هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى ، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين .
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها ، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين ، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين ، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام ، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ، واستغرق ذلك نحو نصف السورة ، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه ، وبذكر مسألة القبلة ونحوها .
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، وجاء الحديث عن الشرك ، وعن المحرمات من الطعام ، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده .
وتعرضت السورة لبيان أصول البر ، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل ، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها ، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين ، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم .
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، وأنه يجب إيثار الخير على الشر ، وترجيح الأعلى على الأدنى .
وأن أصول الدين ثلاثة ، وهي : الإيمان بالله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا ، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول ، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء .
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل ، لا لأهل الكفر والظلم . وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق ، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق ، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة ، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية .
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم ، وحرم أشياء خبيثة محدودة ، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم ، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها ، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون ، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز ، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها ، وأن الإكراه في الدين ممنوع ، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه .
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة ، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة .
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية ، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام ، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد .
1- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم ، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها .
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم ، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريباً من ثلاثين جزءاً قسم إليها القرآن . وتبلغ آياتها ستاً وثمانين ومائتي آية . وقيل سبع وثمانون ومائتا آية .
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله .
وهي مدنية بإجماع الآراء ، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة ، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قليلة . وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها ، هي قوله –تعالى- :
[ واتقوا يوماً تُرجعُون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍِ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ] .
مناسبتها لسورة الفاتحة : هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين ، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجمالياً ، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد ، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات .
فضلها : وقد ورد فضل سورة البقرة أحاديث متعددة ، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان .
وروى ابن حيان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاث أيام " .
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال : ما معك يا فلان ؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة . فقال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم . قال : اذهب فأنت أميرهم . فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا القرآن وتعلموه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أي أغلق –على مسك .
قال القرطبي : وهذه السورة فضلها عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها( {[1]} ) .
مقاصدها : عندما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية ، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم ، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه ، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام :
قسم آمن به وانتفع بهدايته فكانت عاقبته السعادة والفلاح .
[ أولئك على هُدىً منْ رَبِّهم وأُولَئك هُم المفلحُون ] .
وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى ، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان ، فكانت عاقبته الحرمان والخسران .
[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ] .
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون . وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية ، كشفت فيها عن خداعهم ، وجبنهم ، ومرض قلوبهم ، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير ، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم ، قال –تعالى- :
[ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ] .
إلى أن يقول : [ ولو شَاءَ الله لذهبَ بِسَمْعِهم وأَبْصَارِهم إن الله عَلَى كُلِّ شيء قدير ] .
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعاً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية ، وتحدثهم –إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله . وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل .
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، جمعت لذائذ المادة والروح ، وهم فيها خالدون . ثم قررت السورة الكريمة أن الله –تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند الناس ، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان ، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار .
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم ، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت :
[ كيفَ تكفُرون باللَّه وكنتُم أَمواتاً فَأَحْياكُم ثم يُمِيتُكم ، ثم يُحْييكُم ، ثم إليه تُرْجَعُون . هو الَّذي خلق لكُم ما في الأَرْضِ جَميعاً ، ثم اسْتَوَى إِلى السَّمَاء فَسَواهُنَّ سبع سموات وهو بكل شيء عليم ] .
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم ، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض ، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه –وعن سكن آدم وزوجه الجنة ، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة .
[ وإِذْ قال ربُّك لِلْمَلاَئِكة إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة ، قالُوا : أَتَجْعَل فيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ونحن نُسبح بِحَمْدِك ونقدس لك ، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ] . . الخ . الآيات الكريمة .
هذا ، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها ، وأصبحت لهم بها دولة فتية ، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون . بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم . فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم –في أكثر من مائة آية- حديثاً طويلا متشعبا . .
فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محبباً إلى نفوسهم ، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم ، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم فتقول :
[ يا بني إِسْرَائِيل اذكرُوا نعْمَتي الَّتي أَنْعَمْتُ عليكم ، وأَوْفُوا بعهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيَّاي فارْهبُون . وآمنُوا بما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقا لما معكم ولا تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ، ولا تَشْتَرُوا بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتَّقُون ] .
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم ، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم ، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم ، وبنعمة إنجائهم من عدوهم ، وبنعمة فرق البحر بهم ، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم ، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم ، وبنعمة تظليلهم بالغمام ، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم . الخ .
ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل بالجحود والعناد والبطر ، فكانت نتيجة ذلك أن .
[ ضُرِبت عليهم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ ، وباءُوا بغضبٍ منَ اللَّه ] .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة ، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم .
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحاقهم في المسألة عندما قال لهم نبيهم موسى : [ إِنَّ اللَّه يأمرُكُم أَنْ تَذْبحُوا بَقَرَةً ] . ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم :
[ ثُمَّ قستْ قلوبُكم من بعد ذلِك فَهي كَالحِجَارَةِ أو أَشَدَّ قَسْوَةً ، وإنَّ من الحِجَارةِ لما يتفجر منه الأَنهارُ ، وإن منْها لما يَشقّقُ فيخرجُ منه الماء . وإن منْها لما يَهبطُ من خَشْيَةِ اللَّه ، وما اللَّهُ بغافلٍ عَمَّا تَعْملُون ] .
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار ، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير :
[ فويْلٌ للذين يكتبُون الكتابَ بأيديهم ثمَّ يقولُون هذَا من عنْدِ اللّه ليشْترُوا به ثَمَناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ] .
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل : [ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودة ] .
وترد عليهم بما يبطل حجتهم ، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم ، وعن عدائهم لرسول الله ، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول :
[ ولما جاءهُم كتابٌ منْ عنْدِ الله ، مُصَدِّقٌ لِمَا معهُم وَكَانُوا من قبلُ يَسْتَفْتِحُون على الذين كفرُوا ، فَلما جاءَهُم ما عرفُوا كفرُوا به فلعنةُ اللّهِ على الكافرين . بئْسَما اشْتَرَوْا به أنفسهم أن يكفرُوا بِمَا أنزلَ اللّهُ بغياً ، أَن ينزل اللّه من فضلِه على من يشَاءُ من عباده ، فباءُوا بغضب على غضبٍ وللكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ ] .
ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة ، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس ، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :
[ قل إن كانتْ لكُم الدارُ الآخرةُ عندَ اللهِ خالصةً مِن دونِ النَّاس فتمنوا الموتَ إِن كُنتُم صادقين . ولن يَتَمَنوه أبداً بمَا قَدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين ولتجِدَنَّهم أحرصَ النَّاس على حياةٍ ، ومن الذين أَشركُوا ، يودُّ أحدُهم لو يُعمّرُ ألفَ سنةٍ ، وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذَاب أن يُعَمَّر واللّهُ بصيرٌ بما يعملون ] .
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله ، وعداوتهم لملائكته ؛ ونبذهم كتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام .
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية ، والمخاصمات الكلامية ، التي استعملوها مع النبي صلى الله عليه وسلم لحرب الدعوة الإسلامية ، كجدالهم في قضية النسخ ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى ، وفي كون القرآن ليس معجزة –في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية . . الخ .
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم .
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم [ يا بني إسرائيل ] ، فقد اختتمه –أيضاً- بالنداء نفسه ، لكي يستحثهم على الإيمان فقال :
[ يا بَنِي إسرائيلَ اذكرُوا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأَنِّي فضلتكُم على العالمين . واتَّقٌوا يوماً لا تجزِي نفسٌ عن نفْسٍ شيئاً ، ولا يقبلُ منها عدلٌ ، ولا تنفعُها شفاعةٌ ، ولا هم ينصرون ] .
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم ، وعن قصة بنانء البيت الحرام ، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل .
[ رَبَّنَا تَقَبَّلْ منا إنك أننت السمِيعُ العلِيمُ . ربَّنا واجْعلنا مُسْلمَيْنِ لَكَ ومنْ ذُرِّيتنا أمةً مسلمةً لكَ ، وأَرِنَا مَنَاسِكَنا ، وتُبْ علينا ، إنك أنت التَّوابُ الرَّحِيمُ ] .
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة ، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً .
ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة ، ببيان سنة من سنن الله في خلقه ، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وأن اتكال اليهود –أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئاً . فقال –تعالى- : [ تلك أمةٌ قدْ خلت ، لها ما كسَبتْ ولكُم ما كسبتُمْ ، ولا تُسْأَلُون عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون ] .
ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، قال –تعالى- :
[ سيقولُ السُّفَهاءُ من النَّاس ما ولاَّهُم عن قِبْلتهم التي كانُوا عليها ، قل للّه المَشْرِقُ والمغربُ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] إلى أن يقول : [ ومن حيثُ خرجتَ فَوَلِّ وجهك شطر المسجدِ الحرَامِ ، وحيثُ ما كنتُمْ فولُّوا وجوهكُم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلَمُوا منهم فلا تَخْشَوْهُم واخْشَوْنِي ، ولأُتِمَّ نِعْمَتي عليكُم ولعلَّكم تَهْتَدُون ] .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بني إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار ، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم ، وينفروا من التشبه بهم .
أما المقدار الباقي من السورة الكريمة –وهو أكثر من نصفها بقليل- فعندما نراجعه بتفكر وتدبر ، نراه زاخراً بالتشريعات الحكيمة ، والآداب العالية ، والتوجيهات السامية .
نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج ، وعن الأدلة على وحدانية الله .
[ وإلهكُم إلهٌ واحدٌ لا إِله إلاَّ هو الرَّحْمَان الرَّحِيم . إن في خلقِ السَّموات والأرض واختلافِ الليلِ والنهارِ ، والفلكِ التي تجري في البحرِ بما ينفعُ النَّاس ، وما أنزلَ اللَّهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِهَا وبثَّ فيها من كل دابةٍ ، وتصريفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المسخَّرِ بين السماء والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يعقِلُون ] .
ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، بعد كل ذلك توجه نداء عاماً إلى الناس ، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله . . وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول .
[ يأيها النَّاس كُلُوا مما في الأَرْض حلالاً طيباً ولا تتبعُوا خُطُوات الشَّيطان إِنه لكم عدوٌ مُبين . إنما يأمُركُم بالسُّوءِ والفَحْشَاءِ وأن تقولُوا على اللَّه ما لا تَعلمُون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها ، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر ، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله –تعالى- :
[ ليس البرَّ أنْ تُوَلُّوا وجوهَكُم قبل المشرِقِ والمغرِبِ ولكنَّ البرَّ من آمَنَ بالله واليومِ الآخِر والملائِكة والكتابِ والنبيين ] . الخ .
ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص ، وعن الوصية ، وعن الصيام وحكمته ، وعن الدعاء وآدابه ، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت : [ ولا تأكُلُوا أموَالكُم بينكُم بالباطلِ وتُدْلُوا بها إلى الحكَّامِ ، لِتأكُلُوا فريقاً من أَمْوالِ النَّاسِ بالإثمِ وأنتم تعلمون ] .
وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله ، ونهتهم عن البغي والاعتداء . استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول :
[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ، والفتنة أشد من القتل ، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ] .
ثم فصلت السورة الحديث عن الحج ، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه ، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله ، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب ، وأن يرددوا في دعائهم قوله –تعالى- :
[ ربَّنَا أَتِنَا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّارِ ] .
وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة ، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل ، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم ، وتمادى في طغيانه وإفساده ، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله .
[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رءوف بالعباد ] .
ثم تبين لنا بأن الناس جميعاً كانوا أمة واحدة ، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن ، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق ، وصبر جميل ، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة ، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا .
[ أَمْ حسبْتُم أن تدخُلُوا الجنَّة ولما يأْتِكُم مَثَلُ الَّذين خَلَوا من قبلِكم مسَّتهُم البأساءُ والضراءُ وزُلزلُوا حتَّى يقولَ الرَّسُولُ والذين آمنُوا معه : متى نصرُ الله ؟ أَلا إِنَّ نصرَ اللَّهِ قريبٌ ] .
ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثاً جامعاً عن النكاح وما يتعلق به من أحكام ، فحدثتنا عن الإيلاء وعن الطلاق . وعن الرضاع ، وعن المعدة ، وعن الخطبة ، وعن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن ، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة :
[ كذلك يُبينُ اللَّهُ لكُم آياتِهِ لعلَّكُم تَعقِلُون ] .
ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بني إسرائيل : [ . . . قالُوا لنبيٍّ لهم : ابعثْ لَنَا مَلكاً نُقاتلُ في سبيلِ الله ] .
فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات والعبر ، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة والمنعة ، وأن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالي الأمور ، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم ، وكمال التجربة –ما يقود به أمته إلى صالح الأمور ، وأن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة ، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى الله .
وفي الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته ، وأقامت على ذلك من الأدلة ما يشفي الصدور ، ويطمئن القلوب ، ويزيد المؤمنين إيماناً ، استمع إلى آية الكرسي وهي تصور عظمة الله وقدرته فتقول .
[ الله لا إله إلا هو الحيُّ القَيُّومُ لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ ، له ما في السمواتِ ، وما في الأرضِ ، من ذا الذي يشفعُ عنده إلا بإذنه ، يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يُحيطُون بشيءٍ من علمه إلا بما شَاءَ وَسِع كُرْسيه السمواتِ والأرضَ ، ولا يؤودُهُ حفظهُمَا وهو العليُّ العظيمُ ] .
وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله ساقت السورة في أواخرها أنماطاً من التوجيهات التي تسعد المجتمع ، وتنزع الأحقاد من قلوب الأفراد ، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق والإحسان ، وضربت لذلك أروع الأمثال ونهتهم عن المن والأذى ، وصرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة .
[ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ] .
ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وبين من ينفقونها رثاء الناس ، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال ، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت :
[ ليس عليكم هُدَاهم ولكن اللَّه يهْدِي من يشاءُ ، وما تُنْفِقُوا من خير فلأنفسِكُم ، وما تنفقُون إلا ابْتغَاءَ وجْهِ اللَّهِ ، وما تنفقُوا من خيرٍ يُوفَّ إليكُم وأنتم لا تُظْلَمُون . للفقراء الذين أُحْصِرُوا في سبيل الله لا يستطيعُون ضرباً في الأرضِ يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفّفِ ، تعرفهم بسيماهُم لا يسألُون النَّاسَ إِلحاقاً ، وما تُنفِقوا من خيرٍ فإن اللهَ به عليمٌ ] .
ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا ، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب ، وتعافها النفوس ، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله ، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت :
[ يأيُّها الذين آمَنُوا اتقُوا اللّه وذرُوا ما بقِيَ من الرِّبَا إن كنتُم مؤمنين . فإنْ لم تفعلُوا فأذنُوا بحرْبٍ من اللهِ ورسولِهِ ، وإن تُبْتُمْ فلكُم رءوسُ أموالِكُم لا تَظلمُون ولا تُظلمون ] .
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون ، فصاغت للمؤمنين دستوراً هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل ، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات ، بذلك الدعاء الخاشع :
[ ربَّنَا لا تُؤَاخِذْنا إن نَسِينَا أو أَخطأنا ، ربَّنا ولا تحملْ علينا إصراً كَما حملتَهُ علَى الَّذِين من قبلِنَا ، ربَّنَا ولا تحمِّلْنَا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ ، واعفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا ، أنت مَوْلانا ، فانْصُرنا على القومِ الكَافِرِين ] .
تلك هي سورة البقرة ، أرأيت وحدتها في كثرتها ؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها ؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها ؟ أرأيت كيف ينادي كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقاً لخط جامع مرسوم ، رسمه مربي النفوس ومزكيها ، ومنور العقول أشتاتها على هذه الصورة معجزة ، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله ، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظاراً لحلوله . وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة ، محدد الموقع قبل أن ينزل .
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات ، وفي أساليب ترتيبه معجزات ، وفي نبوءاته الصادقة معجزات ، وفي تشريعاته الخالدة معجزات ، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات( {[2]} ) .
وبعد : فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة ، قدمناه بين يديها لنعطي القارئ الكريم صورة متميزة عنها . ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد ، وعلى كثير من أدلة التوحيد ، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين ، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود .
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل ، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤثرات . وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم ، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون .
وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية ، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثاً مفصلا منوعاً تناول أحكام القصاص ، والوصية ، والصيام والاعتكاف والحج ، والعمرة ، والقتال ، والنكاح ، والإنفاق في سبيل الله . والمعاملات المالية . إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها . والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول –وبالله التوفيق- .
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي . وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة . فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سورة ص ، ق ، ن . والسورة التي بدأت بحرفين تسعة وهي : طه ، يس ، طس ، { وحم } في ست سور هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الجاثية ، الأحقاف . والسورة التي بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهي : { ألم } في ست سور : البقرة ، وآل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة و { الر } في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، إبراهيم { طسم } في سورتين هما : الشعراء ، القصص . وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما . الرعد ، { المر } ، والأعراف ، { المص } وسورتان - أيضاً - بدئنا بخمسة أحرف وهما : مريم { كهيعص } والشورى { حم عسق } . فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور . ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ؟ . وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها . وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور . وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي يضيق المجال عن ذكرها . أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة ، من أهمها ما يأتي :
1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلاً { الاما } أصلها : أنا الله أعلم .
4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها السيوطي في " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجارى كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق . هذه خلاصة لأراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الألوسي .
قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره : ( الم ) فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القران . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : الم قال : اسم من أسماء القران .
حدثني المثنى بن إبراهيم الاَملي ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الم اسم من أسماء القران .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : الم اسم من أسماء القران .
وقال بعضهم : هو فواتح يفتح الله بها القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الم فواتح يفتح الله بها القران .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، قال : الم فواتح .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن يحيى بن ادم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : الم وحم والمص وص فواتح افتتح الله بها .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثل حديث هارون بن إدريس .
وقال بعضهم : هو اسم للسورة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : الم ذلك الكتابُ والم تَنْزِيلُ والمر تِلْك فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السور .
وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت السديّ عن ( حم ) و( طسم ) و( الم ) فقال : قال ابن عباس : هو اسم الله الأعظم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني أبو النعمان ، قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله فذكر نحوه .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله .
وقال بعضهم : هو قَسَمٌ أقسم الله به وهي من أسمائه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو قَسَم أقسم الله به وهو من أسماء الله .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : الم قسم .
وقال بعضهم : هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن أبي شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : الم فقال : أنا الله أعلم .
وحدثت عن أبي عبيد قال : حدثنا أبو اليقظان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد ابن جبير ، قال قوله : الم قال : أنا الله أعلم .
حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القناد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( الم ) قال : أما : الم فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه .
حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( الم ) و( حم ) و( ن ) قال : اسم مقطع .
وقال بعضهم : هي حروف هجاء موضوع . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن منصور بن أبي نويرة ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : فواتح السور كلها ( ق ) و( ص ) و( حم ) و( طسم ) و( الر ) وغير ذلك هجاء موضوع .
وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي قال : حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس في قول الله تعالى ذكره : ( الم ) قال : هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفا ، دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم . وقال عيسى ابن مريم : «وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون » ؟ قال : الألف : مفتاح اسمه «الله » ، واللام : مفتاح اسمه «لطيف » ، والميم : مفتاح اسمه «مجيد » والألف : آلاء الله ، واللام : لطفه ، والميم : مجده الألف : سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم : أربعون سنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه .
وقال بعضهم : هي حروف من حساب الجمل ، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله ، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .
وقال بعضهم : لكل كتاب سرّ ، وسرّ القرآن فواتحه .
وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هي حروف من حروف المعجم استُغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا ، كما استغنَى المخبرُ عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين بذكر «أ ب ت ث » عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين ، قال : ولذلك رفع ذلك الكتابُ لأن معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ذلك الكتاب الذي أنزلته إليه مجموعا لا ريب فيه . . . .
فإن قال قائل : فإن «أ ب ت ث » قد صارت كالاسم في حروف الهجاء كما صارت الحمد اسما لفاتحة الكتاب قيل له : لما كان جائزا أن يقول القائل : ابني في «ط ظ » ، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله إنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة ، علم بذلك أن «أ ب ت ث » ليس لها باسم ، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها . قال : وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور ، فذكرت في أوائلها مختلفة ، وذِكْرُها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي «أ ب ت ث » مؤتلفة ليفصل بين الخبر عنها ، إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفا الدلالة على الكلام المتصل ، وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفا الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها . واستشهدوا لإجازة قول القائل : ابني في «ط ظ » ، وما أشبه ذلك من الخبر عنه أنه في حروف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله : «ابني في أ ب ت ث » برجز بعض الرجاز من بني أسد :
لَمّا رأيْتُ أمْرَها في حُطّي *** وفَنَكَتْ في كَذِبٍ ولَطّ
أخَذْتُ منْها بِقُرُونٍ شُمْطِ *** فَلَمْ يَزَلْ ضَرْبي بها ومَعْطِي
*** حتى عَلا الرأسَ دَمٌ يُغَطّي***
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في «أبي جاد » ، فأقام قوله : «لما رأيت أمرها في حُطي » مقام خبره عنها أنها في «أبي جاد » ، إذ كان ذاك من قوله يدل سامعه على ما يدله عليه قوله : لما رأيت أمرها في أبي جاد .
وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين ، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن ، حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلف منه .
وقال بعضهم : الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه .
فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟ فإن معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :
بل . . . . وَبَلْدَةٍ ما الإنْسُ مِنْ آهالهَا
ما هاجَ أحْزَانا وشَجَوْا قَدْ شَجا
و«بل » ليست من البيت ولا تعدّ في وزنه ، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الاَخر .
قال أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف . فأما الذين قالوا : ( الم ) اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان : أحدهما أن يكونوا أرادوا أن : ( الم ) اسم للقرآن كما الفرقان اسم له . وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله : ( الم ) : ذلكَ الكِتابُ على معنى القسم كأنه قال : والقرآن هذا الكتاب لا ريب فيه . والاَخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيفهم السامع من القائل يقول : قرأت اليوم ( المص ) و( ن ) أي السورة التي قرأها من سور القرآن ، كما يفهم عنه إذا قال : لقيت اليوم عمرا وزيدا ، وهما بزيد وعمر وعارفان مَنِ الذي لقي من الناس . وإن أشكل معنى ذلك على امرىء فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر الم المر في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ ، إذا كانت مميزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات . قيل : إن الأسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها ، فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك ثم احتيج عند الاشتراك إلى المعاني المفرّقة بين المسمّى بها . فكذلك ذلك في أسماء السور ، جعل كل اسم في قول قائل هذه المقالة أمارةً للمسمى به من السور . فلما شارك المسمّى به فيه غيره من سور القرآن احتاج المخبر عن سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بين الخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك ، فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها باسمها الذي هو الم : قرأت الم البقرة ، وفي آل عمران : قرأت الم آل عمران ، والم ذَلِكَ الكِتابُ والم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ . كما لو أراد الخبر عن رجلين اسم كل واحد منهما عمرو ، غير أن أحدهما تميميّ والاَخر أزدي ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرا التميمي وعمرا الأزدي ، إذ كان لا فرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك ، فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور .
وأما الذين قالوا : ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية أنه قال : ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى وعلامة لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت «بل » في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة ، قال : بل . . .
***ما هاجَ أحْزَانا وشَجْوا قَدْ شَجا***
و«بل » ليست من البيت ولا داخلة في وزنه ، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر .
وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عزّ وجل ، وبعضها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الاَخر . فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :
قُلْنا لَهَا قِفِي لنا قالَتْ قافْ *** لا تَحْسبِي أنّا نَسِينا الإيجَافْ
يعني بقوله : قالت قاف : قالت قد وقفت . فدلّت بإظهار القاف من «وقفت » على مرادها من تمام الكلمة التي هي «وقفت » ، فصرفوا قوله : الم وما أشبه ذلك إلى نحو هذا المعنى ، فقال بعضهم : الألف ألف «أنا » ، واللام لام «الله » ، والميم ميم «أعلم » ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة . قالوا : فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة «أنا الله أعلم » . قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل . قالوا : ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها ، ويزيد فيها ما ليس منها إذا لم تكن الزيادة مُلَبّسة معناها على سامعها كحذفهم في النقص في الترخيم من «حارث » «الثاء » فيقولون : يا حار ، ومن «مالك » «الكاف » فيقولون : يا مال ، وأما أشبه ذلك . وكقول راجزهم :
ما للظّلِيمِ عَالَ كَيْفَ لاَ يا*** يَنْقَدّ عَنْهُ جِلْدُهُ إذَا يا
كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من «يفعل » . وكما قال آخر منهم :
*** بالخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرّا فَا***
***ولا أُرِيدُ الشّرّ إِلاّ أنْ تَا***
يريد إلا أن تشاء . فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا من سائر حروفهما ، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه . وكما
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد ، قال : لما مات يزيد بن معاوية ، قال لي عبدة : إني لا أراها إلا كائنة فتنة فافزع من ضيعتك والحق بأهلك قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحبّ إليّ لك أن تا- قال أيوب وابن عون بيده تحت خده الأيمن يصف الاضطجاع حتى ترى أمرا تعرفه .
قال أبو جعفر : يعني ب «تا » تضطجع ، فاجتزأ بالتاء من تضطجع . وكما قال الاَخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت :
أقولُ إذْ خَرّتْ على الكَلْكالِ *** يا ناقَتِي ما جُلْتِ مِن مَجَالِ
يريد الكلكل . وكما قال الاَخر :
إِنّ شَكْلِي وإِنّ شَكْلَكِ شَتّى *** فالزَمِي الخُصّ واخْفِضي تَبْيَضِضّي
قالوا : فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف الم ونظائرها ، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها .
وأما الذين قالوا : كل حرف من الم ونظائرها دالّ على معان شتى نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس ، فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال هو بتأويل : «أنا الله أعلم » في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة استُغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه ، وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك ، أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من الم من كلمات شتى هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه . قالوا : وإنما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تمام حروف الكلمة أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت لم تدل الكلمة التي تظهر بعض هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها ، إلاّ على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما . قالوا : وإذا كان لا دلالة في ذلك لو أظهر جميعها إلا على معناها الذي هو معنى واحد ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد ، لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني ، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة . قالوا : فالألف من الم مقتضية معاني كثيرة ، منها : إتمام اسم الرب الذي هو الله ، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالة على أَجَلِ قوم أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجُمّل واحدا . واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف ، وتمام اسم فضله الذي هو لطف ، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة . والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد ، وتمام اسم عظمته التي هي مجد ، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة . فكان معنى الكلام في تأويل قائل القول الأول : أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهمّ أمورهم ، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء ، كما افتتح ( بالحمد لله رب العالمين ) ، و( الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ السموَاتِ وَالأرْضَ ) وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه . وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح كما قال جل ثناؤه : ( سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً ) وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه ، ومفاتح بعضها تمجيدها ، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها . فكذلك جعل مفاتح السور الأخرى التي أوائلها بعض حروف المعجم مدائح نفسه أحيانا بالعلم ، وأحيانا بالعدل والإنصاف ، وأحيانا بالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك . وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع مرفوعا بعضها ببعض دون قوله : ( ذلكَ الكِتابُ ) ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعا عن معنى الم ، وكذلك «ذلك » في تأويل قول قائل هذا القول الثاني مرفوعٌ بعضه ببعض ، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول .
وأما الذين قالوا : هن حروف من حروف حساب الجُمّل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل وسوى تَهَجّي قول القائل : الم . وقالوا : غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عبادَهُ إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه . فلما كان ذلك كذلك وكان قوله : ( الم ) لا يعقل لها وجهه تُوجّه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحد وجهيه ، وهو أن يكون مرادا بها تهجي الم ، صحّ وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل لأن قول القائل : ( الم ) لا يجوز أن يليه من الكلام ذلك الكتاب لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول إذا ولي ( الم ذلك الكتاب ) . واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما :
حدثنا به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل . قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر ابن عبد الله بن رباب ، قال : مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) فأتى أخاه حييّ بن أخطب في رجال من يهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم . فمشى حييّ بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ ) ؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَلَى » فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال : «نَعَمْ » قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ما نعلمه بين النبي منهم ما مدة ملكه وما أَجَل أمته غيرك فقال حييّ بن أخطب : وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، قال : فقال لهم : أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد هل مع هذه غيره ؟ قال : «نَعَمْ » قال : ماذا ؟ قال : «المص » قال : هذه أثقل وأطول : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون . فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : «نَعَمْ » قال : ماذا ؟ قال : «الر » قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال : هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : «نَعَمْ المر » ، قال : فهذه أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة . ثم قال : لقد لُبّس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلاً أُعطيتَ أم كثيرا ثم قاموا عنه ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد : إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . ويزعمون أن هؤلاء الاَيات نزلت فيهم : ( هُوَ الذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٍ مُحْكماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) .
فقالوا : قد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل وفساد ما قاله مخالفونا فيه .
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم : أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد ، كما قال الربيع بن أنس ، وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة دون ما زاد عليها . والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع وما قاله سائر المفسرين غيره فيه ، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية أنه كان يوجّه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء استُغني بذكر ما ذكر منه في مفاتح السور عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعةٌ لا ريب فيه ، فإنه قول خطأ فاسد لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل ، فكفى دلالة على خطئه شهادة الحجة عليه بالخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه ، إذ صار إلى البيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله : لاَ ( رَيْبَ فِيهِ ) ومرة بقوله : ( هُدًى لِلْمُتّقِينَ ) وذلك ترك منه لقوله إن ( الم ) رافعة ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) وخروج من القول الذي ادّعاه في تأويل ( الم ذَلِكَ الكِتَابُ ) وأن تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟ قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة كقولهم للجماعة من الناس : أمة ، وللحين من الزمان : أمة ، وللرجل المتعبد المطيع لله : أمة ، وللدين والملة : أمة . وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دين في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها ، مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة . وكذلك قول الله جل ثناؤه : «الم والمر » ، و«المص » وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دالّ على معان شتى ، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم وهن مع ذلك فواتح السور كما قاله من قال ذلك . وليس كونُ ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته بمانعها أن تكون للسور فواتح لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغير مستحيل أن يبتدىء بعض ذلك بالقسم بها . فالتي ابتُدىء أوائلها بحروف المعجم أحد معاني أوائلها أنهنّ فواتح ما افتتح بهنّ من سور القرآن ، وهنّ مما أقسم بهن لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته على ما قدمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته ، وهن من حروف حساب الجمل ، وهنّ للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء . فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا مما بينا من وجوهه ، لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة ، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه . وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل ، إذ لم يكن مستحيلاً في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة باللفظ الواحد في كلام واحد .
ومن أبى ما قلناه في ذلك سئل الفرق بين ذلك وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال . فلن يقول في أحد ذلك قولاً إلا أُلزم في الاَخر مثله . وكذلك يُسأل كل من تأوّل شيئا من ذلك على وجه دون الأوجه الأخر التي وصفنا عن البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له ثم يعارض بقول يخالفه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبينه : من أصْلٍ ، أو مما يدل عليه أصلٌ ، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . وأما الذي زعم من النحويين أن ذلك نظير ، «بل » في قول المنشد شعرا :
*** بل . . . ما هاجَ أحْزَانا وَشَجْوا قَدْ شَجا ***
وأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتى :
أحدها : أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو في لغة أحد من الاَدميين ، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب«بل » ، فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدىء شيئا من الكلام ب«الم » و«الر » و«المص » بمعنى ابتدائها ذلك ب«بل » . وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها ، وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن بما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بينهم من منطقهم في جميع آيهِ ، فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم التي افتتحت بها أوائل السور التي هن لها فواتح سبيل سائر القرآن في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ولها بينهم في منطقهم مستعملين لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم كان خارجا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : ( نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ على قَلْبِكَ لِتَكَونَ مِنَ المُنْذِرِينِ بِلسانٍ عَرَبيّ مُبِينٍ ) . وأنّى يكون مبينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربيّ مبين ما يكذّب هذه المقالة ، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالمين وهو لها مستبين . فذلك أحد أوجه خطئه .
والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الخطاب به وترك الخطاب به ، وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله ، إلى الله تعالى ذكره .
والوجه الثالث من خطئه : أن «بل » في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها ، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم : مَا جاءني أخوك بل أبوك وما رأيت عمرا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
وَلأشْرَبَنّ ثَمَانِيا وثَمَانِيا *** وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَيْنَ وَأرْبَعا
بالجُلّسانِ وَطَيّبٌ أرْدَانُهُ *** بالوَنّ يَضْرِبُ لي يَكُرّ الأصْبُعا
بَلْ عُدّ هَذَا في قَرِيضِ غَيْرِهِ *** وَاذْكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقَةِ أرْوَعا
فكأنه قال : دع هذا وخذ في قريض غيره . ف«بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام . فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطويل والحذف من غير أن يدل على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرت قوله ، فيكون ذلك أصلاً يشبّه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها لو كان له مشبهة ، فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟
{ ألم } وسائر الألفاظ التي يتهجى بها ، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم ، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها ، وبه صرح الخليل وأبو علي . وما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف " فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه ، فإن تخصيصه به عرف مجدد بل المعنى اللغوي ، ولعله سماه باسم مدلوله .
ولما كانت مسمياتها حروفا وحدانا وهي مركبة ، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه ، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل : { ص } و { ق } مجموعا فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء . ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها . افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدى بالقرآن وتنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه ، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز ، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس ، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه ، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم ، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها ، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها ( ستشحثك خصفه ) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف ، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه " لن يقطع أمر " ومن الشديدة الثمانية المجموعة في ( أجدت طبقك ) أربعة يجمعها ( أقطك ) . ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها " خمس " على نصره ، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها ، ومن البواقي المنفتحة نصفها ، ومن القلقلة وهي : حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها ( قد طبج ) نصفها الأقل لقلتها ، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا ، ومن المستعلية وهي : التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى ، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل ، ومن البواقي المنخفضة نصفها ، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه ، واختاره ابن جني ويجمعها ( أحد طويت ) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها " أهطمين " وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في ( أصيلال ) والصاد والزاي في ( صراط وزراط ) والفاء في ( أجداف ) والعين في ( أعن ) والثاء في ( ثروغ الدلو ) والباء في " باسمك " حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين . ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر : الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل . ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر : الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة ، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي : الميم والزاي والسين والفاء نصفها .
ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلف اللسان وهي ستة يجمعها ( رب منفل ) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة ، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما . ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها ( اليوم تنساه ) سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك ، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ، إيذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ، ومركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة ، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف ( كبل ) ، وفي الفعل بحذف ثقل كقل . وفي الاسم بغير حذف كمن ، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه : ففي الأسماء من وإذ وذو . وفي الأفعال قل وبع وخف . وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها . وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر ، عشرة منها للأسماء ، وثلاثة للأفعال ، ورباعيتين وخماسيتين تنبيها على أن لكل منهما أصلا : كجعفر وسفرجل ، وملحقا . كقردد وجحنفل ، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه .
والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف . أو المؤلف منها ، كذا وقيل : هي أسماء للسور ، وعليه إطباق الأكثر . سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها ، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى . ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة ، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها ، أو غير ذلك . والثاني باطل لأنه ؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك ، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى : { بلسان عربي مبين } فلا يحمل على ما ليس في لغتهم .
لا يقال : لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه ؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر ؟ كما قاله قطرب ، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله :
قلت لها قفي فقالت قاف *** . . .
كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الألف آلاء الله ، واللام لفظه ، والميم ملكه . وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن . وعنه أن الم معناه : أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح . وعنه أن الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد أي : القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكا بما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم ألم البقرة . فحسبوه وقالوا : كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : فهل غيره ، فقال : المص والر والمر ، فقالوا : خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ " . فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك ، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس ، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه .
هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب ، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى ، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة ، لأنا نقول : إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور ، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم ، أما الشعر فشاذ ، وأما قول ابن عباس ، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة ، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير ، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظا ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات ، والحديث لا دليل فيه ، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم ، وجعلها مقسما بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها ، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا على طريقة بعلبك ، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا ، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم ، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد ، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسما ، فلا دور لاختلاف الجهتين . والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية ، وقيل إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن .
وقيل إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن عليا كرم الله وجهه كان يقول : يا كهيعص ، ويا حمعسق ، ولعله أراد يا منزلهما .
وقيل الألف : من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام : من طرف اللسان وهو أوسطها ، والميم : من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى .
وقيل : إنه سر استأثر الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه ، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد . فإن جعلتها أسماء الله تعالى ، أو القرآن ، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء ، أو الخبر ، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر ، أو الجر على إضمار حرف القسم ، ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل ، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك ، وسيعود إليك ذكره مفصلا إن شاء الله تعالى ، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر ، وإن جعلتها مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن ، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له ، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها ، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين . وأما عندهم ف{ الم } في مواضعها و{ المص } و{ كهيعص } و{ طه } و{ طسم } و{ طس } و{ يس } و{ حم } آية و{ حم } { عسق } آيتان ، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه .
بحول الله تعالى ومعونته هذه السورة مدنية ، نزلت في مدد شتى ، وفيها آخر آية( {[1]} ) نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] ، ويقال لسورة البقرة : ( فسطاط القرآن ) لعظمها وبهائها ، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ .
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام( {[2]} ) ، وفيها خمسمائة حكم( {[3]} ) ، وخمسة عشر مثلا ، وروى الحسن ابن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال : ( أي القرآن أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلمن قال : سورة البقرة ) ، ثم قال : ( وأيها أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : آية الكرسي ) ( {[4]} ) ، ويقال : إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين( {[5]} ) من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش ) ( {[6]} ) .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق ، أو غمامتان سودوان ، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما ) ( {[7]} ) وفي البخاري أنه عليه السلام قال : ( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) ( {[8]} ) .
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ) ( {[9]} ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( لكل شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن ، وهي آية الكرسي ) ( {[10]} ) .
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية ، وقيل : وست وثمانون آية ، وقيل : وسبع وثمانون .
اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين :
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : «هي سرّ الله في القرآن ، وهي من المتشابه( {[152]} ) الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن يتكلم فيها ، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت » .
وقال الجمهور من العلماء : «بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها » واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولاً : ( {[153]} )
فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها » .
وقال ابن عباس أيضاً : «هي أسماء الله أقسم بها » .
وقال زيد بن أسلم : «هي أسماء للسور » .
وقال قتادة : «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر » .
وقال مجاهد : «هي فواتح للسور » . قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد : «بل » و «لا بل » . نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش .
وقال قوم : «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب( {[154]} ) » وهو قول أبي العالية رفيع وغيره .
وقال قطرب وغيره : «هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم ، فقوله { الم } بمنزلة قولك أ ، ب ، ت ، ث ، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفاً » .
وقال قوم : «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة » .
وقال ابن عباس : «هي حروف تدل على : أنا الله أعلم ، أنا الله أرى ، أنا الله أفصّل »( {[155]} ) .
وقال ابن جبير عن ابن عباس : «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله ، وإما من نعمة من نعمه ، وإما من اسم ملك من ملائكة ، أو نبي من أنبيائه » .
وقال قوم : «هي تنبيه ك " يا " في النداء » .
وقال قوم : «روي أن المشركين لما أعرضوا( {[156]} ) عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة » .
قال القاضي أبو محمد : والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل : لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر : [ الواليد بن المغيرة ] [ الرجز ] .
قلنا لها قفي فقالت قاف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[157]} )
أراد قالت : وقفت . وكقول القائل( {[158]} ) : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الرجز ] .
بالخير خيرات وإن شرّاً فا . . . ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد : وإن شرّاً فشر ، وأراد : إلا أن تشاء . والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرْتَ عنها أو عطفْتَها فإنك تُعربها .
وموضع { الم } من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أو على أنه ابتداء ، أو نصب بإضمار فعل ، أو خفض بالقسم ، وهذا الإعراب( {[159]} ) يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف ، والنصب في بعض ، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها .