ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد ، فقال : { بَلَى } أي : ليس بأمانيكم ودعاويكم ، ولكن { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي : أخلص لله أعماله ، متوجها إليه بقلبه ، { وَهُوَ } مع إخلاصه { مُحْسِنٌ } في عبادة ربه ، بأن عبده بشرعه ، فأولئك هم أهل الجنة وحدهم .
{ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم ، { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فحصل لهم المرغوب ، ونجوا من المرهوب .
ويفهم منها ، أن من ليس كذلك ، فهو من أهل النار الهالكين ، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود ، والمتابعة للرسول .
ثم أبطل القرآن الكريم مدعاهم بطريق آخر وهو إيراد قاعدة كلية رتبت دخول الجنة على الإِيمان والعمل الصالح بلا محاباة لأمة أو لجنس أو لطائفة فقال تعالى : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
{ بلى } حرف يذكر في الجواب لإثبات المنفي في كلام سابق ، وقد صدرت الآية التي معنا بحرف { بلى } لإثبات ما نفوه وهو دخول غيرهم الجنة ممن لم يكن لا من اليهود ولا من النصارى ، ما دام قد أسلم وجهه لله وهو محسن .
وقوله تعالى : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } المراد به اتجه إليه ، وأذعن لأمره ، وأخلص له العبادة ، وأصل معناه الاستسلام والخضوع .
وخص الله - تعالى - الوجه دون سائر الجوارح بذلك ، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة ، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم أعضاء الجسد فغيره من أجزاء الجسد أكثر خضوعاً .
وقوله تعالى : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } من الإِحسان ، وهو أداء العمل على وجه حسن أي : مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف .
والمعنى : ليس الحق فيما زعمه كل فريق منكم يا معشر اليهود والنصارى من أن الجنة لكم دون غيركم ، وإنما الحق أن كل من أخلص نفسه لله ، وأتى بالعمل الصالح على وجه حسن ، فإنه يدخل الجنة ، كما قال تعالى : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وقد أفادت الآية الكريمة ما يأتي :
( أ ) إثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة .
( ب ) بيان أنهم ليسوا من أهل الجنة ، إلا إذا أسلموا وجوههم لله ، وأحسنوا له العمل فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإِسلام ، وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة ، لكي يقلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا عن طريقتهم المعوجة .
( ج ) بيان أن العمل المقبول عند الله - تعالى - يجب أن يتوفر فيه أمران :
أولهما : أن يكون خالصاً لله وحده .
ثانيهما : أن يكون مطابقاً للشريعة التي ارتضاها الله تعالى وهي شريعة الإِسلام .
قال الإِمام ابن كثير : " فتمنى كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث فيهم وإلى الناس كافة ، وفي أمثالهم قال الله - تعالى - : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عاملة القصد لله ، فهو أيضاً مردود على فاعله ، وهذا حال المرائين والمنافقين ولهذا قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد أبلطتا دعوى اليهود أن الجنة لهم دون غيرهم ، وأثبتتا أن مزاعمهم هذه ما هي إلا من قبيل الأماني والأوهام وكذبتهم في أن يكون عندهم أي برهان أو دليل على ما يدعون ثم أًدرتا حكما عاما وهو أن الجنة ليست خاصة لطافئة دون أخرى ، وإنما هي لكل من أسلم وجهه لله وهو محسن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.