطها درجا هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها .
{ وأوفوا بعهدي } بالإيمان والطاعة .
{ أوف بعهدكم } بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد ، ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقن الدم والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم . وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، أوف بعهدكم في رفع الأنصار والإغلال . وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب . أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم ، أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط . وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة ، أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة . وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } . وقرئ أوف بالتشديد للمبالغة .
{ وإياي فارهبون } فيما تأتون وتذرون وخصوصا في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول ، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبون . والرهبة : خوف مع تحرز . والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله تعالى .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
{ يا } حرف نداء مضمن معنى التنبيه .
قال الخليل : «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول : أريد أو أدعو » .
وقال أبو علي الفارسي : العامل حرف النداء عصب به( {[525]} ) معنى الفعل المضمر فقوي فعمل ، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء ، و { بني } منادى مضاف و { إسرائيل } هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، وهو اسم أعجمي يقال فيه أسراءل وإسرائيل وإسرائل ، وتميم تقول إسرائين ، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله .
وحكى المهدوي أن -إسرا- مأخوذ من الشدة( {[526]} ) في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته .
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل ، والذكر في كلام العرب على أنحاء ، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان( {[527]} ) ، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع ، وتحركت الياء من { نعمتي } لأنها لقيت الألف واللام ، ويجوز تسكينها ، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى( {[528]} ) ، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية .
فقال الطبري : «بعثة الله الرسل منهم وإنزال المن والسلوى ، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون ، وتفجير الحجر » .
وقال غيره : «النعمة هنا أن أدركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم » .
وقال أخرون : «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه أقوال على جهة المثال ، والعموم في اللفظة هو الحسن .
وحكى مكي : أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الكافر لا نعمة لله عليه . ( {[529]} )
وقال ابن عباس وجمهور العلماء : بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام ، مؤمنهم وكافرهم ، والضمير في { عليكم } يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت بين الآباء والأجداد ، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في { عليكم } ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة .
وقوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } أمر وجوابه .
فقال الخليل : «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط ، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل » .
وقرأ الزهري : «أوَفّ » بفتح الواو وشد الفاء للتكثير .
واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وقيل العهد قوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة }( {[530]} ) [ البقرة : 63 ، 93 ] ، وقال ابن جريج : العهد قوله تعالى :
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل }( {[531]} ) [ المائدة : 12 ] ، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة ، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم ، لا علة له ، لأن العلة لا تتقدم المعلول( {[532]} ) .
وقوله تعالى : { وإياي فارهبون } الاسم إيا والياء ضمير ككاف المخاطب ، وقيل { إياي } يجملته هو الاسم ، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر ، تقديره : وإياي ارهبوا فارهبون ، وامتنع أن يتقدر مقدماً لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف ، فكان يجيء وارهبون ، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية . وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء .