{ 25 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم ، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله ، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان ، والصد أيضا عن المسجد الحرام ، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم ، بل الناس فيه سواء ، المقيم فيه ، والطارئ إليه ، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه ، والحال أن هذا المسجد الحرام ، من حرمته واحترامه وعظمته ، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .
فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم ، موجب للعذاب ، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم ، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم ، من الكفر والشرك ، والصد عن سبيله ، ومنع من يريده بزيارة ، فما ظنكم{[537]} أن يفعل الله بهم ؟ "
وفي هذه الآية الكريمة ، وجوب احترام الحرم ، وشدة تعظيمه ، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها .
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما . . . جاء الحديث عن المسجد الحرام ، وعن مكانته ، وعن الأمر ببنائه ، وعن وجوب الحج إليه ، وعن المنافع التى تعود على الحجاج ، وعن سوء مصير من يصد الناس عن هذا المسجد ، جاء قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ . . . } . { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام } .
قال ابن عباس : الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية عن المسجد الحرام ، عن أن يحجوا ويعتمروا ، وينحروا الهدى . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود فى العام القادم . . .
وصح عطف المضارع وهو " يصدون " على الماضى وهو " كفروا " لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال ، وإنما المراد به مجرد الاستمرار ، كما فى قولهم : فلان يحسن إلى الفقراء ، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه .
ويجوز أن يكون قوله { وَيَصُدُّونَ } خبرا لمبتدأ محذوف ، أى : وهم يصدون عن المسجد الحرام . وخبر إن فى قوله - سبحانه - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } محذوف لدلالة آخر الآية عليه .
والمعنى : إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله - تعالى - ، ومن زيارة المسجد الحرام . . . هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما .
ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب . وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف فى معرفة مصيرهم المهين .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { والمسجد الحرام } قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره ، وقيل الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه . . . وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .
وقوله - سبحانه - : { الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد . . . } تشريف لهذا المكان حيث جعل الله - تعالى - الناس تحت سقفه سواء ، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه .
ولفظ " سواء " قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والعاكف : مبتدأ ، والباد معطوفة عليه أى : العاكف والباد سواء فيه . أى مستويان فيه .
وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثانى لقوله " جعلناه " بمعنى صيرناه . أى : جعلناه مستويا فيه العاكف والباد . ويصح أن يكون حالا من الهاء فى { جَعَلْنَاهُ } أى : وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد .
والمراد : بالعاكف فيه : المقيم فيه . يقال : عكف فلان على الشىء ، إذا لازمه ولم يفارقه . والباد : الطارىء عليه من مكان آخر .
وأصله من يكون من أهل البوادى الذين يسكنون المضارب والخيام ، ويتنقلون من مكان إلى آخر .
أى : جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوى تحت سقفه من كان مقيما فى جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادى أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة .
فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء .
وقوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } تهديد لكل من يحاول ارتكاب شىء نهى الله عنه فى هذا المسجد الحرام .
والإلحاد الميل . يقال : ألحد فلان فى دين الله ، أى : مال وحاد عنه .
و " من " شرطية وجوابها " نذقه " ومفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم . أى : ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله { بِإِلْحَادٍ } على أن الباء زائدة .
أى : ومن يرد فى هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى : ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب طلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه .
وقد جاء هذا التهديد فى أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من بنوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح .
ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش .
ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال التى ذكرناها فى تأويل ذلك بالصواب : القول الذى ذكرناه من أن المراد بالظلم فى هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ولم يخصص به ظلما دون ظلم فى خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام : ومن يرد فى المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له .
( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس ، سواء العاكف فيه والباد . ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) . .
وكان ذلك فعل المشركين من قريش : أن يصدوا الناس عن دين الله - وهو سبيله الواصل إليه ، وهو طريقه الذي شرعه للناس ، وهو نهجه الذي اختاره للعباد - وأن يمنعوا المسلمين من الحج والعمرة إلى المسجد الحرام - كما فعلوا عام الحديبية - وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام ، وواحة اطمئنان . يستوي فيه المقيم بمكة والطارئ عليها . فهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم : ( سواء العاكف فيه والباد ) .
ولقد كان هذا النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام . يلقى فيها السلاح ، ويأمن فيها المتخاصمون ، وتحقن فيها الدماء ، ويجد كل أحد فيها مأواه . لا تفضلا من أحد ، ولكن حقا يتساوى فيه الجميع .
ولقد اختلفت أقوال الفقهاء في جواز الملكية الفردية لبيوت مكة غير المسكونة بأهلها . وفي جواز كراء هذه البيوت عند من أجاز ملكيتها . . فذهب الشافعي رحمه الله - إلى أنها تملك وتورث وتؤجر محتجا بما ثبت من أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اشترى من صفوان بن أمية دار بمكة بأربعة آلاف درهم فجعلها سجنا . وذهب إسحاق بن راهويه - رحمه الله - إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وقال : توفى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة [ جمع ربع ] إلا السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن . وقال عبد الرزاق عن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها . وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم . وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها . فكان أول من بوب سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن اتخذ لي بابين يحبسان لي ظهري [ أي ركائبي ] قال : فلك ذلك إذن . وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء . . وتوسط الإمام أحمد - رحمه الله - فقال : تملك وتورث ولا تؤجر . جمعا بين الأدلة .
وهكذا سبق الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام ، ومنطقة الأمان ، ودار الإنسان المفتوحة لكل إنسان !
والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم تذقه من عذاب أليم ) . . فما بال من يريد ويفعل ? إن التعبير يهدد ويتوعد على مجرد الإرادة زيادة في التحذير ، ومبالغة في التوكيد . وذلك من دقائق التعبير .
