ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالرد على الأعراب الذين قالوا آمنا ، دون أن يدركوا حقيقة الإِيمان ، وبين من هم المؤمنون الصادقون .
فقال - تعالى - : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل . . . بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
والإِعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده أعرابى ، وهم الذين يسكنون البادية .
والمراد بهم هنا جماعة منهم لأكلهم ، لأن منهم ، { مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } قال الآلوسى : قال مجاهد : نزلت هذه الآيات فى بنى أسد ، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة ، أظهروا الإِسلام ، وقلوبهم دغلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . . ويروى أنهم قدموا المدينة فى سنة مجدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جئناك بالأثقال والعيا ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان . . يمنون بذلك على النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله - سبحانه - : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } من الإِيمان ، وهو التصديق القلبى ، والإِذعان النفسى والعمل بما يقتضيه هذا الإِيمان من طاعة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { أَسْلَمْنَا } من الإِسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهرى بالجوارح ، دون أن يخالط الإِيمان شغاف قلوبهم . أى : قالت الأعراب لك - أيها الرسول الكريم - آمنا وصدقنا بقلبونا لكل ما جئت به ، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه .
قل لهم { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أى : لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية . .
{ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } أى : ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإِسلام : واستسلمنا لما تدعونا إليه إستسلاما ظاهريا طمعا فى الغنائم ، أو خفوا من القتل .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه قوله - تعالى - : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } والذى يقتضيه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . .
قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، وروعى فى هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه ، حيث لم يقل : كذبتم ، ووضع ، " لم تؤمنوا " الذى هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه . .
واستغنى بالجملة التى هى " لم تؤمنوا " عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإِيمان . .
وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } جملة حالية من ضمير ، " قولوا " و " لما " لفظ يفيد توقع حصول الشيئ الذى لم يتم حصوله .
أى : قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإِيمان فى قلوبكم بعد ، فإنه لو استقر فى قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك ، ولما مننتم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإسلامكم .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإِيمان أخص من الإِسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، حين سأل عن الإِسلام .
ثم عن الإِيمان . . فترقى من الأعم إلى الأخص .
كما يدل على ذلك حديث الصحيحين " عن سعد بن أبى وقاص ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلا ولم يعط آخر . فقال سعد : يا رسول الله ، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا ، فقال : " أو مسلما " " .
فقد فرق - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمن والمسلم . فدل على أن الإِيمان أخص من الإِسلام .
كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين فى هذه الآية ، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان فى قلوبهم . فادعو لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا بذلك . .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما يكمل إيمانهم فقال : { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ومعنى : " لا يلتكم " لا ينقصكم . يقال : لات فلان فلانا حقه - كباع - إذا نقصه .
أى : وإن تطيعوا الله - تعالى - ورسوله ، بأن تخلصوا العبادة ، وتتركوا المن والطمع ، لا ينصكم - سبحانه - من أجور أعمالكم شيئا ، إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا .
{ قالت الأعراب آمنا } نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون . { قل لم تؤمنوا } إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة . { ولكن قولوا أسلمنا } فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة ، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا { ولكن قولوا أسلمنا } ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعا . { ولما يدخل الإيمان قلوبكم } توقيت ل { قولوا } فإنه حال من ضميره أي : { ولكن قولوا أسلمنا } ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد . { وإن تطيعوا الله ورسوله } بالإخلاص وترك النفاق . { لا يلتكم من أعمالكم } لا ينقصكم من أجورها . { شيئا } من لات يليت ليتا إذا نقص ، وقرأ البصريان " لا يألتكم " من الألت وهو لغة غطفان . { إن الله غفور } لما فرط من المطيعين . { رحيم } بالتفضل عليهم .
قوله تعالى :{ قالت الأعراب آمنا } ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة ، وكانوا قد أظهروا الإسلام ، وكانت نفوسهم-مع ذلك- دخلة{[10498]} ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : وذهبوا مرة إلى أن يتسموا بالمهاجرين ، فنزلت هذه الآية مسمية لهم بالأعراب ، مُعرفة لهم بذلك أقدارهم ، ومُخرجة ما في صدورهم من صورة معتقدهم ، وهم أعراب مخصوصون كما ذكرنا ، قال أبو حاتم عن ابن الزبير : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ :{ قالت الأعراب } بغير همز ، فرد عليه بهمز وقطع . وقد أخبر الله تعالى أن في الأعراب على الجملة من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المُدّعين في الإيمان :{ لم تؤمنوا } ، أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } . والإسلام يقال بمعنيين ، أحدهما : الدين يعم الإيمان والأعمال ، وهو الذي في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام }{[10499]} [ آل عمران : 19 ] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس »{[10500]} والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له : ما الإسلام ؟ قال : ( بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ){[10501]} ، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص : «أو مسلماً ، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه »{[10502]} الحديث ، فهذا الإسلام ليس هو في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } والمعنى الثاني للفظ الإسلام : هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم ، وهذا هو الإسلام في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } ، و { الإيمان } الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه ، ثم صرح لهم بأن { الإيمان } لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله : { وإن تطيعوا الله } الآية ، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال .
وقرأ جمهور القراء : «لا يلتكم » من لات يليت إذا نقص ، يقال : لاته حقه إذا نقصه منه ، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه . وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو : «لا يألتكم » من ألت يألت وهو بمعنى : لات ، وكذلك يقال : ألتِ بكسر اللام يألت ، ويقال أيضاً في معنى لات ، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية .