القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن جاهدك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري مما لا تعلم أنه لي شريك ، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا ، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي ، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا يقول : وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه فيما بينك وبين ربك ولا إثم . وقوله : وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ : أي من أقبل إليّ .
وقوله : إليّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
فإن قال لنا قائل : ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه ؟ قيل ذلك أيضا ، وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به ، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه ، فكان معنى الكلام : وَإذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولا تطع في الشرك به والديك وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا فإن الله وصّى بهما ، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله ، وفيه هذا المعنى ، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته .
وقوله تعالى : { وإن جاهداك } الآية روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية لما أسلم حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دنيه ويرجع إلى دين قومه فلج سعد في الإسلام ، وكانت هي إذا أفرط عليه الجوع والعطش شحوا فاها ، ويروى شجروا فاها ، أي فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها ، فلما طال ذلك ورأت أن سعداً لا يرجع أكلت ، ففي هذه القصة نزلت الآيات ، قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين{[9364]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : فمطلب الآية الأولى الأمر ببر الوالدين وتعظيمه ، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي ، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب ، ومنه أمر جهاد الكفاية والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، على أن أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة ، فلا يكون أقوى من الندب ، وخالف الحسن في هذا الفصل فقال إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها ، وقوله { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } يعني الأبوين الكافرين أي صلهما بالمال وادعهما برفق ، ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها ، وقيل أمها من الرضاعة ، فقالت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال نعم . وراغبة قيل معناه عن الإسلام .
قال الفقيه الإمام القاضي : والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها ، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد عزى بن عبد أسعد{[9365]} وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام .
وقوله تعالى : { واتبع سبيل من أناب إليّ } ، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان ، و { أناب } معناه ، مال ورجع إلى الشيء ، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين ، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر ، وقال : إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا آمنت ؟ قال نعم ، فنزلت فيه { أمن هو قانت آناء الليل }{[9366]} [ الزمر : 9 ] فلما سمعها الستة آمنوا فأنزل الله تعالى فيهم { والذين اجتنبوا الطاغوت } [ الزمر : 17 ] إلى قوله { أولئك الذي هداهم الله }{[9367]} [ الزمر : 18 ] . ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها .
وتقدم الكلام على نظير قوله { وإن جاهداك لتشرك بي إلى فلا تطعهما } في سورة العنكبوت ( 8 ) ، سوى أنه قال هنا { على أن تُشرِك بي } وقال في سورة العنكبوت { لِتُشْرِك بِي } فأما حرف { على } فهو أدلّ على تمكن المجاهدة ، أي مجاهدة قوية للإشراك ، والمجاهدة : شدة السعي والإلحاح . والمعنى : إن ألحَّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما . وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعَوَا إلى الإشراك . وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعداً كان غنياً عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه .
وقال القرطبي : إن امرأة لقمان وابنه كانا مُشركَيْن فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا ، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحاً .
والمصاحبة : المعاشرة . ومنه حديث معاوية بن حيدة « أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أحقُّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمَّك » الخ .
والمعروف : الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن ، أي صاحبْ والديْك صحبةً حسنة ، وانتصب { معروفاً } على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل { صاحِبْهُما ، } أي صِحاباً معروفاً لأمثالهما . وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما ، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر ، وشمل ذلك أن يدعو الوَالدُ إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يُطاعَان إذا أمرَا بمعصية . وفهم من ذكر { وصاحبْهما في الدنيا معروفاً } أثر قوله { وإن جاهداك على أن تشرك بي } الخ . . . أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما . وفي الحديث : أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي جاءت راغبة أفأصلها ؟ فقال : نعم ، صلي أمَّككِ ، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى . وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما ، وإن كان منكراً للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا : إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر ، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه . واتباعُ سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله ، أي الراجعين إليه ، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم ( 33 ) عند قوله { منيبين إليه } وفي سورة هود ( 88 ) . فالمراد بمن أناب : المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك .
وجملة { ثم إلي مرجعكم } معطوفة على الجمل السابقة و { ثم } للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها ، أي وعلاوة على ذلك كله إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . وضمير الجمع للإنسان والوالدين ، أي مرجع الجميع . وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص ، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام . وفرع على هذا { فأنبئكم } الخ . . . والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة . وجملة { ثم إليّ مرجعكم } وَعد ووعيد . وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف .