المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

117- وكيف يحتاج لنسل أو يتخذ ولداً من أبدع السماوات والأرض وأذعن كل ما فيها لإرادته فلا يستعصى شيء عليه ، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له : كن ، فيكون ؟ .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

يعني جل ثناؤه بقوله : بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ مبدعها . وإنما هو «مُفْعل » صرّف إلى «فَعِيل » ، كما صرّف المؤلم إلى أليم ، والمسمع إلى سميع . ومعنى المبدع : المنشىء والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلاً أو قولاً لم يتقدّمه فيه متقدّم ، فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن عليّ الحنفي :

يَرْعَى إلى قَوْلِ سادَاتِ الرّجالِ إذَا *** أبْدَوْا لَهُ الحَزْمَ أوْ ما شَاءَهُ ابْتَدَعا

أي يحدث ما شاء . ومنه قول رؤبة بن العجّاج :

فأيّها الغاشِي القِذَافَ ألا تْيَعا *** إنْ كُنْتَ لِلّهِ التّقِيّ أَلا طْوَعا

***فَلَيْسَ وَجْهُ الحَقّ أنْ تَبَدّعا***

يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه .

فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقرّ له بالطاعة وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده ، أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوّته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : ابتدعها فخلقها ، ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .

يعني جل ثناؤه بقوله : وَإِذَا قَضَى أمْرا وإذا أحكم أمرا وحَتَمه . وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكامُ والفراغ منه ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : القاضي بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقَطْعه الحكم بينهم وفراغه منه . ومنه قيل للميت : قد قَضَى ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها . ومنه قيل : ما ينقضي عجبي من فلان ، يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : تَقَضّى النهارُ : إذا انصرم . ومنه قول الله عز وجل : { وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ } أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله :

{ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ } أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب :

وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُما دَاوُدُ أوْ صَنَعَ السّوَابِغِ تُبّعُ

ويُروى : «وتَعاوَرَا مَسْرُودَتينِ قَضَاهُما » .

ويعني بقوله : { قضاهما } : أحكمهما . ومنه قول الاَخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

قَضَيْتُ أُمُورا ثُمّ غَادَرْتَ بَعْدَها بِوَائِقَ في أكْمَامِها لَمْ تَفَتُقِ

ويروى : «بوائج » .

وأما قوله : ف{ َإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر «كُنْ » ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده .

فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ؟ وفي أيّ حال يقول للأمر الذي يقضيه كُنْ ؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذ كان محالاً أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر وكما محال الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور . أم يقول له ذلك في حال وجوده ، وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود : كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه ؟ قيل : قد تنازع المتأوّلون في معنى ذلك ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتلّ بها كل فريق منهم لقوله في ذلك :

قال بعضهم : ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أَمْرِهِ من أَمَرَ من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه . فوجه قائلو هذا القول قوله : وَإِذَا قَضَى أمْرا فَانّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إلى الخصوص دون العموم .

وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها ، وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه . فلما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : «كوني » ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصوّر جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .

وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم ، فتأويلها الخصوص لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور على ما وصفت قبل .

قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حيّ ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحيّ كُنْ ميتا ، أو لميت كُنْ حيا ، وما أشبه ذلك من الأمر .

وقال آخرون : بل ذلك من الله عزّ وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكوّنه أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه كان ووُجِدَ . ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة إلا وجود المخلوق ، وحدوث المقضي وقالوا : إنما قول الله عزّ وجل : { وَإِذَا قَضَى أَمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نظير قول القائل : قال فلان برأسه ، وقال بيده إذا حرّك رأسه أو أومأ بيده ولم يقل شيئا . وكما قال أبو النجم :

وقَالَتِ الأنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقِ قِدْما فآضَتْ كالفَنِيقِ المُحْنِقِ

ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حُممة الدوسي :

فأصْبَحْتُ مِثْلَ النّسْرِ طارَتْ فِرَاخُهُ إذَا رَامَ تَطْيارا يُقال لَهُ قَعِ

ولا قول هناك ، وإنما معناه : إذا رام طيرانا ووقع ، وكما قال الاَخر :

امْتَلأ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي سَيْلاً رُوَيْدا قَدْ مَلأتُ بَطْنِي

وأولى الأقوال بالصواب في قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أن يقال : هو عامّ في كل ما قضاه الله وبرأه ، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » . وإذْ كان ذلك كذلك ، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : كُنْ في حال إرادته إياه مكوّنا ، لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه . فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك . ونظير قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه .

ويسأل من زعم أن قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } خاصّ في التأويل اعتلالاً بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده ؟ أم هي في خاصّ من الخلق ؟ فلن يقول في ذلك قولاً إلا أُلزم في الاَخر مثله .

ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : { فَإنّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نظير قول القائل : قال فلان برأسه أو بيده ، إذا حرّكه وأومأ ، ونظير قول الشاعر :

تَقُولُ إذَا دَرأتُ لَهَا وَضِينِي أهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِينِي

وما أشبه ذلك ؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا . فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : «كُنْ » ، أفتنكرون أن يكون قائلاً ذلك ؟ فإن أنكروه كذّبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة ، وإن قالوا : بل نقرّ به ، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : قال الحائط فمال ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط . قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل ؟

فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها . وإن قالوا : ذلك غير جائز ، قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كُنْ فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء وَوَصَفَه ووَكّده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : قال الحائط فمال . فكيف لم يعلموا بذلك فَرْقَ ما بين معنى قول الله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ } وقول القائل : قال الحائط فمال ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله .

وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فتبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : فَيَكُونُ رفع على العطف على قوله : يقول لأن القول والكون حالهما واحد . وهو نظير قول القائل : تاب فلان فاهتدى ، واهتدى فلان فتاب لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب . فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود ولذلك استجاز من استجاز نَصْبَ «فَيَكُونَ » مَنْ قَرأ : { إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أرَدْنَاهُ أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ } بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون .

وأما رَفْعُ من رَفَعَ ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تمّ عند قوله : { إِذَا أَرَدْنَاهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ }إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله : «فيكون ، كما قال جل ثناؤه : { لِنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ } ، وكما قال ابن أحمر :

يُعالِجُ عاقِرا أعْيَتْ عَلَيْهِ لِيُلْقِحَها فَيَنْتِجُها حُوَارَا

يريد : فإذا هو ينتجها حُوَارا .

فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقرّ له بالعبودية بدلالته على وحدانيته . وأنّى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذّر عليه به شيء أراده ، بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : «كُنْ » ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه إذْ أراد خلقه من غير والد .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم عظم نفسه، فقال: {بديع السماوات والأرض} ابتدعهما ولم يكونا شيئا.

{وإذا قضى أمرا} في علمه أنه كائن.

{فإنما يقول له كن فيكون}: لا يثنى قوله كفعل المخلوقين، وذلك أن الله عز وجل، قضى أن يكون عيسى صلى الله عليه وسلم في بطن أمه من غير أب، فقال له: كن، فكان...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ": مبدعها... ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلاً أو قولاً لم يتقدّمه فيه متقدّم، فإن العرب تسميه مبتدعا...

فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقرّ له بالطاعة وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته...

"وَإِذَا قَضَى أمْرا": وإذا أحكم أمرا وحَتَمه. وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكام والفراغ منه ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: القاضي بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقَطْعه الحكم بينهم وفراغه منه. ومنه قيل للميت: قد قَضَى، يراد به قد فرغ من الدنيا وفصل منها... ومنه قول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ} أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك...

{فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر «كُنْ»، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده...

{وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: هو عامّ في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام». وإذْ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: كُنْ في حال إرادته إياه مكوّنا، لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: {وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله، ولا يتأخر عنه...

فمعنى الآية إذا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقرّ له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنّى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذّر عليه به شيء أراده، بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: «كُنْ»، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه إذْ أراد خلقه من غير والد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فيه الحجة على هؤلاء الذين قالوا: {اتخذ الله ولدا} [البقرة: 116] بوجهين:

الأول: أن يقال: من قدر على خلق السماوات والأرض من غير شيء ولا سبب كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟

والثاني: أن يقال من له القدرة على خلق ما يصعب، ويعظم في أعينكم بأقل الأحرف عندكم، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟

وقوله: {وإذا قضى أمرا} قيل: وإذا حكم حكما: {فإنما يقول له...}...

{كن فيكون} لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن، فحدث، وإما أن كان في الأزل... و... الله تعالى موصوف في الأزل أنه محدث مكون فيكون كل شيء في الوقت الذي أراد كونه فيه، وبالله التوفيق...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

البديع عند العلماء مُوجِد العين لا على مِثْل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شيء مِثله. فهذا الاسم يشير إلى نفي المثل عن ذاته، ونفي المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أَمَدَ يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوِّره، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمراً فلا يعارض عليه مقدور، ولا ينفكُ من حكمه محظور...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وما أبدع كلية أمر كان أحرى أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه فكيف يجعل له شبيه منه؟ لأن الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه -...

والقضاء إنفاذ المقدر. والمقدر ما حدّ من مطلق المعلوم -...

{فإنما يقول له كن} من الكون وهو كمال البادي في ظاهره وباطنه {فيكون} فهو منزه عن حاجة التوالد وكل حاجة...

قال الحرالي: وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان يمتد توالها في المكون إلى غاية الكمال -انتهى...

وفائدة التعبير به مضارعاً، تصوير الحال والإرشاد إلى أن التقدير: كن فكان، لأنه متى قضى شيئاً قال له: كن، فيكون، وجعل الأحسن عطفه على {كن} لأنه وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر أي يكون؛ وقال: إن ذلك أكثر اطراداً لانتظامه لمثل قوله: {ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادئ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

وهو إذا أراد شيئا، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد ب {إذا} حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان...

وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل، والأمر لكونه منطويا على اللفظ والفعل، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجادا،

ولفظ {كن} لعموم معناه واختصار لفظه، ثم قال: {فيكون} تنبيها لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده، و {كن فيكون} وإن كان مخرجها مخرج شيئين، أحدهما مبني على الآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وأما قوله {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فمعناه أنه إذا أراد إيجاد أمر وإحداثه فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون موجودا، فكن ويكون من كان التامة.

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا ضرب من التمثيل أي أن تعلق إرادته تعالى بإيجاد الشيء يعقبه وجوده، كأمر يصدر فيعقبه الامتثال، فليس بعد الإرادة إلا حصول المراد.

وقال بعضهم بل هو قول حقيقي. قال الأستاذ الإمام وقد وقع هذا الخلاف من أهل السنة وغيرهم، وعجيب وقوعه منهم، فإن عندهم مذهبين من المتشابهات التي يستحيل حملها على ظاهرها وهما مذهب السلف في التفويض، ومذهب الخلف في التأويل، وظاهر أن هذا من المتشابه، والقاعدة في تأويل مثله معروفة ومتفق عليها وهي إرجاع [العقلي] إلى [النقلي] لأنه الأصل...

وأقول: إن الأمر بكلمة "كن "هنا هو الأصل فيما يسمونه أمر التكوين، ويقابله أمر التكليف، فالأول متعلق صفة الإرادة، والثاني متعلق صفة الكلام، وأمر التكليف يخاطب به العاقل فيسمى المكلف، ولا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم، وأمر التكوين يتوجه إلى المعدوم كما يتوجه إلى الموجود، إذ المراد به جعله موجودا، وإنما يوجه إليه لأنه معلوم فالله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده وأنه سيوجد في وقت كذا. فتتعلق إرادته بوجوده على حسب ما في علمه فيوجد.

وشيخ الإسلام ابن تيمية يسميه الأمر القدري الكوني، ويسمي مقابله الأمر الشرعي... ذلك شأنه تعالى في الإيجاد والتكوين وهو أغمض أسرار الألوهية فمن عرف حقيقته فقد عرف حقيقة المبدع الأول وذلك ما لا مطمع فيه. وقد عبر عن هذا السر بهذا التعبير الذي يقر به من الفهم، بما لا يتشعب فيه الوهم، ولا يوجد في الكلام تعبير آخر أليق به من هذا التعبير: يقول للشيء "كن" فيكون

فالتوالد محال في جانبه تعالى لأن ما يعهد في حدوث بعض الأشياء وتولدها من بعض فهو لا يعدو طريقين – الاستعداد القهري الذي لا مجال للاختيار فيه كحدوث الحرارة من النور وتولد العفونة من الماء يتحد بغيره، والسعي الاختياري كتولد الناس بالازدواج الذي يساقون إليه مع اختياره والقصد إليه. وإذا كان كل واحد من الأمرين محالا على الله تعالى وكان تعالى هو المبدع لجميع الكائنات وهي بأسرها ملكه ومسخرة لإرادته فلا معنى لإضافة الولد إليه {37: 180 – 182 سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين}...

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية، عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء "كن فيكون"...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وتوجه الإرادة يتم بكيفية غير معلومة للإدراك البشري، لأنها فوق طاقة الإدراك البشري. فمن العبث إنفاق الطاقة في اكتناه هذا السر، والخبط في التيه بلا دليل!...