المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

87- واذكر - أيها النبي - قصة يونس صاحب الحوت إذ ضاق بإعراض قومه عن دعوته ، فهجرهم ورحل عنهم بعيداً غاضباً عليهم ، ظاناً أن الله أباح له أن يهجرهم ، فظن أن الله لن يقدر عليه ، فابتلعه الحوت ، وعاش وهو في ظلمات البحر ، ونادى ربه ضارعاً إليه معترفاً بما كان منه قائلا : يا رب ، لا معبود بحق إلا أنت ، أنزهك عن كل ما لا يليق بك ، أعترف إني كنت من الظالمين لنفسي بعملِ ما لا يرضيك .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد ذا النون ، يعني صاحب النون . والنون : الحوت . وإنما عَنَى بذي النون : يونس بن متى ، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغني عن ذكره في هذا الموضع ، وقوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا يقول : حين ذهب مغاضبا .

واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا ، وعمن كان ذهابه ، وعلى من كان غضبه ، فقال بعضهم : كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَذَا النّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا يقول : غضب على قومه .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا أما غضبه فكان على قومه .

وقال آخرون : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه . ذكر من قال ذلك : وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعثه الله يعني يونس إلى أهل قريته ، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه . فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه : إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم . فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم ، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرّقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله ، فاستقالوه ، فأقالهم ، وتنظّر يونس الخبر عن القرية وأهلها ، حتى مرّ به مارّ ، فقال : ما فعل أهل القرية ؟ فقال : فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم ، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها . وعجّوا إلى الله وتابوا إليه . فقبل منهم ، وأخّر عنهم العذاب . قال : فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا ، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم ومضى على وجهه مغاضبا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزلّه الشيطان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبيّ ، في قوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا قال : مغاضبا لربه .

حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير فذكر نحو حديث ابن حميد ، عن سلمة ، وزاد فيه : قال : فخرج يونس ينظر العذاب ، فلم ير شيئا ، قال : جرّبوا عليّ كذبا فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : سمعته يقول : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا ، وكان في خلقه ضيق . فلما حملت عليه أثقال النبوّة ، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل ، تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل ، فقذفها بين يديه ، وخرج هاربا منها . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاصْبرْ كمَا صَبَرَ أُولُو العَزْم مِنَ الرسُلِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ : أي لا تُلْقِ أمري كما ألقاه .

وهذا القول ، أعني قول من قال : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، أشبه بتأويل الاَية ، وذلك لدلالة قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ على ذلك . على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه ، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له . وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا ، وذلك أن الذين قالوا : ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك ، فقال بعضهم : إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم ، واسْتَحْيَا منهم ، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء . وقال بعض من قال هذا القول : كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب ، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب ، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك . وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة يونس ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .

وقال آخرون : بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن يُنْظره ليتأهب للشخوص إليهم ، فقيل له : الأمر أسرع من ذلك ولم يُنْظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً ليلبسها ، فقيل له نحو القول الأوّل . وكان رجلاً في خلقه ضيق ، فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبا .

وممن ذُكر هذا القول عنه : الحسن البصريّ .

حدثني بذلك الحارث ، قال : حدثنا الحسن بن موسى ، عن أبي هلال ، عن شهر بن حوشب ، عنه .

قال أبو جعفر : وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا : ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم ، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم ، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه . ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة ، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها ، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ويقول : فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .

وقوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه . من قولهم قدرت على فلان : إذا ضيقت عليه ، كما قال الله جلّ ثناؤه : وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول : ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول : ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره . وعقوبته أخذ النون إياه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : فظنّ أن لن نعاقبه بذنبه .

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : ثني شعبة ، عن مجاهد ، ولم يذكر فيه الحكم .

حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : يقول : ظنّ أن لن نعاقبه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والكلبيّ : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قالا : ظنّ أن لن نقضيَ عليه العقوبة .

حُدثت عن الحسين . قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ يقول : ظنّ أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه وفراقه إيّاهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن عباس ، في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : البلاء الذي أصابه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزلّه الشيطان ، حتى ظن أن لن نقدر عليه . قال : وكان له سلف وعبادة وتسبيح . فأبى الله أن يدعه للشيطان ، فأخذه فقذفه في بطن الحوت ، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم ، فأمسك الله نفسه ، فلم يقتله هناك . فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه . قال : فقال : سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ قال : فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته بما كان سلف من العبادة والتسبيح ، فجعله من الصالحين . قال عوف : وبلغني أنه قال في دعائه : وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وكان له سلف من عبادة وتسبيح ، فتداركه الله بها فلم يَدَعْه للشيطان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن إياس بن معاوية المدني ، أنه كان إذا ذكر عنده يونس ، وقوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول إياس : فلِم فرّ ؟

وقال آخرون : بل ذلك بمعنى الاستفهام ، وإنما تأويله : أفظنّ أن لن نقدر عليه ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : هذا استفهام . وفي قوله : فَمَا تُغْنِي النّذُر قال : استفهام أيضا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عَنَى به : فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه ، عقوبة له على مغاضبته ربه .

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة ، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته ، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه ، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله ، وذلك وصف له بالكفر ، وغير جائز لأحد وصفه بذلك . وأما ما قاله ابن زيد ، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن ، ولكنه لادلالة فيه على أن ذلك كذلك . والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام ، فإذا لم يكن في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد ، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان ، صحّ الثالث وهو ما قلنا .

وقوله : فَنَادَى في الظّلُماتِ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات ، فقال بعضهم : عُني بها ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : فَنادَى في الظّلُمات قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل . وكذلك قال أيضا ابن جُرَيْج .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نادى في الظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت لا إله إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ .

حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا محمد بن رفاعة ، قال : سمعت محمد ابن كعب يقول في هذه الاَية : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت .

حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل .

وقال آخرون : إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر . قالوا : فذلك هو الظلمات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : أوحى الله إلى الحوت أن لا تضرّ له لحما ولا عظما . ثم ابتلع الحوت حوت آخر ، قال : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الحوت ، ثم حوت ، ثم ظلمة البحر .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات : إنْ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات : بطن الحوت ، وبالأخرى : ظلمة البحر ، وفي الثالثة اختلاف ، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل ، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر . ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل .

وقوله : لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ يقول : نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ في معصيتي إياك . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نادَى في الظّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ معترفا بذنبه ، تائبا من خطيئته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : أبو معشر : قال محمد بن قيس : قوله : لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ ما صنعتُ من شيء فلم أعبد غيرك ، إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ حين عصيتك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، قال : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات . ثم حرّك رجله ، فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا ربّ اتخذتُ لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع ، مولى أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا أرَادَ اللّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، أوْحَى اللّهُ إلى الحُوتِ : أنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما فأخَذَهُ ، ثُمّ هَوَى بِهِ إلى مَسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ فَلَمّا انْتَهَى بِهِ إلى أسْفَلِ البَحْرِ ، سَمِعَ يُونُسُ حِسّا ، فَقالَ فِي نَفْسِهِ : ما هَذَا ؟ قالَ : فَأَوْحَى اللّهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : إنّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابّ البَحْرِ ، قالَ : فَسَبّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ ، فَقالُوا : يا رَبّنا إنّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفا بأرْضٍ غَرِيبَة ؟ قالَ : ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الحُوتِ فِي البَحْرِ . قالُوا : العَبْدُ الصّالِحُ الّذِي كانَ يَصْعَدُ إلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ ؟ قالَ : نَعَمْ . قالَ : فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذلكَ ، فَأمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السّاحِلِ كما قالَ اللّهُ تَبارَكَ وَتَعالى : وَهُوَ سَقِيمٌ » .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

التقدير واذكر «ذا النون » والنون الحوت وصاحبه يونس بن متَّى عليه السلام ، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب »{[8257]} ، وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »{[8258]} ، وهذا الحديث وقوله «لا تفضلوني على موسى »{[8259]} يتوهم أنها يعارضان قوله عليه السلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر »{[8260]} والانفصال عن هذا بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم » متأخراً في التاريخ وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر ، والوجه الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليه السلام ، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان ، وسبب الحديث يقتضي هذا ، وذلك أن يهودياً قال لا والذي فضل موسى على العالمين ، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليه السلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما وقع له ، فنهيه عليه السلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا بين الأنبياء »{[8261]} وهذا كله مع قوله : «أنا سيد ولد آدم » وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد ، بين صحيح وتأمل هذا ، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض .

قال القاضي أبو محمد : ولفظة سيد ولفظة خير شيئان ، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض ، وقوله { مغاضباً } قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فاراً بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر ، وروي أنه كان شاباً فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ الربع{[8262]} تحت الحمل ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم { ولا تكن كصاحب الحوت }{[8263]} [ القلم : 48 ] أي اصبر ودم على الشقاء بقومك ، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب { مغاضباً } ربه واستفزه إبليس{[8264]} ، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا ، فأخبرهم يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال ، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرجل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز{[8265]} ، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا ، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أَنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذباً وقال والله لا انصرفت إليهم أَبداً .

وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي ، واختلف الناس في قوله تعالى : { فظن أَن لن نقدر عليه } فقالت فرقة : استفزه إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :وهذا قول مردود ، وقالت فرقة ظن أَن لن يضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر }{[8266]} [ الإسراء : 30 ] ، وقالت فرقة هو من القدر ، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة{[8267]} ، وقالت فرقة الكلام بمعنى الاستفهام ، أَي : أفظن أن لن يقدر الله عليه ؟ ، وحكى منذر بن سعيد أَن بعضهم قرأ «أفظن » بالألف ، وقرأ الزهري «تُقَدّر » بضم النون وفتح القاف وشد الدال{[8268]} ، وقرأ الحسن «يقدر » وعنه أَيضاً «نقدر »{[8269]} ، وبعد هذا الكلام حذف كثير أقتضب لبيانه في غير هذه الآية ، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه ، واختلف الناس في جمع { الظلمات } ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت ، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس .

قال أبو محمد رحمه الله :ويصح أن يعبر ب { الظلمات } عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب{[8270]} وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجداً في موضع لم يتخذه أحد من قبلي » و { أن } مفسرة نحو قوله تعالى { أن امشوا }{[8271]} [ ص : 6 ] وفي هذا نظر وقوله تعالى : { من الظالمين } يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره .


[8257]:أخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8258]:أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج مثله عبد بن حميد، والبخاري، والنسائي، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرج مثله البخاري، ومسلم، وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما زيادة (نسبه إلى أبيه، أصاب ذنبا ثم اجتباه ربه). (الدر المنثور).
[8259]:أخرجه البخاري (193 من الجزء السابع)، ومسلم في كتاب الفضائل.
[8260]:هذا جزء من حديث طويل هو حديث الشفاعة، وقد أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وفي مسنده (1 ـ 5) نص الحديث عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفيه: (فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم)، ثم جاء فيه (فيقول: أي رب، خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر)، وأخرج الحديث أيضا ابن ماجه في الزهد، وأبو داود في السنة. وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وأخرجه البخاري، ومسلم وأحمد وغيرهم ـ قال صلى الله عليه وسلم: (إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا، وإني قد أخبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا من تنشق عنه الأرض ولا فخر) والحديث طويل، ونصه في المسند (1 ـ 281).
[8261]:أخرجه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: جاء يهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب في وجهه، فقال له، ضربني رجل من أصحابك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم فعلت؟ قال: يا رسول الله فضل موسى عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفضلوا بعض الأنبياء على بعض فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يرفع رأسه من التراب فأجد موسى عليه السلام عند العرش، لا أدري أكان فيمن صعق أم لا). وأخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري أيضا واللفظ فيه: (لا تخيروا بين الأنبياء).
[8262]:الربع: الفصيل إذا ولد في الربيع وكان أول النتاج.
[8263]:من الآية (48) من سورة (القلم).
[8264]:في بعض النسخ: "فاستزله إبليس"، وهي أيضا في القرطبي.
[8265]:البراز: الفضاء الواسع الخالي من الشجر ونحوه.
[8266]:من الآية (26) من سورة (الرعد). ومثل هذه الآية قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق.
[8267]:أي: هي من القدر الذي هو القضاء والحكم، وهو قول قتادة ومجاهد والفراء.
[8268]:وحكى الماوردي هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[8269]:روي عن أبي العباس أحمد بن يحيى بن ثعلب أنه قال في قول الله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} هو من التقدير وليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، وأنشد ثعلب: فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر يعني: ما تقدره وتقضي به يقع، وليس المراد: ما تقدر عليه.
[8270]:من الآية (15) من سورة (يوسف). وقراءة المدنيين بالألف على الجمع.
[8271]:من قوله تعالى في الآية (6) من سورة (ص): {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم}. وكانت [أن] في قوله تعالى: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت} تفسيرية لأن ما قبلها في معنى القول وهو قوله: [فنادى]، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، ويكون= التقدير: "بأنه لا إله إلا أنت"، وبهذا يكون قد حصر الألوهية فيه سبحانه وتعالى، ثم نزهه عن سمات النقص، ثم أقر بما بعد ذلك.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

عطف على { وذا الكفل } [ الأنبياء : 85 ] . وذكر ذي النون في جملة من خُصّوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما في قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له .

و ( ذو النون ) وصفٌ ، أي صاحب الحوت . لقب به يونس بن متَى عليه السلام . وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس .

وذهابُه مغاضباً قيل خروجه غضبان من قومه أهل ( نينَوى ) إذْ أبَوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته ، فالمغاضبة مفاعلة . وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس . وقيل : إنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدّة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبانَ من عدم تحقق ما أنذرهم به ، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غَضب غريب . وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره ابن جرير . والوجه أن يكون { مغاضباً } حالاً مراداً بها التشبيه ، أي خرج كالمغاضب . وسيأتي تفصيل هذا المعنى في سورة الصافات .

وقوله تعالى : { فظن أن لن نقدر عليه } يقتضي أنه خرج خروجاً غير مأذون له فيه من الله . ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل هو إليها يرسل الله غيره إليهم . وقد روي عن ابن عباس أن ( حزقيال ) ملكَ إسرائيل كان في زمنه خمسةُ أنبياء منهم يونس ، فاختاره الملِك ليذهب إلى أهل ( نينوَى ) لدعوتهم فأبى وقال : ههنا أنبياء غيري وخرج مغاضباً للملِك . وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل .

ومحلّ العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة .

ومعنى { فظن أن لن نقدر عليه } قيل نقدر مضارع قَدَر عليه أمراً بمعنى ضيّق كقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } [ الطلاق : 7 ] ، أي ظن أن لن نضيّق عليه تَحْتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة ، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقطَ تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهاداً منه ، فعوتب بما حلّ به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله . وفي « الكشاف » : أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاويةُ : « لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة فغرِقت فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . قال : وما هي ؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال : أو يظن نبيءُ الله أن الله لا يقدر عليه ؟ قال ابن عباس : هذا من القَدرْ لا من القُدرة » . يعني التضييق عليه .

وقيل { نقدر } هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القُدرة ، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذننٍ . ونقل هذا عن مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج .

وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ .

وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خُطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرةً بدافع الغضب عن غير تأمل في لوازمه وعواقبه ، قالوا : وكان في طبعه ضيق الصدر .

وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته . والتقدير : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر . قال منذر بن سعيد في « تفسيره » : وقد قرىء به .

وعندي فيه تأويلان آخران وهما : أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلاً عادة ، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة ، أي ظن بعد أن ابتلعَه الحوت .

وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده ، ولذلك قال : { إني كنت من الظالمين } مبالغة في اعترافه بظلم نفسه ، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف ، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف ، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه ، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله .

و { إني } مفسرة لفعل { نادى } .

وتقديمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء .

والظلمات : جمع ظلمة . والمراد ظلمة الليل ، وظلمة قعر البحر ، وظلمة بطن الحوت . وقيل : الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .

وقد تقدم أنا نظن أن « الظلمة » لم ترد مفردة في القرآن .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وذا النون} يعني: يونس بن متى، عليه السلام، {إذ ذهب مغاضبا} يعني: مراغما لقومه... ففارقهم من غير أن يؤمنوا.

{فظن أن لن نقدر عليه} فحسب يونس أن لن نعاقبه بما صنع. {فنادى}: فدعا ربه {في الظلمات} يعني: ظلمات ثلاث ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، فنادى: {أن لا إله إلا أنت} يوحد ربه، عز وجل، {سبحانك} نزه تعالى أن يكون ظلمه، ثم أقر على نفسه بالظلم، فقال: {إني كنت من الظالمين} يقول يونس عليه السلام: إني ظلمت نفسي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون. والنون: الحوت. وإنما عَنَى بذي النون: يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع.

وقوله:"إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا" يقول: حين ذهب مغاضبا.

واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه؛

فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب... وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه... وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ "على ذلك. على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له. وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واسْتَحْيَا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك... وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه. ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ" ويقول: "فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ".

وقوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جلّ ثناؤه: "وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ"... عن ابن عباس: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" يقول: ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه... وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟... وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك. والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ" دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان، صحّ الثالث وهو ما قلنا.

وقوله: "فَنَادَى في الظّلُماتِ" اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عُني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت... وقال آخرون: إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر. قالوا: فذلك هو الظلمات...

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات: "إن لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر. ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.

وقوله: "لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ" يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته "إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" في معصيتي إياك...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إذ ذهب مغاضبا} اختلف فيه: قال بعضهم: مغاضبا لربه أي حزينا له، لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينا لذلك...

وقال بعضهم: {إذ ذهب مغاضبا} لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه؛ خرج مكيدة لقومه لأنه السنة فيهم أنه إذا خرج رسول الله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب؛ خرج من عندهم ليخافوا العذاب، فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقا على نفسه لئلا يقتل لما أن قومه هموا بقتله؛ خرج لئلا يقتل إشفاقا على نفسه كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهر قومه لما هموا بقتله. لكن رسول الله خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة، وأيس من إيمانهم، خرج ليفرغ نفسه لعبادة ربه إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعا قومه إلى ذلك. فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوقب لذلك، والله أعلم...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديباً.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه -سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره... ترى أيبطل هذا؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك!

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»... وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله "سبحانك "فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: {فظن أن لن نقدر عليه} أنه ظن العجز، وإنما قال: {سبحانك} لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له).

في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: "وكذلك ننجي المؤمنين" وليس ههنا صريح دعاء، وإنما هو مضمون قوله: "إني كنت من الظالمين" فاعترف بالظلم فكان تلويحا.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن في هذه الحلقة من قصة يونس -عليه السلام- لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبا، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا. إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أوصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!...

إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله. وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.