القول في تأويل قوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مّرِيبِ } .
يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء المشركين حين فزعوا ، فلا فوت ، وأخذوا من مكان قريب ، فقالوا آمنا به وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ حينئذ من الإيمان بما كانوا به في الدنيا قبل ذلك يكفرون ولا سبيل لهم إليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسماعيل بن حفص الأبلي ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : وَحيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : حيل بينهم وبين الإيمان بالله .
حدثنا ابن بِشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الصمد ، قال : سمعت الحسن ، وسئل عن هذه الاَية وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : حيل بينهم وبين الإيمان .
حدثني ابن أبي زياد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : حيل بينهم وبين الإيمان .
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : من الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ كان القوم يشتهون طاعة الله أن يكونوا عملوا بها في الدنيا حين عاينوا ما عاينوا .
حدثنا الحسن بن واضح ، قال : حدثنا الحسن بن حبيب ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : حيل بينهم وبين الإيمان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وحيل بينهم وبين ما يشتهون من مال وولد وزهرة الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى قال : ثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : من مال أو ولد أو زهرة .
حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ قال : في الدنيا التي كانوا فيها والحياة .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ، لأن القوم إنما تَمَنّوا حين عاينوا من عذاب الله ما عاينوا ، ما أخبر الله عنهم أنهم تَمَنّوه ، وقالوا آمنا به ، فقال الله : وأنى لهم تَناوُش ذلك من مكان بعيد ، وقد كفروا من قبل ذلك في الدنيا . فإذا كان ذلك كذلك ، فلأن يكون قوله : وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ خبرا عن أنه لا سبيل لهم إلى ما تمنوه أولى من أن يكون خبرا عن غيره .
وقوله : كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ يقول فعلنا بهؤلاء المشركين ، فحلنا بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان بالله عند نزول سَخَط الله بهم ، ومعاينتهم بأسه كما فعلنا بأشياعهم على كفرهم بالله من قبلهم من كفار الأمم ، فلم نقبل منهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما لم نقبل في مثل ذلك الوقت من ضُرَبائهم . والأشياع : جمع شِيَع ، وشِيَع : جمع شيعة ، فأشياع جمع الجمع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قال الكفار من قبلهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كمَا فُعِلَ بأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا كانوا إذا عاينوا العذاب لم يُقبل منهم إيمان .
وقوله : إنّهُمْ كانُوا فِي شَكَ مُرِيبٍ يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء المشركين حين عاينوا بأس الله ، وبين الإيمان : إنهم كانوا قبل في الدنيا في شكّ من نزول العذاب الذي نزل بهم وعاينوه ، وقد أخبرهم نبيهم أنهم إن لم ينيبوا مما هم عليه مقيمون من الكفر بالله ، وعبادة الأوثان أن الله مُهْلِكهم ، ومُحِلّ بهم عقوبته في عاجل الدنيا ، وآجل الاَخرة قبل نزوله بهم مريب يقول : موجب لصاحبه الذي هو به ما يَرِيبه من مكروه ، من قولهم : قد أراب الرجل : إذا أتى ريبة وركب فاحشة كما قال الراجز :
يا قَوْمُ مالي وأبا ذُؤَيْبِ ؟ *** كُنْتُ إذا أتَوْتُهُ مِنْ غَيْبِ
يَشُمّ عِطْفِي وَيَبَزّ ثَوْبِيِ *** كأنّمَا أرَبْتُهُ بِرَيْبِ
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وحيل بينهم وبين ما يشتهون} من أن تقبل التوبة منهم عند العذاب.
{كما فعل بأشياعهم من قبل}: كما عذب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هؤلاء.
{إنهم كانوا في شك} من العذاب بأنه غير نازل بهم في الدنيا.
{مريب} يعني بمريب أنهم لا يعرفون شكهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وحيل بين هؤلاء المشركين حين فزعوا، فلا فوت، وأخذوا من مكان قريب، فقالوا آمنا به "وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ "حينئذ من الإيمان بما كانوا به في الدنيا قبل ذلك يكفرون ولا سبيل لهم إليه...
عن مجاهد "وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ" قال: من الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وحيل بينهم وبين ما يشتهون من مال وولد وزهرة الدنيا...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك، لأن القوم إنما تَمَنّوا حين عاينوا من عذاب الله ما عاينوا، ما أخبر الله عنهم أنهم تَمَنّوه، وقالوا آمنا به، فقال الله: وأنى لهم تَناوُش ذلك من مكان بعيد، وقد كفروا من قبل ذلك في الدنيا. فإذا كان ذلك كذلك، فلأن يكون قوله: "وَحِيلَ بَيْنَهُم وَبَينَ ما يَشْتَهُونَ" خبرا عن أنه لا سبيل لهم إلى ما تمنوه أولى من أن يكون خبرا عن غيره.
وقوله: "كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ" يقول فعلنا بهؤلاء المشركين، فحلنا بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان بالله عند نزول سَخَط الله بهم، ومعاينتهم بأسه كما فعلنا بأشياعهم على كفرهم بالله من قبلهم من كفار الأمم، فلم نقبل منهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما لم نقبل في مثل ذلك الوقت من ضُرَبائهم... وقوله: "إنّهُمْ كانُوا فِي شَكَ مُرِيبٍ" يقول تعالى ذكره: وحيل بين هؤلاء المشركين حين عاينوا بأس الله، وبين الإيمان: إنهم كانوا قبل في الدنيا في شكّ من نزول العذاب الذي نزل بهم وعاينوه، وقد أخبرهم نبيهم أنهم إن لم ينيبوا مما هم عليه مقيمون من الكفر بالله، وعبادة الأوثان أن الله مُهْلِكهم، ومُحِلّ بهم عقوبته في عاجل الدنيا، وآجل الآخرة قبل نزوله بهم "مريب" يقول: موجب لصاحبه الذي هو به ما يَرِيبه من مكروه، من قولهم: قد أراب الرجل: إذا أتى ريبة وركب فاحشة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنهم كانوا في شك مريب}... قال بعضهم: وشكهم وريبهم لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعد ما صاروا رمادا فهذه الحجة أنكروا، ثم رأوا خَلْق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة وحكمة، فارتابوا في ذلك،والله أعلم بالصواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
التوبة يشتهونها في آخر الأمر وقد فات الوقت، والخَصْمُ يريد إرضاءه فيستحيي أن يذكر في ذلك الوقت، وينسدُّ لسانه ويعتقل؛ فلا يمكنه أَن يُفْصِح بما في قلبه، ويودُّ أَنْ لو كان بينه وبين ما أسلفه بُعْدٌ بعيد، ويتمنى أن يُطِيعَ فلا تساعده القوةُ، ويتمنى أن يكون له -قبل خروجه من الدنيا- نَفَسٌ... ثم لا يتفق.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
أعظم العذاب أن يمنع الإنسان من مراده، كما قال الله تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} فكان هذا أجمع عبارة لعقوبات أهل جهنم. (الإحياء: 4/528 وكتاب الأربعين في أصول الدين: 210)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الشك المريب» أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وحيل} معبراً بصيغة المجهول مشيراً إلى أن حصول الحيلولة بأسهل ما يكون و لأن المنكي لهم نفس الحيلولة لا كونها من شخص معين.
{بينهم وبين ما يشتهون} أي يميلون إليه ميلاً عظيماً من تأثير طعنهم وقبول إيمانهم عند رؤية البأس ومن حصول شيء من ثمراته لهم من حسن الثواب، كما يرى الإنسان منهم -وهو في غمرات النار- مقعده في الجنة، الذي كان يكون له لو آمن ولا يقدر على الوصول إليه بوجه، وإن خيل إليه الوصول فقصده فمنع منه كان أنكى.
{كما فعل} أي بأيسر وجه {بأشياعهم من قبل} أي قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم في الكفران والإيمان، والسعادة والخسران، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم، بل كان كلما كذبت أمة رسولها أخذناها، فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا، فلم نقبل منهم ذلك، ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا بإدراكهم لشيء من الخير بعد إهلاكهم.
ثم علل عدم الوصول إلى قصد في كل من الحالتين بقوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم: {إنهم كانوا} أي في دار القبول كوناً هو كالجبلة لهم.
{في شك} أي في جميع ما يخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء أو غير ذلك.
{مريب} أي موقع في الريبة، فهو بليغ في بابه كما يقال: عجب عجيب، أو هو واقع في الريب كما يقال: شعر شاعر، أي -ذو شعر، فكيف يقبلون أو ينفذ طعنهم أو تحصل لهم تمرة طيبة وهم على غير بصيرة في شيء من أمرهم، بل كانوا يشكون في قدرتنا وعظمتنا، فاللائق بالحكمة أن نبين لهم العظمة بالعذاب لهم والثواب لأحبابنا الذين عادوهم فينا فتبين أنهم يؤمنون به عند ظهور الحمد أتم الظهور، إما في الآخرة أو في مقدماتها.
فظهر سر الإفصاح بقوله "وله الحمد في الآخرة "وأنه حال سبحانه بينهم وبين ما يريدون فتبين أنه مالك كل شيء فصح أن له الحمد في الأولى وفي كل حالة- وقد تعانق آخرها مع أولها، والتحم مقطعها بموصلها -والله سبحانه وتعالى هو المستعان إليه والمرجع والمآب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه، وهي جُمل {فَزِعوا وأُخذوا وقالوا}
[سبأ: 51، 52] أي وحَال زَجُّهم في النار بينهم وبين ما يأملُونه من النجاة بقولهم: {آمنا به} [سبأ: 52].
وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أَوْ عودتهم إلى الدنيا؛ والتشبيه في قوله: {كما فعل بأشياعهم من قبل} تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإِمهال حين حلّ بهم عذاب الدنيا، مثل فرعون وقومه إذ قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90].
الأشياع: المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين،وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله: {من قبل}، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون، وكذلك أشياعهم في وقت واحد، وفائدة هذا التشبيه: تذكير الأحياء منهم وهم مشركو أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليُوقنوا أن سنة الله واحدة، وأنهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله.
وجملة {إنهم كانوا في شك مريب} مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها، وفُعِل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وُصف لهم من أهواله؛ وإنما جعلت حالتهم شكاً لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكّين وفي بعضها موقنين، ألا ترى قوله تعالى: {قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]. وإذا كان الشك مفضياً إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإِيمان به وعدم النظر في دليله.
ويجوز أن تكون جملة {إنهم كانوا في شك مريب} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئة عن سؤال يثيره قولُه: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} كأن سائلاً سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنّوه؟ فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشِيَهم اليأس، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل.
والمريب: المُوقع في الريب. والريب: الشك، فوصفُ الشك به وصفٌ له بما هو مشتق من مادته لإِفادة المبالغة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لما كان همهم الأول والأخير وشغلهم الشاغل هو التمتع بالشهوات والملذات، في جميع الأحوال والأوقات، فوجئوا في دار الجزاء بالحرمان التام، كما فعل بمن كان على شاكلتهم من سالف الأمم والأقوام، ثم كشف كتاب الله عن السر فيما تعرضوا له من الأهوال، مبينا أن (الشك) الذي كان مسيطرا على عقولهم هو علة العلل فيما أصاب حياتهم من الانتكاس والاختلال، {إنهم كانوا في شك مريب}...
نقول: حُلْتُ بين الخصمين يعني: فصلْتُ بينهما، وجعلتُ بينهما حائلاً ومانعاً من الاشتباك حتى لا يبلغ كل منهم أشُدَّه في المعركة، أو ينال مراده من خَصْمه، فالحق -سبحانه وتعالى- جعل حائلاً ومانعاً بين هؤلاء وبين ما يشتهون.
والاشتهاء طلب شهوة النفس من غير ارتباط بمنهج، لكن ما الذي كان يشتهيه الكفار؟ كانوا يشتهون أنْ يطمسوا دعوة الحق، فلم يُمكِّنهم الله من طمسها، كما قال سبحانه:
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} [التوبة: 32].
{هُوَ الَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9].
وهم يشتهون انطماس الدعوة؛ لتبقى لهم سيادتهم التي نهبوها على حساب الضعفاء، ولتظل لهم المكانة والتصرُّف، كذلك يَشْتهون انطماس الدعوة حتى لا تقف مناهج الله عقبة أمام شهوات نفوسهم...
فقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] دلَّ على أن المسألة بالنسبة لهم كانت شهوةَ نفس، لا مدخلَ للشيطان فيها، لماذا؟ لأنهم كفروا بالله وفرغ الشيطان منهم، وإلا ماذا يريد منهم بعد ذلك، فلم تَبْقَ إلا شهوات النفس فاشتهوا أنْ يطمسوا الدعوة، وأنْ يذلوا مَنْ آمن ويجعلوه عبرةً لمن يفكر في الإيمان، لكن حال الله بينهم وبين ما أحبوا، وسارت الدعوة على خلاف ما اشتهوا، فمن ذُلَّ وضُرب وأُهين من المؤمنين ثبت على إيمانه، ومَنْ كان يفكر في الإيمان لم يَرْهَبَهُم، ولم يخف مما فعلوه بإخوانه المؤمنين.
فإنْ قلت: كيف أسلم اللهُ المؤمنين الأوائل لأنْ يعذبهم الكفار، وأنْ يُهينوهم ويُخرجوهم من أرضهم؟ نقول: كان هذا لحكمة عالية أرادها الحق سبحانه، وهي أنْ يُمحِّص إيمان المؤمنين، بحيث لا يثبت على إيمانه إلا قوى العزيمة الذي يصبر على تحمل الشدائد، فهؤلاء هم الذين سيحملون منهج السماء ودعوة الحق إلى العالم أجمع، فلا بد أن يكونوا صفوة تختار دين الله وتضحي في سبيله بكل غالٍ ونفيس.
لذلك أراد سبحانه أنْ تتزلزل هذه الدعوة في بدايتها عدة مرات، وأن ترى بعض الفتن التي تُغربل الناس، وتُخرِج المؤمنين في جانب، والمنافقين في الجانب الآخر...
وقوله سبحانه: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} يعني هذه القضية ليست خاصة بكفار مكة، إنما هي سنة مُتبعة في الأمم السابقة، ومعنى {بِأَشْيَاعِهِم} بأمثالهم من الكفار في الأُمم السابقة.
والأشياع: جمع شيعة، وهم الجماعة المجتمعة على رأي ينتفعون به، ويدافعون عنه، سواء أكان حقاً أم كان باطلاً، فقوله تعالى هنا: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} دلَّ على أنهم كانوا على باطل...
والمعنى: أنهم أُخِذوا كما أُخِذ أمثالهم من الكافرين مع الفارق بين الحالتين، فقبل رسول الله كانت السماء تتدخل مباشرة لتدافع عن دين الله وعن نبي الله؛ لذلك حدثتْ فيهم الزلازل والخسْف والصيحة والمسخ.. إلخ.
فالأمم السابقة لم تكُنْ مأمونة على أنْ تدفع عن دين الله بسيفها، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد استأمنها الله على هذه المهمة، فحملتْ السيف ودافعتْ عن دينها؛ لذلك أكرم الله هذه الأمة، فلم يحدث فها خَسْف، ولا مَسْخ ولا إغراق. مما حدث لسابقيهم.
لذلك لما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه دعا عليهم:
{رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26-27].
أما سيدنا رسول الله فجاءه الملَك يعرض عليه الانتقام من كفار قومه، فيقول: لا، لعل الله يُخرِج من أصلابهم مَنْ يقول لا إله إلا الله. وفعلاً آمن منهم كثيرون أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، كما كانوا ألدَّ أعداء الإسلام صاروا قادته الفاتحين.
وقد تألم المسلمون كثيراً؛ لأن هؤلاء نجوْا من القتل، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدخرهم للإسلام، فصار خالد سيف الله المسلول، وعمرو أعظم القادة الفاتحين، ويكفي شهادة لعكرمة أنه ابن أبي جهل، وأنه لما ضُرِب ضربة قوية في موقعة اليرموك احتضنه خالد وهو يعاني سكرات الموت، فقال: يا خالد، أهذه ميتة تُرضي عني الله ورسوله؟...
ثم تُختم السورة بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ} [سبأ: 54] كانوا في شك من أمر رسول الله، ونُصْرته عليهم، وعدم تخلِّي ربه عنه، مع أنهم كانوا على اتصال بأهل الكتاب، وأهل الكتاب يقرأون كتبهم على هؤلاء الكفار ويستفتحون بها عليهم، وقد علموا منها أن عاقبة الصراع بين الرسل وأقوامهم على مَرِّ موكب الرسالة كانت للرسل؛ لأن الله تعالى ما كان ليرسل رسولاً ثم يُسلمه أو يتخلى عنه.
وهذه قضية ذُكِرت في الكتب السابقة كما ذُكِرت في القرآن في أكثر من موضع، وإن كانت الكتب السابقة قد ضاعت أو حُرِّفت فالقرآن هو كتاب الله الباقي الذى تكفَّل الله بحفظه، فهو يُتلَى كما أُنْزِل إلى يوم القيامة، وفيه يقول الله تعالى:
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51].
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-172].
لذلك سبق أنْ قلنا: إنْ هُزِم الإسلام في معركة مع غيره فاعلم أن شرط الجندية الإيمانية قد اختلَّ، ولو نصرهم الله مع اختلال شرط الجندية الإيمانية قد اختلَّ، ولو نصرهم الله مع اختلال شرط الجندية فيهم ما قامتْ للإسلام قائمة بعدها، وهذا الدرس تعلمناه في أُحُد، لما خالف الرماة أمر رسول الله ونزلوا من على الجبل يريدون الغنائم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّرهم من هذا، وقال لهم: لا تتركوا أماكنكم مهما حدث، فلما تركوا أماكنهم التفَّ عليهم الكفار، وكادوا يهزمونهم.
وإنْ كان التحقيق أن الكفار لم ينتصروا في أُحُد؛ لأن المعركة (ماعت)، ولو انتصر المسلمون مع هذه المخالفة لهَانَ عليهم أمر رسول الله بعد ذلك، ولقالوا: لقد خالفنا أمره في أُحد وانتصرنا، إذن: نقول: الذي هُزِم في أُحد هو مَنِ انخذل عن جندية الإيمان، أمَّا الإسلام في حدِّ ذاته فقد انتصر.
إذن: كانوا في شكٍّ من الغاية التي ينتهي إليها رسول الله، والشك هنا في رسول الله لأن لديهم قضية عقدية هي الإيمان بوجود الله، وأنه سبحانه الخالق لكل شيء، بدليل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].