ومن دقائق التعبير كذلك أن يحذف خبر إن في الجملة : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . . . )فلا يذكرهم ما لهم ? ما شأنهم ? ما جزاؤهم كأن مجرد ذكر هذا الوصف لهم يغني عن كل شيء آخر في شأنهم ، ويقرر أمرهم ومصيرهم !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ويَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ الله يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه والباد ، في أنه ليس أحدهما بأحقّ بالمنزل فيه من الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن ابن سابط ، قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل . ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنما جعلته ليحرز متاعهم . وهو قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : أعتكف بمكة ؟ قال : أنت عاكف . وقرأ : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : العاكف فيه : المقيم بمكة والباد : الذي يأتيه هم في سواء في البيوت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سَواءً العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ سواء فيه أهله وغير أهله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سَوَاءً العاكفُ فِيهِ والبْادِ قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء .
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن ، والبَادِ الجانب سواء حقّ الله عليهما فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن والباد : الجانب .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قالا : من أهله ، والبَادِ الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك لأن الله تعالى ذكره ذكر في أوّل الاَية صدّ من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه . ثم قال : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ وَالبْادِ فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدّوا عنه المؤمنين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم . وقيل : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فعطف ب «يصدّون » وهو مستقبل على «كفروا » وهو ماض ، لأن الصدّ بمعنى الصفة لهم والدوام . وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : الّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ . وأما قوله : سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ فإن قرّاء الأمصار على رفع «سواءٌ » ب «العاكف ، و«العاكف » به ، وإعمال «جعلناه » في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله «للناس » ، ثم استأنف الكلام ب «سواء » وكذلك تفعل العرب ب «سواء » إذا جاءت بعد حرف قد تمّ الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشرّ ، وقد يجوز في ذلك الخفض . وإنما يختار الرفع في ذلك لأن «سواء » في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحدٍ عنده الخير والشرّ . وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشرّ ، ومن قال ذلك في سواء فاستأنف به ورفع لم يقله في «معتدل » ، لأن «معتدل » فعل مصرّح ، وسواء مصدر فاخراجهم إياه إلى الفعل كاخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه : سواءً نصبا على إعمال «جعلناه » فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
وقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظْلُمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم . وأدخلت الباء في قوله «بإلحاد » والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : تنبت بالدهن والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بِوَادِ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشّثّ صَدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمرْخِ والشّبَهانِ
والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان وكما قال أعشى بني ثعلبة :
ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالِنا أرْماحُنا *** بينَ المَرَاجِلِ والصّرِيجِ الأجْرَدِ
بمعنى : ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين . وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الياء فيه ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم . وكان يقول : دخول الباء في «أن » أسهل منه في «إلحاد » وما أشبهه ، لأن «أن » تضمر الخوافض معها كثيرا وتكون كالشرط ، فاحتملت دخول الخافض وخروجه لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقال في المصادر : يتبين الرفع والخفض فيها ، قال : وأنشدني أبو الجَرّاح :
فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لها العَصَا *** شَحِيحٌ لهُ عِنْدَ الأَداءِ نَهِيمُ
ألا هَلْ أتاها والحَوَادِثُ جمّةٌ *** بأنّ أمرأ القَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا
قال : فأدخل الباء على «أن » وهي في موضع رفع كما أدخلها على «إلحاد » وهو في موضع نصب . قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر :
ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي *** بِمَا لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ
وقال : وهو في «ما » أقلّ منه في «أن » ، لأن «أن » أقلّ شبها بالأسماء من «ما » . قال : وسمعت أعرابيّا من ربيعة ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك يريد أرجو ذاك .
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي بالبيت ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالْحاد بِظُلْمٍ يقول : بشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْمٍ هو أن يعبد فيه غير الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذّبه الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قَتادة ، مثله وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يعني أن تستحلّ من الحرام ما حرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : يعمل فيه عملاً سيئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ قالا : حدثنا المحاربيّ ، عن سفيان عن السّديّ ، عن مرّة عن عن عبد الله ، قال : ما من رجل يهمّ بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلاً بعد أن بين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا شعبة ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله قال مجاهد ، قال يزيد ، قال لنا شعبة ، رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : «لو أن رجلاً همّ فيه بسيئة وهو بعدن أَبْيَنَ ، لأذاقه الله عذابا أليما » .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْاد بِظُلْم قال : إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : بإلحْادٍ بِظُلمٍ قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك .
وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن أشعث ، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ قال : هم المحتكرون الطعام بمكة .
وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيّا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحلّ ، والاَخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدّث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي ربعي ، عن الأعمش ، قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس ، من أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك : «وَمَنْ يَرِدْ فِيهِ » بفتح الياء ، بمعنى : ومن يَرِدْه بإلحاد من وَرَدْت المكان أَرِدْه . وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القرّاء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب . وذلك أنّ «يَرِدْ » فعل واقع ، يقال منه : هو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا غدا ، ولا يقال : يَرِدُ في مكان كذا . وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب أن طَيّئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا :
وأرْغَبُ فِيها عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ *** وَلَكِنّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أرْغَبُ
بمعنى : وأرغب بها . فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به غير جائزة لِما وصفت .
{ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمروا الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حسن عطفه على الماضي . وقيل هو حال من فاعل { كفروا } وخبر { إن } محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون . { والمسجد الحرام } عطف على اسم الله وأوله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم } وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و { سواء } خبر مقدم والجملة مفعول ل ثان ل { جعلناه } إن جعل { للناس } حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و { العاكف } مرتفع به ، وقرىء { العاكف } بالجر على أنه بدل من الناس . { ومن يرد فيه } مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرىء بالفتح من الورود . { بإلحاد } عدول عن القصد { بظلم } بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام { ندقه من عذاب أليم } جواب ل { من } .