المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

25- لقد نصركم الله - أيها المؤمنون - على أعدائكم في كثير من المواقع بقوة إيمانكم ، وحين غرتكم كثرتكم في معركة «حُنَيْن » ترككم الله لأنفسكم أول الأمر ، فلم تنفعكم كثرتكم شيئاً ، وظهر عليكم عدوكم ، ولشدة الفزع ضاقت عليكم الأرض ، فلم تجدوا سبيلا للقتال أو النجاة الشريفة ، ولم يجد أكثركم وسيلة للنجاة غير الهرب ، ففررتم منهزمين ، وتركتم رسول الله مع قلة من المؤمنين{[79]} .


[79]:كانت موقعة حنين بين المسلمين وقبيلتي وهوازن، وكان جيش المسلمين فيها يبلغ نحو اثني عشر ألفا، وعدد الكفار نحو أربعة آلاف، وقد شددوا في القتال، لأن القضاء عليهم قضاء على آخر نفوذ للوثنية في العرب، لأن مكة فتحت قبل ذلك بقليل، وقد التقى الفريقان المؤمنون بكثرتهم وقد أعجبتهم، وأولئك بقلتهم العنيفة، وكانت الجولة للشرك لغرور المسلمين، ولكن انتهت المعركة بنصر المؤمنين، والعبرة في هذه الغزوة أن الكثرة العددية ليست هي عامل النصر إنما عامل النصر هو القوة المعنوية.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ } .

يقول تعالى ذكره : لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة . وَيَوْمَ حُنَيْنٍ يقول : وفي يوم حنين أيضا قد نصركم . وحنين : واد فيما ذكر بين مكة والطائف وأُجري لأنه مذكر اسم لمذكر ، وقد يترك إجراؤه ويراد به أن يجعل اسما للبلدة التي هو بها ، ومنه قول الشاعر :

نَصَرُوا نَبِيّهُمُ وَشَدّوا أزْرَهُ *** بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : حنين : واد إلى جنب ذي المجاز .

إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وكانوا ذلك اليوم فيما ذكر لنا اثني عشر ألفا . ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلكَ اليَوْم : «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلّةٍ » . وقيل : قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الله : إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنْكُمْ شَيْئا يقول : فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا . وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقول : وضاقت الأرض بسعتها عليكم . والباء ههنا في معنى «في » ، ومعناه : وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها ، يقال منه : مكان رحيب : أي واسع وإنما سميت الرحاب رحابا لسعتها . ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ عن عدوّكم منهزمين مدبرين ، يقول : وليتموهم الأدبار ، وذلك الهزيمة . يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده ، وأنه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش ، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلي القليل فيهزم الكثير .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حتى بلغ : وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ قال : وحنين ماء بين مكة والطائف قاتل عليها نبيّ الله هوازن وثقيف ، وعلى هوازن مالك بن عوف أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد يا ليل بن عمرو الثقفي . قال : وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا ، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الطلقاء ، وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ : لن نغلب اليوم بكثرة قال : وذُكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس ، وجلوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء . وذُكر لنا أن نبيّ الله قال : «أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي » قال : والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نادِ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ويا مَعْشَر المُهاجِرِينَ » فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا ، ثم نادي : يا أصحاب سورة البقرة قال : فجاء الناس عُنُقا واحدا . فالتفت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا عصابة من الأنصار ، فقال : «هَلْ مَعَكُمْ غيرُكُمْ ؟ » فقالوا : يا نبيّ الله ، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك ثم أنزل الله نصره ، وهزم عدوّهم ، وتراجع المسلمون . قال : وأخذ رسول الله كفّا من تراب ، أو قبضة من حصباء ، فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : «شاهَتِ الوُجُوهُ » فانهزموا . فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم ، وأتى الجعرانة ، فقسم بها مغانم حنين ، وتألف أناسا من الناس فيهم أبو سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس ، فقالت الأنصار : حنّ الرجل إلى قومه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم ، فقال : «يا مَعْشَر الأنْصارِ ، ما هَذا الّذِي بَلَغَنِي ؟ ألَمْ تَكُونُوا ضُلاّلاً فَهَدَاكُمُ اللّهُ ، وكُنْتُمْ أذِلّةً فَأعَزّكُمُ اللّهُ وكُنْتُمْ وكُنْتُمْ » قال : فقال سعد بن عبادة رحمه الله : ائذن لي فأتكلم قال : «تَكَلّمْ » قال : أما قولك : كنتم ضُلاّلاً فهداكم الله ، فكنا كذلك ، وكنتم أذلة فأعزّكم الله ، فقد علمت العرب ما كان حيّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا فقال الرسول : «يا سَعْدُ أتَدْرِي مَنْ تُكَلّمُ ؟ » فقال : نعم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ سَلَكَتِ الأنْصارُ وَادِيا والنّاسُ وَادِيا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ ، وَلَوْلا الهِجْرةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأنْصَارِ » . وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «الأنْصَارُ كَرِشِي وعَيْبَتِي ، فاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وتَجاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَنْقَلِبَ النّاسُ بالإبِلِ والشّاءِ ، وَتَنْقَلِبُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إلى بُيَوتكُمْ ؟ » فقالت الأنصار : رضينا عن الله ورسوله ، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدّقانِكُمْ ويَعْذُرَانِكُمْ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أوظئره من بني سعد بن بكر أتته فسألته سبايا يوم حُنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لا أمْلِكُهُمْ وإنّمَا لي مِنْهُمْ نَصِيِبي ، وَلكِنْ ائْتِيِني غَدا فَسَلِيِني والنّاسُ عِنْدِي ، فإنّي إذَا أعْطَيْتُكِ نَصِيِبي أعْطاكِ النّاسُ » فجاءت الغد فبسط لها ثوبا ، فقعدت عليه ، ثم سألته ، فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ . . . الآية : إن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال : يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وأعجبته كثرة الناس ، وكانوا اثني عشر ألفا . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوكلوا إلى كلمة الرجل ، فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير العباس وأبي سفيان بن الحرث وأيمن ابن أم أيمن ، قُتل يومئذ بين يديه . فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ الأنْصَارُ ؟ أيْنَ الّذِينَ بايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ؟ » فتراجع الناس ، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذ ، وذلك قوله : ثُمّ أنْزَلَ اللّهُ سَكيِنَتَهُ على رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْها . . . الآية .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب ، عن أبيه ، قال : لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون ، فولى المسلمون يومئذ . قال : فلقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وما معه أحد إلا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، آخذا بغَرْز النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا يألو ما أسرع نحو المشركين . قال : فأتيت حتى أخذت بلجامه وهو على بغلة له شهباء ، فقال : «يا عبّاس نادِ أصحَابَ السّمُرَةِ » وكنتُ رجلاً صَيّتا ، فأذنت بصوتي الأعلى : أين أصحاب السمرة ؟ فالتفتوا كأنها الإبل إذا حنت إلى أولادها ، يقولون : يا لبيك يا لبيك يا لبيك وأقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادت الأنصار : يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة في بني الحرث بن الخزرج ، فتنادوا : يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم ، فقال : «هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ » . ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها ، ثم قال : «انْهَزَمُوا وَرَبّ الكُعْبَةِ انْهَزَمُوا وَرَبّ الكَعْبَةِ » قال : فوالله ما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله . قال : فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب . أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبيّ ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ ، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أصْدَقُهُ ، اخْتارُوا إمّا ذَرَارِيّكُمْ وَنِساءَكُمْ وَإمّا أمْوَالَكُمْ » قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ هَؤُلاءِ قَدْ جاءُونِي مُسْلِمِينَ ، وإنّا خَيّرْناهُمْ بينَ الذّرَارِي والأمْوَالِ فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأحْسابِ شَيْئا ، فَمَنْ كانَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطابَتْ نَفْسُهُ أنْ يَرُدّهُ فَلْيَفْعَلْ ذلكَ ، وَمَنْ لا فَلْيُعْطِنا ، وَلْيَكُنْ قَرْضا عَلَيْنا حتى نُصِيبَ شَيْئا فَنُعْطيَهَ مَكانَهُ » فقالوا : يا نبيّ الله رضينا وسلمنا . فقال : «إنّي لا أدْرِي ، لَعَلّ مِنْكُمْ مَنْ لا يَرْضَى ، فَمُرُوا عُرَفاءَكُمْ فَلْيَرْفَعُوا ذلكَ إلَيْنا » فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، عن أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن ، يعني الفهري ، قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فلما ركدت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي ، حتى أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في ظلّ شجرة ، فقلت : يا رسول الله قد حان الرواح ، فقال : «أجَلْ » فنادى : «يا بِلال يا بلالُ » فقام بلال من تحت سمرة ، فأقبل كأن ظله ظل طير ، فقال : لبيك وسعديك ، ونفسي فداؤك يا رسول الله فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أسْرِجْ فَرَسِي » فأخرج سرجا دفتاه حشوهما ليف ، ليس فيهما أشر ولا بطر . قال : فركب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فصاففناهم يومنا وليلتنا فلما التقى الخيلان ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عِبادَ اللّهِ ، يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ » قال : ومال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن فرسه ، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها وجوههم ، فولوا مدبرين . قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء ، وسأله رجل من قيس : فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال البراء : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، وكانت هوازن يومئذ رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحرث آخذ بلجامها ، وهو يقول :

أنا النّبِيُ لا كَذِبْ *** أنا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : سأله رجل : يا أبا عمارة ، وليتم يوم حنين ؟ فقال البراء وأنا أسمع : أشهد أن رسول الله لم يولّ يومئذ دبره ، وأبو سفيان يقود بغلته ، فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول :

أنا النّبِيّ لا كَذْبْ *** أنا ابنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

فما رؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدّ منه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، عن عبد الرحمن مولى أم برثن ، قال : ثني رجل كان من المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاة أن كشفناهم . فبينا نحن نسوقهم ، إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، فتلقانا رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا ، وركَبنا القوم فكانت إياها .

حدثنا ابن حيمد ، قال : حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : أمدّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين . قال : ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين . قال : فَأنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا قال : كانوا اثني عشر ألفا .

حدثنا محمد بن يزيد الاَدمي ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، عن سعيد بن السائب الطائفي ، عن أبيه ، عن يزيد بن عامر ، قال : لما كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين ، ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ منها قبضة من تراب ، فأقبل بها على المشركين وهم يتبعون المسلمين ، فحثاها في وجوههم وقال : «ارْجِعُوا شاهَتِ الوُجُوهُ » قال : فانصرفنا ما يلقي أحد أحدا إلا وهو يمسح القذى عن عينيه .

وبه عن يزيد بن عامر السوائي ، قال : قيل له : يا أبا حاجز ، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين ماذا وجدتم ؟ قال : وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطنّ ، ثم يقول : كان في أجوافنا مثل هذا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني المعتمر بن سليمان ، عن عوف ، قال : سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو أم مريم ، قال : ثني رجل كان في المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حَلَبَ شاة ، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } يعني مواطن الحرب وهي مواقفها . { ويوم حُنين } وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } منه أن يعطف على موضع في { مواطن } فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن . و{ حنين } واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس - وكان صيتا – " صح بالناس " ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا . { فلم تُغن عنكم } أي الكثرة . { شيئا } من الإغناء أو من أمر العدو . { وضاقت عليكم الأرض بما رحّبت } برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه . { ثم ولّيتم } الكفار ظهوركم . { مدبرين } منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف الإقبال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و { مواطن } جمع موطِن بكسر الطاء ، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن » المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف { مواطن } لأنه جمع ونهاية جمع ، { ويوم } عطف على موضع قوله { في مواطن } أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و { حنين } واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [ حسان رضي الله عنه ] : [ الكامل ]

نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه*** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ{[5580]}

وقوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال : «لن نغلب اليوم من قلة » ، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما » مصدرية ، وقوله { ثم وليتم مدبرين } يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه الله ، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقاً واحداً{[5581]} وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير .

وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً ، وهذا غلط ، و { مدبرين } نصب على الحال المؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً }{[5582]} والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار .


[5580]:- البيت لحسّان بن ثابت (الصحاح-حنن) قال: وحنين: موضع يذكر ويؤنث، فإن قصدت به البلدة والموضع ذكّرته وصرفته، كقوله تعالى: {يوم حنين}، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنثته ولم تصرفه كما قال الشاعر: وساق البيت. وقال الفراء في معاني القرآن": "وقوله {ويوم حنين}: واد بين مكة والطائف. وجرى حنين لأنه اسم لمذكر، وإذا سميت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكر لا علة فيه أجريته، من ذلك حنين وبدر وأحد وحراء وثبير ودابق وواسط. وإنما سمي واسطا بالقصر الذي بناه الحجاج بين الكوفة والبصرة، ولو أراد البلدة أو اسما مؤنثا لقال: واسطة، وربما جعلت العرب (واسط وحنين وبدر) اسما لبلدته التي هو فيها فلا يجرونه، وأنشد بعضهم: نصروا نبيهم***الخ".
[5581]:- بضم العين والنون: جماعة واحدة، ومنه حديث فزارة: (انظروا إلى عنق الناس) أي: جماعتهم، ومنه حديث الحديبية: (وإن نجوا تكن عنق قطعها الله) أي: جماعة من الناس. قاله ابن الأثير في النهاية.
[5582]:- من الآية (91) من سورة (البقرة)، وفيها يقول سبحانه: {ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم}.