4- ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما جعل زوجة أحدكم حين يقول لها : أنت علىَّ كظهر أمِّى أُمَّا له ، وما جعل الأولاد الذين تتبنوهم أبناء لكم يأخذون حكم الأبناء من النسب . ذلكم - أي جعْلِكُم الأدعياء أبناء - قول يصدر من أفواهكم لا حقيقة له ، فلا حكم يترتب عليه ، والله يقول الأمر الثابت المحقق ، ويرشدكم إليه ، وهو - وحده سبحانه - يهدى الناس إلى طريق الصواب .
ثم أبطل - سبحانه - بعض العادات التى كان متفشية فى المجتمع ، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإِسلام وآدابه ، فقال - تعالى - : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ . . . . الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت فى رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهرى ، كان حفاظا لما يسمع ، وكان يقول : لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ، ومعهم هذا الرجل ، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه فى يده والأخرى فى رجله - من شدة الهلع - ، فقال له أبو سفيان هو معلق إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما فى رجلى . فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده .
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم له قلبان ، لأنه ربما كان فى شئ فنزع فى غيره نزعه ثم عاد إلى شأنه الأول ، فأكذبهم الله بقوله : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .
ويرى بعضهم : أن هذه الجملة الكريمة ، مثل ضربه الله - تعالى - للمظاهر من امرأته ، والمتبنى ولد غيره ، تمهيدا لما بعده .
أى : كما أن الله - تعالى - لم يخلق للإِنسان قلبين فى جوفه ، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له فى وقت واحد ، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له فى زمن واحد .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : أى : ما جمع الله قلبين فى جوف ، ولا زوجية وأمومة فى امرأة ، ولا بنوة ودعوة فى رجل . . لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والزوجة ليست كذلك .
ولأن البنؤة أصالة فى النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير .
فإن قلت : أى فائدة فى ذكر الجوف ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة فى قوله - تعالى - : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } وذلك ما يصلح للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإِنكار .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه .
يقال . ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها ، إذا قال لها : أنت على كظهر أمى ، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه .
وقد جاء الكلام عن الظهار ، وعن حكمه ، وعن كفارته ، فى سورة المجادلة ، فى قوله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } إبطال لعادة أخرى كانت موجودة ، وهى عادة التبنى .
والأدعياء : جمع دعى . وهو الولد الذى يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره ، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ، ومنها حرمة زواج الأب بزوجه ابنه بالتبنى بعد طلاقها ، ومنها التوارث فيما بينهما .
قال ابن كثير : وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفى ، فإنها نزلت فى شأن زيد بن حارثة ، مولى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له زيد بن محمد . فأراد الله - تعالى - أن يقطع هذا الإِلحاق ، وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، كما قال فى أثناء السورة : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار ، ومن إجراء التبنى على ولد الغير ، وهو مبتدأ ، وما بعده خبر .
أى : ذلكم الذى تزعمونه فى تشبيه الزوجة بالأم فى التحريم ، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين ، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع ، ولا يسانده الحق .
قال ابن جرير : وقوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يقول - تعالى ذكره - هذا القول ، وهو قول الرجل لأمرأته : أنت على كظهر أمى ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، ولا يثبت بهذه الدعوة نسب الذى ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها : أنت على كظهر أمى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أى : والله - تعالى - يقول الحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو - سبحانه - دونه غير يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذى يوصل إلى الخير والصلاح . وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التى ألفتموها . والتى أبطلها الله - تعالى - بحكمته ، وابتعوا ما يأمركم به - سبحانه - .
اختلف الناس في السبب في قوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، فقال ابن عباس سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فنفاه الله تعالى عنه ، وقال ابن عباس أيضاً بل سببه أنه كان في قريش في بني فهر رجل فهم يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين ، قال الثعلبي وهو أبو معمر{[9446]} وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ، فلما وقعت هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت الآية بسببه ونفياً لدعواه ، وقيل إنه كان ابن خطل{[9447]} ، قال الزهراوي جاء هذا اللفظ على جهة المثل في زيد بن حارثة والتوطئة لقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ، أي كما ليس لأحد قلبان كذلك ليس دعيه ابنه .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن بعض العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك ، ومن هذا قول الكميت : [ الطويل ]
تذكر من أنا ومن أين شربه . . . يؤامر نفسيه كذي الثلة الإبل{[9448]}
والناس حتى الآن يقولون إذا وصفوا أفكارهم في شيء ما يقول لي أحد قلبي كذا ويقول الآخر كذا ، وكذا كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبني ابناً فأعلم الله تعالى أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا أيضاً طعن على المنافقين الذي تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما حله إيمان وإما حله كفر لأن درجة النفاق كأنها متوسطة يؤمن قلب ويكفر الآخر ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد ، وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئاً أو وهم يقول على جهة الاعتذار { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، أي إذا نسي قلبه الواحد يذكره الآخر ، وكذلك أعلم أن الزوجة لا تكون أماً وأن الدعي لم يجعله ابناً ، وقرأ نافع وابن كثير «اللاء » دون ياء ، وروي عن أبي عمرو وابن جبير «اللاي » بياء ساكنة بغير همز ، وقرأ ورش بياء ساكنة مكسورة من غير همز ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وطلحة والأعمش بهمزة مكسورة بعدها ياء ، وقرأ ابن عامر «تظّاهرون » بشد الظاء وألف ، وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة «تُظاهرون » بضم التاء وتخفيف الظاء ، وأنكرها أبو عمرو وقال : إنما هذا في المعاونة .
قال القاضي أبو محمد : وليس بمنكر ولفظة ظهار تقتضيه ، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم «تَظَاهرون » بفتح التاء والظاء مخففة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تظّهّرون » بشد الظاء والهاء دون ألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «تُظْهِرون » بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «تتظهرون » بتاءين ، وكانت العرب تطلق تقول أنت مني كظهر أمي فنزلت الآية وأنزل الله تعالى كفارة الظهار ، وتفسير الظهار وبيانه أثبتناه في سورة المجادلة ، وقوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية سببها أمر زيد حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد ، وذلك أنه كان عبداً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام معه مدة ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك قبل البعث- : «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء » ، فخيراه فاختار الرق مع محمد على حريته وقومه ، فقال محمد عليه السلام : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه » ، فرضي بذلك أبوه وعمه وانصرفا{[9449]} . وقوله تعالى : { بأفواهكم } تأكيد لبطلان القول ، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما هو قول فقط ، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا كثير ، و { يهدي } معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر ، وقرأ قتادة «يُهَدّي » بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، و { السبيل } هو سبيل الشرع والإيمان ، وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص يقفون «السبيلا » ويطرحونها في الوصل ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف وصلاً ووقفاً ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلاً ووقفاً ، وهذا كله في غير هذا الموضع{[9450]} ، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلاً ووقفاً لمكان ألف الوصل التي تلقى اللام .
{ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ فِى جَوْفِه }
استئناف ابتدائي ابتداءَ المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله ، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد ، فهذا مقدمة لِما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه مِما يوحَى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها ، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوَال المنافية للحقائق ، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق ، وهي التي تَرِينُ على القلوب بتلبيس الأشياء .
وذُكر ها هنا نوعان من الحقائق :
أحدهما : من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة ، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل ، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاماً لم يجعله في خلق غيرهم .
وثاني النوعين : من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء . وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أُشير إليه بقوله تعالى : { وما جَعَل أزواجكم اللاّء تَظَّهَّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق } ، أي : لا يقول الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل . والمقصود : التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادّعوها . وابتدىء من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شُبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال .
والإشارة بقوله { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ويقال : ابن أسد بن حبيب الجُمحي الفهري وكان رجلاً داهية قوي الحفظ أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدْعونه ذَا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل . وقد غرّه ذلك أو تغارر به فكان لشدة كفره يقول : « إن في جوفي قلبين أعمَل بكل واحد منهما عَملاً أفضل من عمل محمد » . وسمّوا بذي القلبين أيضاً عبد الله بن خطل التيمي ، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبراً يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعفُ عنه ، فنفت الآية زعمهم نفياً عاماً ، أي : ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل ، فوقوع { رجل } وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم ، ووقوع فعل { جعل } في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي .
ودخول { مِن } على { قلبين } للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان ، عن كل رجل من الناس ، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيّاً كان .
ولفظ { رجل } لا مفهوم له لأنه أُريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جرياً على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضاً أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب .
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي ، أي : ما خَلَق الله رجلاً بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيداً لإبطال ما تواضعوا عليه من جعْل أحدٍ ابناً لمن ليس هو بابنه ، ومِن جَعْل امرأة أمّاً لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل ، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعُون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة ، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق ، فإن البنوة والأمومة صفتان من أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف .
فأما قوله تعالى { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج ؛ ألا ترى ما جاء في الحديث : " أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر : يا رسول الله إنما أنا أخوك ، فقال رسول الله : أنت أخي وهي لي حلال " أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله « أنت أخي وهي لي حلال » .
والجوف : باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ .
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين ، وذلك مثل قوله : { ولكن تعمى القُلوبُ التي في الصُّدور } [ الحج : 46 ] ونحوه من القيود المعلومة ؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيراً بما هو معلوم وتجديداً لتصوره ، ومنه قوله تعالى : { وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } وقد تقدم في سورة الأنعام ( 38 ) .
{ وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظّهّرون مِنْهُنَّ أمَّهاتِكُم }
عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقاً لا رجعة فيه بحال يقول لها : « أنتِ عليّ كظهر أمي » هذه صيغته المعروفة عندهم ، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أُمّاً له ، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أُبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي ؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيداً لتشريع إبطال التبني تنظيراً بين هذه الأوهام إلاّ أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية .
و اللاَّء : اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع ( التي ) ، لأنه على غير قياس صِيغ الجمع ، وفيه لغات : اللاّءِ مكسور الهمزة أبداً بوزن الباببِ ، واللاّئي بوزن الداعي ، والاَّءِ بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء .
وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر { اللاءِ } بهمزة مكسورة غير مشبعة وهو لغة . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف { واللائِي } بياء بعد الهمزة بوزن الدّاعي ، وقرأه أبو عمرو والبزّي عن ابن كثير ويعقوب و { اللاّيْ } بياء ساكنة بعد الألف بدلاً عن الهمزة وهو بدل سماعي ، قيل : وهي لغة قريش . وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر . وروي ذلك عن أبي عمرو والبَزّي أيضاً .
وذِكر الظهر في قولهم : أنت عليّ كظهر أمي ، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها ، وذكر الظهر تخييلاً كما ذُكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف ، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة .
وقولهم : أنت عليَّ ، فيه مضافٌ محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير : غَشَيَانُك ، وكلمة « عليّ » تؤذن بمعنى التحريم ، أي : أنت حرام عليّ ، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي . ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف ( مِن ) الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها .
فلما قال الله تعالى { اللائي تُظّهّرون منهن } علم الناس أنه يعني قولهم : أنت عليّ كظهر أمي .
والمراد بالجعل المنفي في قوله { وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم } الجعل الخَلْقي أيضاً كالذي في قوله : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، أي : ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع ، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخَلْقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، قال تعالى : { إن أمهاتُهم إلا اللاّءِ ولدْنهم } [ المجادلة : 2 ] وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيداً لإبطال التبنّي بشبه أنّ كليهما ترتيب آثار ترتيباً مصنوعاً باليد غير مبني على جعل إلهي . وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافاً لما درَج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب « الإتقان » .
وقال السيوطي : في هذا الترتيب نظر . وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { تَظَّهَّرون } بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون ألف وتشديد الهاء مفتوحة . وقرأ حفص عن عاصم { تُظَاهِرون } بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف : { تَظَاهرون } بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء .
{ وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُم }
هذا هو المقصود الذي وُطِّىء بالآيتين قبله ، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه . وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها .
والقول في المراد من قوله : { ما جَعَل } كالقول في نظيره من قوله { وما جَعَل أزواجكم اللاّءِ تظهرون منهن أمهاتكم } . والمعنى : أنكم تنسبون الأدعياء أبناءً فتقولون للدعيّ : هو ابن فلان ، للذي تبناه ، وتجعلون له جميع ما للأبناء .
والأدعياء : جمع دَعِيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقاً من مادة الادّعاء ، والادّعاء : زعم الزاعم الشيء حقاً له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب ، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أباً له ؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق ، فالدعي لم يجعله الله ابناً لمن ادّعاه للعِلم بأنه ليس أباً له ، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابناً لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له . وجُمع على أفْعِلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى ، والأصح أن أفْعِلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول .
نزلت هذه الآية في إبطال التبني ، أي : إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقية من الإرث ، وتحريم القرابة ، وتحريم الصهر ، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنَّى أحكام البنوة كلها ، وكان من أشهر المتبنَيْنَ في عهد الجاهلية زيدُ بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عُمر بن الخطاب ، وسالم تبناه أبو حذيفة ، والمقدادُ بن عمرو تبناه الأسودُ بن عبد يغوث ، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابناً للذي تبنّاه .
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآيةُ في شأنه كان غريباً من بني كَلْب من وبَرة ، من أهل الشام ، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيداً فبقيا في حجر جدهما ، ثم جاء عماهما فطلبا من الجدّ كفالتهما فأعطاهما جبلة وبَقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيداً فأخذ جدّه يبحث عن مصيره ، وقال أبياتاً منها :
بكيت على زيد ولم أدر ما فعلْ *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
وأنه علم أن زيداً بمكة وأن الذين سَبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمناً ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ أشهد النبي قريشاً أن زيداً ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يُدعَى : زيد بن محمد ، وذلك قبل البعثة .
وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة .
{ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيل }
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعاً ، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها .
والإشارة إلى مذكور ضمناً من الكلام المتقدم ، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل ، ومن كون الزوجة المظاهَر منها أُمّاً لمن ظاهر منها ، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم . وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النِسَب الكلامية الصادقة النِسبَ الخارجية ، وإلاّ فلاَ جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه .
ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله { بأفواهكم } فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر { بأفواهكم } مع العلم به مشيراً إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان ، ونظير هذا قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] أي : لا تتجاوز ذلك الحد ، أي : لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر : { رب ارجعون لَعَلِّيَ أعملُ صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 100 ] ، فعلم من تقييده { بأفواهكم } أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحاً بقوله { والله يقول الحق } فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب . ولهذا عطفت عليه جملة { والله يقول الحق } لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله { ما جعل الله } الخ . فمعنى كونها أقوالاً : أن ناساً يقولون : جميل له قلبان ، وناساً يقولون لأزواجهم : أنت كظهر أمي ، وناساً يقولون للدعي : فلان ابن فلان ، يريدون مَن تبناه .
وانتصب { الحقَ } على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل { يقول . } تقديره : الكلام الحق ، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو { إنها كلمةٌ هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ، فالهاء المضاف إليها ( قائل ) عائدة إلى { كلمة } وهي مفعول أضيف إليها . وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب ، أي : هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم ، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام .
ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة ، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلاً ومجهلة . فالمعنى : وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل .
و { السبيل } : الطريق السابلة الواضحة ، أي : الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها . وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظاً ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيداً للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني ، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية ، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد .
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه .