بعد أن بين - سبحانه - لعباده موجبات حمده ، وأنه الجدير وحده بالحمد ، لأنه المربى الرحيم ، والمنعم الكريم ، أتبع ذلك ببيان أنه - سبحانه - { مالك يَوْمِ الدين } .
والمالك وصف من الملك - بكسر الميم - بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه . واليوم فى العرف : ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها ، وليس هذا مرادًا هنا ، وإنما المراد مطلق الزمن وهو يوم القيامة .
والدين : الجزاء والحساب ، يقال : دنته بما صنع ، أى : جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم . كما تدين تدان . أى : كما تفعل تجازى ، وفى الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أى : حاسب نفسه : والمعنى : أنه - تعالى - يتصرف فى أمور يوم الدين من حساب وثواب وعقاب ، تصرف المالك فيما يملك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وهناك قراءة أخرى للآية وهى { مالك يَوْمِ الدين } من الملك - بضم الميم - وعليها يكون المعنى : أنه - تعالى - هو المدبر لأمور يوم الدين ، وأن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك وسيطرتهم ، فكل شئ فى ذلك اليوم يجرى بأمره ، وكل تصرف فيه ينفذ باسمه ، كما قال - تعالى - { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } قال الإِمام ابن كثير : " وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإِخبار بأنه رب العالمين ، وذلك عام فى الدنيا والآخرة . وإنما أضيف إلى يوم الدين ، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئًا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } والملك فى الحقيقة هو الله ، قال - تعالى - { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام } وفى الصحيحين عن أبى هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقبض الله الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ، أين المتكبرون " ثم قال : وأما تسمية غيره فى الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال - تعالى - { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } وفى هذه الأوصاف التى أجريت على الله تعالى ، من كونه ربا للعالمين وملكا للأمر كله يوم الجزاء ، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به فى قوله : { الحمد للَّهِ } فى كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه ، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له " .
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإِنسان وغرس الإِيمان العميق فى قلبه ، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن وإساءة المسيء ، وأن زمام الحكم فى ذلك اليوم لله الواحد القهار ، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه ، ويجتهد فى السير على الطريق المستقيم .
قرأ بعض القراء : { مَلِك يَوْمِ الدِّينِ } وقرأ آخرون : { مَالِكِ }{[917]} . وكلاهما صحيح متواتر في السبع .
[ ويقال : مليك أيضًا ، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ : " ملكي يوم الدين " وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى ، وكلاهما صحيحة حسنة ، ورجح الزمخشري ملك ؛ لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } وقوله : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ " مَلَكَ يومَ الدين " على أنه فعل وفاعل ومفعول ، وهذا غريب شاذ جدا ]{[918]} . وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال : حدثنا أبو عبد الرحمن الأذْرَمِيُّ ، حدثنا عبد الوهاب عن عدي{[919]} بن الفضل ، عن أبي المطرف ، عن ابن شهاب : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأول من أحدث " مَلِكِ " مروان{[920]} . قلت : مروان عنده علم بصحة ما قرأه ، لم يطلع عليه ابن شهاب ، والله أعلم .
وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }{[921]} ومالك مأخوذ من الملْك ، كما قال : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ } [ الناس : 1 ، 2 ] وملك : مأخوذ من الملك كما قال تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] وقال : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } [ الأنعام : 73 ] وقال : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ] .
وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين ، وذلك عام في الدنيا والآخرة ، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] وقال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [ طه : 108 ] ، وقال : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما ، كملكهم في الدنيا . قال : ويوم الدين يوم الحساب للخلائق ، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، إلا من عفا عنه . وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف ، وهو ظاهر .
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أنه القادر على إقامته ، ثم شرع يضعفه .
والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم{[922]} ، وأن كلا من القائلين بهذا وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ، ولا ينكره ، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا ، كما قال : { المْلُكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] والقول الثاني يشبه قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } ، [ الأنعام : 73 ] والله أعلم .
والمَلِك في الحقيقة هو الله عز وجل ؛ قال الله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله ، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ " وفي القرآن العظيم : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } ، { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ } { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } وفي الصحيحين : ( مثل الملوك على الأسرة ) .
والدين الجزاء والحساب ؛ كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } ، وقال : { أئنا لمدينون } أي مجزيون محاسبون ، وفي الحديث : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أي حاسب نفسه لنفسه ؛ كما قال عمر رضي الله عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } " .
{ مالك يوم الدين } قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } . وقرأ الباقون : { ملك } . وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى { لمن الملك اليوم } ولما فيه من التعظيم . والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك . والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك . وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ العمل . ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ، ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وملك مضافا بالرفع والنصب . ويوم الدين يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان " وبيت الحماسة :
ولم يبق سوى العدوا *** ن دناهم كما دانوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ، ملك الأمور يوم الدين على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } أوله الملك في هذا اليوم ، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة ، وقيل { الدين } الشريعة ، وقيل الطاعة . والمعنى يوم جزاء الدين ، وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه ، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه ، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها ، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب ، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد ، فيكون دليلا على ما بعده فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية ، والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد . والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين .
واختلف القراء في قوله تعالى : { ملك يوم الدين }( {[49]} ) . فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين » .
قال الفارسي : «وكذلك قرأها قتادة والأعمش » .
قال مكي : «وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف ، وكذلك قرأها أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وطلحة ، والزبير ، رضي الله عنهم »( {[50]} ) .
وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين » وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملْك يوم الدين » . هذه رواية عبد الوارث عنه( {[51]} ) .
وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي » وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي .
وقرأ أبو حيوة( {[52]} ) «ملِكَ » بفتح الكاف وكسر اللام .
وقرأ ابن السميفع( {[53]} ) ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وأبو صالح السمان ، وأبو عبد الملك الشامي «مالكَ » بفتح الكاف . وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله { إياك } .
ورد الطبري على هذا وقال : «إن معنى السورة : قولوا الحمد لله ، وعلى ذلك يجيء { إياك } و { اهدنا } .
وذكر أيضاً أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب . وبالعكس ، كقول أبي كبير الهذلي( {[54]} ) : [ الكامل ] .
يا ويح نفسي كان جلدة خالد . . . وبياض وجهك للتراب الأعفر
قامت تشكّى إليَّ النفسُ مجهشة . . . وقد حملتُكَ سبعاً سبعينا( {[55]} )
وكقول الله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم }( {[56]} )[ يونس : 22 ] .
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن ، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين » على أنه فعل ماض .
وقرأ أبو هريرة «مليك » بالياء وكسر الكاف( {[57]} ) .
قال أبو علي : ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك » ، وذلك جائز ، إلا أنه يقرأ بما يجوز ، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض( {[58]} ) . و «المُلك » و «المِلك » بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط ، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى ، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم : [ الطويل ] :
ملكتُ بها كفّي فأنهرتُ فَتْقَها( {[59]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا يصف طعنة فأراد شددت ، ومن ذلك قول أومن بن حجر : [ الطويل ] .
فملَّكَ بالليطِ تحتَ قشرِها . . . كغرقىء بيضٍ كنَّه القيضُ من علِ( {[60]} )
أراد شدد ، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس ، والذي مفعول وليس بصفة لليط ، ومن ذلك قولهم : إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح ، كما قالوا : عقدة النكاح ، إذ النكاح موضع شد وربط ، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له ، وكذلك الملك ، واحتج من قرأ «ملك » بأن لفظة «ملك » أعم من لفظة «مالك » إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك . وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة ، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك . فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلاً يملكها أجمع أو رجلاً هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والأحكام ، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفاً وأعظم ، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها ، كما لكل أحد في ملكه ، ثم عنده زيادة التملك ، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد ، فهو مالكه وملكه ، والقراءتان حسنتان .
وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين » أن أول من قرأ «ملك يوم الدين » مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير ، والدراهم ، والطير ، والبهائم ، ولا يقال ملكها ، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها ، وقد قال الله تعالى : { قل اللهم مالك الملك }( {[61]} ) [ آل عمران : 26 ] .
قال أبو بكر : «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ » ملك يوم الدين «مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أرد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه »( {[62]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين » بغير ألف ، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين » بألف .
قال أبو بكر : والاختيار عندي «ملك يوم الدين » لأن «الملك » و «الملك » يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت( {[63]} ) العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة ، والملك أفخم وأدخل في المدح ، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه ، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم ، لا ملك لغيره .
قال : والوجه لمن قرأ «ملك » أن يقول : إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه .
قال أبو الحسن الأخفش( {[64]} ) : «يقال » ملك «بين الملك ، بضم الميم ، ومالك بين » المِلك «و » المَلك «بفتح الميم وكسرها( {[65]} ) ، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى ، وروى بعض البغداديين في هذا الوادي » مَلك «و » ملك «و » مِلك «بمعنى واحد » .
قال أبو علي : «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القرءة ب » ملك «أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله ( رب العالمين ) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير » .
قال أبو علي ولا حجة في هذا ، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة ، تقدم العام ثم ذكر الخاص ، كقوله تعالى : { هو الله الخالق البارىء المصور }( {[42]} ) [ الحشر : 24 ] فالخالق يعم وذكر { المصور } لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ، وكما قال تعالى : { وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] بعد قوله : { الذين يؤمنون بالغيب }( {[43]} ) [ البقرة : 3 ] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها ، والتنبيه على وجوب اعتقادها ، والرد على الكفرة الجاحدين لها ، وكما قال تعالى : { الرحمن الرحيم } فذكر الرحمن الذي هو عام ، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيماً }( {[44]} ) [ الأحزاب : 43 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وأيضاً : فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله : [ الطويل ] .
( ومن قبل ربتني فضعت ربوب ) ( {[45]} ) . . . وغير ذلك من الشواهد ، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين » والجر في «ملك » أو «مالك » على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله ، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح ، والإضافة إلى { يوم الدين } في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار ، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد ، وليس هذا كإضافة قوله تعالى :{ وعنده علم الساعة }( {[46]} ) [ الزخرف : 85 ] ، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة ، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها ، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين » أنه يملك مجيئه ووقوعه ، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة ، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة ، وليس ظرفاً اتسع فيه .
قال أبو علي : ومن قرأ «مالك يوم الدين » فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام ، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }( {[47]} ) [ البقرة : 185 ] فنصب { الشهر } على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر ، ولو كان الشهر مفعولاً للزم الصوم للمسافر ، لأن شهادته لشهر كشهادة المقيم ، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر : [ الطويل ] .
ويوماً شهدناه سليماً وعامرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[48]} )
والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء ، منها الملة . قال الله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }( {[49]} ) [ آل عمران : 19 ] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى ، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته ديناً ، فيقال فلان حسن الدين ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره : «قيل : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين »( {[50]} ) وقال علي بن أبي طالب : «محبة العلماء دين يدان به » . ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة : فمنه قول العرب في الريح : «عادت هيف لأديانها »( {[51]} ) ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كدينك أمّ الحويرثِ قبلَها *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[52]} )
ومنه قول الشاعر : [ المثقب العبدي ] [ الوافر ] :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أهذا دينه أبداً وديني( {[53]} )
إلى غير من الشواهد ، يقال دين ودينة أي عادة .
ومن أنحاء اللفظة : الدين سيرة الملك وملكته( {[54]} ) ، ومنه قول زهير : [ البسيط ] .
لئن حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسد . . . في دين عمروٍ وحالتْ بينَنَا فَدَكُ( {[55]} )
أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته ، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله { ملك يوم الدين } . ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء ، فمن ذلك قول الفند الزماني( {[56]} ) : [ شهل بن شيبان ] [ الهزج ] .
ولم يبق سوى العدوا . . . ن دنّاهم كما دانوا
أي جازيناهم . ومنه قول كعب بن جعيل( {[57]} ) : [ المتقارب ] .
إذا ما رمونا رميناهمُ . . . ودناهمُ مثل ما يقرضونا
ومنه قول الآخر : ( {[58]} )
واعلمْ يقيناً أنّ ملكَكَ زائلٌ . . . واعلمْ بأنَّ كما تدينُ تدانُ
وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلحُ لتفسير قوله تعالى : { ملك يوم الدين } أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها ، كذلك قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وقتادة وغيرهم .
قال أبو علي : يدل على ذلك قوله تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }( {[59]} ) [ غافر : 17 ] ، و { اليوم تجزون ما كنتم تعملون }( {[60]} ) [ الجاثية : 28 ] . وحكى أهل اللغة : دنته بفعله ديناً بفتح الدال وديناً بكسرها جزيته ، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم .
وقال مجاهد : { ملك يوم الدين } أي يوم الحساب ، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء . ومن أنحاء اللفظة الدين الذل ، والمدين العبد ، والمدينة الأمة ، ومنه قول الأخطل : ( {[61]} )
رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِها ابنُ مدينةٍ . . . تراه على مِسْحاتِه يَتَرَكَّلُ
أي ابن أمة ، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن ، الميم أصلية ، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره . وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب . ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة ، والديان السائس ، ومنه قول ذي الأصبع( {[62]} ) الحدثان بن الحارث : [ البسيط ] .
لاهِ ابنِ عمّك لا أفضلتَ في حسبٍ . . . يوماً ولا أنتَ دياني فتخزوني
ومن أنحاء اللفظة الدين الحال .
قال النضر بن شميل( {[63]} ) : «سألت أعرابياً عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك » . ومن أنحاء اللفظة الدين الداء ، عن اللحياني( {[64]} ) وأنشد : [ البسيط ]
ما دين قلبك من سلمى وقد دينا( {[65]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو ، فلم يبق إلا قول اللحياني .