القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين ، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله : قاتِلوُهُمْ يُعْذّبْهُمُ اللّهُ بأيْديكُمْ . . . الآية ، حاضّا على جهادهم : أم حسبتم أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها وبغير اختبار يختبركم به ، فيعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه . وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا يقول : أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله ، من المضيعين أمر الله في ذلك المفرّطين . ولَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُون اللّهِ وَلا رَسُولِهِ يقول : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ، ولا من دون المؤمنين وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره ، يقال منه : ولج فلان في كذا يَلِجُهُ فهو وليجة . وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين ، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوّهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم . وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يقول : والله ذو خبرة بما تعملون من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياء وبطانة بعد ما قد نهاكم عنه ، لا يخفى ذلك عليه ولا غيره من أعمالكم ، والله مجازيكم على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا .
وبنحو الذي قلت في معنى الوليجة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا المُؤمِنِينَ وَلِيجَةَ يتولجها من الولاية للمشركين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : وَلِيجَةً قال : دَخَلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُواإلى قوله : ولِيَجَةً قال : أبي أن يعدهم دون التمحيص ، وقرأ : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وقرأ : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم وَلمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ . . . الاَيات كلها ، أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحصهم ويختبرهم ، وقرأ : الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلْيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ أبى الله إلا أن يمحص .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : وَلِيجَةً قال : هو الكفر والنفاق ، أو قال أحدهما .
وقيل : أمْ حَسِبْتُمْ ولم يقل : «أحسبتم » ، لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ، فأدخلت فيه «أم » ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ وقد بيّنت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب .
{ أم حسبتم } خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال ، وقيل للمنافقين و{ أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان . { أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم ، نفى العلم وأراد نفي المعلوم لمبالغة فإن كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه . { ولم يتخذوا } عطف على { جاهدوا } داخل في الصلة . { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم . وما في { لما } من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع . { والله خبير بما تعملون } يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : { ولما يعلم الله } .
{ أم } في هذه الآية ليست المعادلة ، وإنما هي المتوسطة في الكلام ، وهي عند سيبويه التي تتضمن إضراباً عن اللفظ لا عن معناه ، واستفهاماً فهي تسد مسد بل وألف الاستفهام ، وهي التي في قولهم : «أنها لإبل أم شاء » التقدير بل أهي شاء ، وقوله { أن تتركوا } يسد عند سيبويه مسد مفعولي «حسب » ، وقال المبرد : «أن » وما بعدها مفعول أول والثاني محذوف .
قال القاضي أبو محمد : كان تقديره مهملين أو سدى ونحو ذلك ، وقوله { ولما } هي دخلت على لم وفيها مبالغة ، ومعنى الآية أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان ؟ ف { لما } في هذه الآية بمنزلة قول الشاعر [ الفرزدق ] : [ الطويل ]
بأيدي رجال لم َيشيموا سيوفهم*** ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّتِ{[5552]}
قال القاضي أبو محمد : والمراد بقوله { ولما يعلم } لما يعلم ذلك موجوداً كما علمه أزلاً بشرط الوجود ولما يظهر فعلكم واكتسابكم الذي يقع عليه الثواب والعقاب ففي العبارة تجوز وإلا فحتم أنه قد علم الله في الأزل الذين وصفهم بهذه الصفة مشروطاً وجودهم ، وليس يحدث له علم{[5553]} تبارك وتعالى عن ذلك ، و { وليجة } معناه بطانة ودخيلة ، وقال عبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]
ولائجهم في كل مبدىً ومحضر*** إلى كل من يرجى ومن يتخوفُ{[5554]}
وهو مأخوذ من الولوج ، فالمعنى أمراً باطناً مما ينكره الحق ، وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }{[5555]} وكقوله { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }{[5556]} وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عندما فرض القتال ، وقرأ جمهور الناس «والله خبير بما تعملون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الحكاية عن الغائب .
{ أم } منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر .
والكلام بعد { أم } المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً ، فقوله : { حسبتم } في قوة ( أحسبتم ) والاستفهام المقدّر إنكاري .
والخطاب للمسلمين ، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم ، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام .
وحسبتم : ظننتم . ومصدر حسب ، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء .
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه ، أي : أن يترككم الله ، فحُذف فاعل الترك لظهوره .
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق : من حال أو مجرور ، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه ، كقوله تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] ومثل قول عنترة :
وقول كبشة بنت معد يكرب ، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن :
وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم
وحذف متعلِّق { تتركوا } في الآية : لدلالة السَياق عليه ، أي أن تتركوا دون جهاد ، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة .
والمعنى : كيف تحسبون أن تتركوا ، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله .
وجملة { ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلخ في موضع الحال من ضمير { تتركوا } أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد ، وحصول تثاقل من تثاقلوا ، وحصول ترك الجهاد من التاركين .
و { لمّا } حرف للنفي ، وهي أخت ( لم ) . وقد تقدّم بيانها ، والفرق بينها وبين ( لم ) عند قوله تعالى : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] وقوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } في سورة آل عمران } ( 142 ) .
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا : علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم ، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة ، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع ، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } في سورة آل عمران ( 142 ) .
و ( الوليجة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يُولجها ، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير وليجة } في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها .
و { من دون الله } متعلّق ب { وليجة } في موضع الحال المبيّنة .
و { من } ابتدائية ، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين .
وجملة { والله خبير بما تعملون } تذييل لإنكار ذلك الحسبان ، أي : لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه .