25- لقد نصركم الله - أيها المؤمنون - على أعدائكم في كثير من المواقع بقوة إيمانكم ، وحين غرتكم كثرتكم في معركة «حُنَيْن » ترككم الله لأنفسكم أول الأمر ، فلم تنفعكم كثرتكم شيئاً ، وظهر عليكم عدوكم ، ولشدة الفزع ضاقت عليكم الأرض ، فلم تجدوا سبيلا للقتال أو النجاة الشريفة ، ولم يجد أكثركم وسيلة للنجاة غير الهرب ، ففررتم منهزمين ، وتركتم رسول الله مع قلة من المؤمنين{[79]} .
{ 25 - 27 } { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء ، ومواضع الحروب والهيجاء ، حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة ، ورأوا من التخاذل والفرار ، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه ، فسار إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة ، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة ، فكانوا اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم ، وقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة .
فلما التقوا هم وهوازن ، حملوا على المسلمين حملة واحدة ، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، ولم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، إلا نحو مائة رجل ، ثبتوا معه ، وجعلوا يقاتلون المشركين ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، يركض بغلته نحو المشركين ويقول : { أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب }
ولما رأى من المسلمين ما رأى ، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين ، وكان رفيع الصوت ، فناداهم : يا أصحاب السمرة ، يا أهل سورة البقرة .
فلما سمعوا صوته ، عطفوا عطفة رجل واحد ، فاجتلدوا مع المشركين ، فهزم اللّه المشركين ، هزيمة شنيعة ، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم .
وذلك قوله تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف .
{ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا } أي : لم تفدكم شيئا ، قليلا ولا كثيرا { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ } بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { بِمَا رَحُبَتْ } أي : على رحبها وسعتها ، { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي : منهزمين .
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بالغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله . . انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم . حيث نصرهم - سبحانه - في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عند سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم . . . ثم أنزلا لله نصره على رسوله والمؤمنين .
" وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر .
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح .
انحدروا في الاودى وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حمله رجل واحد . . فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة .
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم . . فجعلوا يقولون : ليبيك لبيك .
وانعطف الناس فتراجعوا . . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفائهم يتقلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين ديدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة . . . أصيبوا بالهزيمة في أو معركة . . . ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم .
فقوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداموا على طاعته ومحبته .
وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت .
والمواطن : جمع موطن . وهو المكان الذي يقيم فيه الإِنسان . يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له .
والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم .
قال الآلوسى : وقوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز . . . وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة . .
وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له .
وأعجبتكم : من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعددهم أعدائهم كان أربعة آلاف .
وقوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذي أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة .
وقوله : { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول : ما يغنى عنه : هذا الشئ ، أى : ما يجزئ عنه وما ينفعك .
وقوله : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم .
قال القرطبى : والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه : فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة .
وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل معنى على . أى : على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائاكم مع قلتكم . في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير . . كما نصركم . أيضاً . في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة . .
ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهى عريضة . . . على الخائف المطلوب كِفَّة حابل
ووقوله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم .
ووليتم : من التولى مبعنى الإِعراض . ومدبرين : من الإِبار بمعنى الذهاب إلى الخلف .
أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ .
وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً . . فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقف في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب .