المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

52- ولما جاء عيسى - عليه السلام - دعا قومه إلى الصراط المستقيم ، فأبى أكثرهم ، فلما علمَ منهم ذلك اتجه إليهم منادياً : من يناصرني في هذا الحق الذي أدعو إليه ؟ فأجابه خاصة المؤمنين بالله وبه : نحن نؤيدك وننصرك لأنك داع إلى الله ، واشهد بأنا مخلصون لله منقادون لأمره .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } فلما وجد عيسى منهم الكفر . والإحساس : هو الوجود ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ } . فأما الحسّ بغير ألف ، فهو الإفناء والقتل ، ومنه قوله : { إذْ تَحُسّونَهُمْ بِإذْنِهِ } والحسّ أيضا : العطف والرقة . ومنه قول الكميت :

هَلْ مَنْ بَكَى الدّارَ رَاجٍ أنْ تَحِسّ لَهُ *** أوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الخَضِلُ

يعني بقوله : أن تحسّ له : أن ترق له .

فتأويل الكلام : فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودا لنبوّته ، وتكذيبا لقوله ، وصدّا عما دعاهم إليه من أمر الله ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يعني بذلك : قال عيسى : من أعواني على المكذّبين بحجة الله ، والمولين عن دينه ، والجاحدين نبوّة نبيه إلى الله عزّ وجلّ ، ويعني بقوله { إلى اللّه } : مع الله ، وإنما حسن أن يقال إلى الله ، بمعنى : مع الله ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره ، ثم أرادوا الخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الآخر إذا ضمّ إليه جعلوا مكان مع إلى أحيانا ، وأحيانا تخبر عنهما بمع ، فتقول الذود إلى الذود إبل ، بمعنى : إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلاً ، فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بإلى ولم يجعلوا مكان مع إلى غير جائز أن يقال : قدم فلان وإليه مال ، بمعنى : ومعه مال .

وبمثل ما قلنا في تأويل قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .

وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين ، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما بعث الله عيسى ، فأمره بالدعوة ، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض ، فنزل في قرية على رجل ، فضافهم وأحسن إليهم ، وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد ، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه همّ وحزن ، فدخل منزله ومريم عند امرأته ، فقالت مريم لها : ما شأن زوجك أراه حزينا ؟ قالت : لا تسألي ، قالت : أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته ، قالت : فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده ، ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه ، وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له : لا يهتمّ ، فإني آمر ابني فيدعو له ، فيكفى ذلك ، قالت مريم لعيسى في ذلك ، قال عيسى : يا أمه إني إن فعلت كان في ذلك شرّ ، قالت : فلا تبال ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، قال عيسى : فقولي له : إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، قال : فلما ملأهنّ أعلمه ، فدعا الله ، فتحوّل ما في القدور لحما ومرقا وخبزا ، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط وإياه طعاما¹ فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر سأل من أين هذه الخمر ؟ قال له : هي من أرض كذا وكذا ، قال الملك : فإن خمري أوتي بها من تلك الأرض فليس هي مثل هذه ، قال : هي من أرض أخرى¹ فلما خلط على الملك اشتدّ عليه ، قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا الله ، فجعل الماء خمرا ، قال الملك ، وكان له ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحبّ الخلق إليه ، فقال : إن رجلاً دعا الله حتى جعل الماء خمرا ، ليستجابنّ له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه ، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه ، فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شرّا ، فقال الملك : لا أبالي ، أليس أراه ، فلا أبالي ما كان ، فقال عيسى عليه السلام : فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا ، قال الملك : نعم ، فدعا الله ، فعاش الغلام¹ فلما رآه أهل مملكته قد عاش ، تنادوا بالسلاح ، وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ، فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمه ، وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف ، فقال له عيسى : شاركني ، فقال اليهودي : نعم ، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم¹ فلما نام جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء ، فيطرحها ، حتى فرغ من الرغيف كله¹ فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ، فجاء برغيف ، فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد ، فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا ، فمرّوا براعي غنم ، فنادى عيسى ، يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك ، قال : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها ، فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة ، فذبحوها وشووها ، ثم قال لليهودي : كل ولا تكسرنّ عظما ! فأكلا ، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ، فقامت الشاة تثغو ، فقال : يا صاحب الغنم خذ شاتك ، فقال له الراعي : من أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، قال : أنت الساحر ، وفرّ منه . قال عيسى لليهودي : بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفا ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد ، فمرّوا بصاحب بقر ، فنادى عيسى ، فقال : يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً ! قال : ابعث صاحبك يأخذه ، قال : انطلق يا يهودي فجىء به ، فانطلق فجاء به ، فذبحه وشواه ، وصاحب البقر ينظر ، فقال له عيسى : كل ولا تكسرنّ عظما . فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ، ثم ضربه بعصاه ، وقال : قم بإذن الله ! فقام وله خوار ، قال : خذ عجلك ، قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ، قال : أنت السحّار ، ثم فرّ منه . قال اليهودي : يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه ، قال عيسى : فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها ، والعجل بعد ما أكلناه ، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد¹ فانطلقا حتى نزلا قرية ، فنزل اليهودي أعلاها ، وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى ، وقال : أنا الآن أحيي الموتى ، وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض ، فانطلق اليهودي ينادي : من يبتغي طبيبا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية ، فأخبر بوجعه ، فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه ، فقيل له : إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك ، ليس من طبيب يداويه ، ولا يُفيءُ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب ، قال : أدخلوني عليه فإني سأبرئه ، فأدخل عليه ، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ، ويقول : قم بإذن الله ، فأخذ ليصلب ، فبلغ عيسى ، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة ، فقال : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا : نعم ، فأحيا الله الملك لعيسى ، فقام وأنزل اليهودي ، فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس عليّ منة ، والله لا أفارقك أبدا ، قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال أسباط ، عن السدي لليهودي : أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما ، وأحيا هذا بعد ما مات ، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب كم كان معك رغيفا ، قال : فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد ، قال : لا بأس ، فانطلقا حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدوابّ ، فقال اليهودي يا عيسى : لمن هذا المال ، قال عيسى : دعه ، فإن له أهلاً يهلكون عليه ، فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال ، ويكره أن يعصي عيسى ، فانطلق مع عيسى ومرّ بالمال أربعة نفر¹ فلما رأوه ، اجتمعوا عليه ، فقال اثنان لصاحبيهما : انطلقا فابتاعا لنا طعاما وشرابا ودوابّ نحمل عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعاما وشرابا ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما ، فإذا أكلا ماتا ، فكان المال بيني وبينك ، فقال الاَخر نعم ، ففعلا ، وقال الآخران : إذا ما أتيانا بالطعام ، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدوابّ بيني وبينك ، فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما ، ثم قعدا على الطعام ، فأكلا منه فماتا ، وأُعلم ذلك عيسى ، فقال لليهودي : أخرجه حتى نقتسمه ، فأخرجه فقسمه عيسى بين ثلاثة ، فقال اليهودي : يا عيسى اتق الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت ، ما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف ، قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم ، قال أنا هو ، قال : عيسى : خذ حظي وحظك وحظّ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة¹ فلما حمله مشى به شيئا ، فخسف به ، وانطلق عيسى ابن مريم ، فمرّ بالحواريين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك ، فقال : أفلا تمشون حتى تصطاد الناس ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، فآمنوا به ، وانطلقوا معه ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا باللّهِ وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ } .

حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي من عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } . . . الاَية ، قال : استنصر فنصره الحواريون وظهر عليهم .

وقال آخرون : كان سبب استنصار عيسى من استنصر ، لأن من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ } .

والأنصار : جمع نصير ، كما الأشراف جمع شريف ، والأشهاد جمع شهيد . وأما الحواريون ، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا حواريين ، فقال بعضهم : سموا بذلك لبياض ثيابهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : مما روى أبي ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : إنما سموا الحواريين ببياض ثيابهم .

وقال آخرون : سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبي أرطاة ، قال : الحواريون : الغسالون ، الذين يحوّرون الثياب يغسلونها .

وقال آخرون : هم خاصة الأنبياء وصفوتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، أن قتادة ذكر رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : كان من الحواريين ، فقيل له : من الحواريون ؟ قال : الذين تصلح لهم الخلافة .

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : { إِذْ قَالَ الحَوَارِيّونَ } قال : أصفياء الأنبياء .

وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى الحواريين قول من قال : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسالين ، وذلك أن الحور عند العرب : شدة البياض ، ولذلك سمي الحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بياضه ، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين أحور ، وللمرأة حوراء ، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا من تبييضهم الثياب ، وأنهم كانوا قصارين ، فعرفوا بصحبة عيسى واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا ، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل ، حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ ، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ » يعني خاصته . وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرى والأمصار حواريات ، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن ، ومن ذلك قول أبي جَلْدَةَ اليشكُرِي :

فَقُلْ للْحَوَارِيّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنا *** وَلاَ تَبْكِنَا إِلاّ الكِلابُ النَوَابِحُ

ويعني بقوله : { قالَ الحَوَارِيّونَ } قال : هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبييضهم الثياب : آمنا بالله ، صدّقنا بالله ، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون . وهذا خبر من الله عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبياء قبله ، لا النصرانية ولا اليهودية ، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها ، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام ، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } والعدوان ، { قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ } وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم ، واشهد بأنا مسلمون ، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ، يعني وفد نصارى نجران .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات ، تقديره ، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل ، { فلما أحس } ومعنى أحس ، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض ، يقال أحسست بالشيء وحسيت به ، أصله ، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء{[3193]} ، و{ الكفر } هو التكذيب به ، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله ، فحينئذ طلب النصر ، والضمير في { منهم } لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : { قال من أنصاري إلى الله } عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم ، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها ب{ *** قال من أنصاري إلى الله } ، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس ، والأنصار جمع نصير ، كشهيد وأشهاد وغير ذلك ، وقيل جمع ناصر ، كصاحب وأصحاب وقوله : { إلى الله } يحتمل معنيين ، أحدهما : من ينصرني في السبيل إلى الله ؟ فتكون

{ إلى } دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها ، والمعنى الثاني ، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي ؟ فيكون بمنزلة قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }{[3194]} فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء ، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم{[3195]} ، إن - مع - تسد في هذه المعاني مسد «إلى » لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن { إلى } بمعنى { مع } حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق }{[3196]} فقال { إلى } بمعنى مع وهذه عجمة بل { إلى } في هذه الآية ، غاية مجردة ، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر ، و{ الحواريون } ، قوم مر بهم عيسى عليه السلام ، فدعاهم إلى نصرة ، واتباع ملته ، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام ، وصبروا في ذات الله ، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك ، واختلف الناس لم قيل لهم { الحواريون } ؟ فقال سعيد بن جبير ، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها ، وقال أبو أرطأة{[3197]} ، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين{[3198]} يحورون الثياب ، أي يبيضونها ، وقال قتادة ، الحواريون أصفياء الأنبياء ، الذين تصلح لهم الخلافة ، وقال الضحاك نحوه .

قال الفقيه الإمام أبو أحمد : وهذا تقرير حال القوم ، وليس بتفسير اللفظة ، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام ، ابن عمته بهم في قوله : وحواريَّ الزبير{[3199]} ، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ ، إذ هي من الحور ، وهو البياض ، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري ، قد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار ، الحواريات ، لغلبة البياض عليهن ، ومنه قول أبي جلدة اليشكري{[3200]} :

فقل للحواريات يبكين غيرنا . . . ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

وحكى مكي : أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألواناً شتى من ماء واحد ، وقرأ جمهور الناس «الحواريّون » بتشديد الياء ، واحدهم - حواريّ - وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي ، وقرأ إبراهيم النخعي وأبو بكر الثقفي : «الحواريون » مخففة الياء في جميع القرآن ، قال أبو الفتح{[3201]} : العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها ، ومتى جاءت في نحو قولهم ، العاديون القاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه ، فكان يجب على هذا أن يقال ، الحوارون ، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالاً لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد محتمل للضمة ، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة وحملها الضمة تذكرا لحال الهمزة المرادة فيها .

وقول الحواريين : { واشهد } يحتمل أن يكون خطاباً لعيسى عليه السلام ، أي اشهد لنا عند الله ، ويحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى كما تقول : أنا أشهد الله على كذا ، إذا عزمت وبالغت في الالتزام ، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع : { اللهم اشهد }{[3202]} ، قال الطبري : وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران ، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى ، لا ما تقولونه أنتم ، يا من يدعي له الألوهية .


[3193]:- أضاف أبو حيان: "أو تحذف أولى سينيه في أحسست فيقال: أحست، قال: سوى أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس وشوس: جمع أشوس- وهو الذي ينظر بمؤخر عينه تكبرا وتغيظا. وقال سيبويه: "وما شذ من المضاعف- يعني في الحذف- فشبيه بباب (أقمت)- وذلك قولهم: أحست وأحسن. يريدون: أحسست وأحسسن".
[3194]:- من الآية (2) من سورة النساء.
[3195]:- ونعم: بثبوت الواو في جميع النسخ، وهو وجه جائز، ولو حذفها لكان أحسن.
[3196]:- من الآية رقم (6) في سورة المائدة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}.
[3197]:- أبو أرطأة: كذا ورد، وقد ورد في الصحابة من اسمه أبو أرطأة (انظر الكنى في الاستيعاب والإصابة). ولعله أبو أرطأة حجاج بن أرطأة الكوفي القاضي (التهذيب 2/196).
[3198]:- قصر الثوب: دقه، ومنه القصار، وحرفته هي القصارة.
[3199]:-أخرجه الشيخان، كما أخرجه البزار عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبزار والطبراني عن عبد الله بن الزبير (تفسير ابن كثير، ومجمع الزوائد 9/151).
[3200]:- أبو جلدة اليشكري: من بني يشكر. كان مولعا بالشراب، وقيل: إنه كان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج بعد أن كان من أخص الناس به، وقيل: مات في طريق مكة. (الشعر والشعراء: 619 والأغاني 11/ 291 والآمدي: 78). يقول الشاعر: قل للنساء الحضريات الصافيات البياض يبكين غيرنا. فهو لا يريد أن يبكي عليه هذا النوع من النساء، لأنه غير منعم ولا مترف، ثم طلب ألا يبكي عليه إلا الكلاب التي كانت تخرج معهم للصيد، كناية عن أنه من أهل البدو. ومثل (الحواري) في الوزن (الحوالي) للكثير الحيلة.
[3201]:- المحتسب 1/162 (بتصرف).
[3202]:-أخرجه البخاري عن أبي بكرة في باب خطبة أيام منى، والإمام مسلم عن جابر، كما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير؛ ومجمع الزوائد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

آذَنَ شرطُ لَما بجمل محذوفة ، تقديرها : فوُلِد عيسى ، وكَلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم ، وكلم الناس بالرسالة . وأراهم الآيات الموعودَ بها ، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته ، فكفروا به ، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره . أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله : { وأطيعون } [ آل عمران : 50 ] أي سمع تكذيبهم إياه وأُخبر بتمالئهم عليه . « ومنهم » متعلق بأحسّ . وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر .

وطَلَبُ النصرِ لإظهار الدعوة لله ، موقفٌ من مواقف الرسل ، فقد أخبر الله عن نوح { فدعا رَبه أنّي مغلوب فانتصر } وقال موسى : { واجعل لي وزيراً من أهلي } [ طه : 29 ] وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يُبلغ دعوة ربّه .

وقوله : { قال من أنصاري إلى الله } لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبْلاغاً للدعوة ، وقطعاً للمعذرة . والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه . ووصل وصْفَ { أنصاري } بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي مَن ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي ، الذي وعدني به ؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله : قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] على نحو قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي ضامِّينها فهو ظرف لغو ، وإما على جعله حالاً من ياء المتكلم والمعنَى في حال ذهابي إلى الله ، أي إلى تبليغ شريعته ، فيكون المجرور ظرفاً مستقراً . وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله .

والحواريون : لقب لأصحاب عيسى ، عليه السلام : الذين آمنوا به ولازموه ، وهو اسم معرَّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أى غسّال الثياب .

وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته .

وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " لكل نبيِّء حَوَارِيٌّ وحَوارِيّ الزُّبَيْر بنُ العوام " .

وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء .

والحواريون اثنا عشر رجلا وهم : سَمْعَان بطرس ، وأخوه أندراوس ، ويوحنا بن زبْدي ، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلّهم صيادو سَمك ومتَّى العشَّار وتوما وفيليبس ، وبرثو لماوس ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوى ، ويهوذا الأسخريوطي .

وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله ، وليس في قولهم : { نحن أنصار الله } ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً ، فلم يحصل تعريف الجزأين ، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب .

وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود ، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم ، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام ، ومريم المجدلية ، وأم يوحنا ، وحماة سمعان ، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس ، وسوسة ، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره .