المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

52- لا تحزن - أيها النبي - من محاولات هؤلاء الكفار ، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا ونبي من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئاً يدعوهم به إلى الحق تصدى له شياطين الإنس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته ، فيزيل الله ما يدبِّرون ، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق ؛ حيث يثبت الله شريعته ، وينصر رسوله ، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم ، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن فضل الله - تعالى - على أنبيائه ورسله حيث عصمهم من كيد الشيطان ووسوسته وحفظ دعوتهم من تكذيب المكذبين ، وعبث العابثين . . . فقال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا . . . } .

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركى قريش قد أسلموا .

ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .

ثم قال - رحمه الله - : قال ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة سورة النجم ، فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى " .

قالوا : - أى المشركون - : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ . . . } .

وجمع - سبحانه - بين الرسول والنبى ، لأن المقصود بالرسول من بعث بكتاب ، وبالنبى من بعث بغير كتاب ، أو المقصود بالرسول من بعث بشرع جديد ، وبالنبى من بعث لتقرير شرع من قبله .

ولفظ { تمنى } هنا : فسره العلماء بتفسيرين :

أولهما : أنه من التَّمَنِّى ، بمعنى محبة الشىء ، وشدة الرغبة فى الحصول عليه ، ومفعول " ألقى " محذوف والمراد بإلقاء الشيطان فى أمنيته : محاولته صرف الناس عن دعوة الحق ، عن طريق إلقاء الأباطيل فى نفوسهم ، وتثبيتهم على ما هم فيه من ضلال .

والمعنى : وما أرسلنا من قبلك - يا محمد - من رسول ولا نبى ، إلا إذا تمنى هداية قومه إلى الدين الحق الذى جاءهم به من عند ربه ، ألقى الشيطان الوساوس والشبهات فى طريق أمنيته لكى لا تتحقق هذه الأمنية ، بأن يوهم الشيطان الناس بأن هذا الرسول أو النبى ساحر أو مجنون ، أو غير ذلك من الصفات القبيحة التى برأ الله - تعالى - منها رسله وأنبياءه .

قال - تعالى - : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والآية الكريمة على هذا التفسير واضحة المعنى ، ويؤيدها الواقع ، إذ أن كل رسول أو نبى بعثه الله - تعالى - كان حريصا على هداية قومه ، وكان يتمنى أن يؤمنوا جميعا ، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاد يهلك نفسه هما وغما بسبب إصرار قومه على الكفر .

قال - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } إلا أن قوم كل رسول أو نبى منهم من آمن به .

ومنهم من أعرض عنه بسبب إغراء الشيطان لهم ، وإيهامهم بأن ما هم عليه من ضلال هو عين الهدى .

وإلى هذا التفسير أشار صاحب الكشاف بقوله : " قوله - تعالى - : { مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } دليل بين على تغاير الرسول والنبى . والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبى غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله .

والسبب فى نزول هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أعرض عنه قومه وشاقوه ، وخالفته عشيرته ولم يشايعوه فى ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيرهم وعنادهم .

أما التفسير الثانى للفظ { تمنى } فهو أنه بمعنى قرأ وتلا . ومنه قو حسان بن ثابت ، فى رثاء عثمان بن عفان رضى الله عنه :

تمنى كتاب الله أول لَيْلِهِ . . . وآخره لاقى حمام المقادر

أى : قرأ وتلا كتاب الله فى أول الليل . وفى آخر الليل وافاه أجله .

ومفعول { أَلْقَى } على هذا المعنى محذوف - أيضا - والمراد بما يلقيه الشيطان فى قراءته : ما يلقيه فى معناها من أكاذيب وأباطيل ، ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه الرسول وما يتلوه ، وليس المراد أنه يلقى فيها ما ليس منها بالزيادة أو بالنقص ، فإن ذلك محال بالنسبة لكتاب الله - تعالى - الذى تكفل - سبحانه - بحفظه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } والمعنى : وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - من رسول ولا نبى إلا إذا قرأ شيئا مما أنزلناه عليه ، القى الشيطان فى معنى قراءته الشبه والأباطيل ، ليصد الناس عن اتابع ما يتلوه عليهم هذا الرسول أو النبى .

قال الآلوسى - رحمه الله - : والمعنى : وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا ، إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ، ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ، ليجادلوه بالباطل ، ويردوا ما جاء به ، كما قال - تعالى - : { . . . وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ . . } وقال - سبحانه - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . } وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله . وكقولهم عند سماع قراءته لقوله - تعالى - { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ . . } إن عيسى قد عبد من دون الله ، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله .

والآية الكريمة { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان } على هذا التفسير - أيضا - واضحة المعنى ، إذا المراد بما يلقيه الشيطان فى قراءة الرسول أو النبى ، تلك الشبه والأباطيل التى يلقيها فى عقول الضالين ، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا .

وقوله - تعالى - : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } بيان لسنته - سبحانه - التى لا تتخلف فى إحقاق الحق . وإبطال الباطل .

وقوله { فَيَنسَخُ } من النسخ بمعنى الإزالة . يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته .

أى : فيزيل - سبحانه - بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان فى القلوب التى شاء الله - تعالى - لها الإيمان والثبات على الحق ثم يحكم - سبحانه - آياته بأن يجعلها متقنة ، لا تقبل الرد ، ولا تحتمل الشك فى كونها من عند - عز وجل - والله عليم بجميع شئون خلقه ، حكيم فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة " النجم " فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغَرَانيق العلى . وإن شفاعتهن{[20350]} ترتجى " . قالوا : ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم . فسجَدَ وسجدوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] {[20351]} }

رواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، به نحوه{[20352]} ، وهو مرسل ، وقد رواه البزار في مسنده ، عن يوسف بن حماد ، عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - فيما أحسب ، الشك في الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة " النجم " ، {[20353]} حتى انتهى إلى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } ، وذكر بقيته . ثم قال البزار : لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور . وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس{[20354]} .

ثم رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، وعن السدي ، مرسلا . وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، مرسلا أيضا{[20355]} .

وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم [ يصلي ]{[20356]} عند المقام إذ نَعَس ، فألقى الشيطان على لسانه " وإن شفاعتها لترتجى . وإنها لمع الغرانيق العلى " ، فحفظها المشركون . وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها ، فزَلَّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ] {[20357]} } الآية ، فدَحَرَ الله الشيطان .

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي ، حدثنا محمد بن فُلَيْح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ، فكان{[20358]} يتمنى هُداهم ، فلما أنزل الله سورة " النجم " قال : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت ، فقال : " وإنهن لهن الغرانيق العلى . وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى{[20359]} " . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، وزلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا ، قد رجع إلى دينه الأول ، ودين قومه . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آخر النجم ]{[20360]} سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا ، فرفع على{[20361]} كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما{[20362]} من جماعتهم في السجود ، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين - ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي{[20363]} ألقى الشيطان في مسامع المشركين - فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه{[20364]} من الفرية ، وقال [ تعالى ]{[20365]} : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالهم{[20366]} وعداوتهم المسلمين ، واشتدوا عليهم . وهذا أيضًا مرسل .

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، نحوه{[20367]} . وقد رواه الإمام{[20368]} أبو بكر البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة ، ساقه في مغازيه بنحوه ، قال : وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة .

قلت : وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ، فالله أعلم . وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك ، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم{[20369]} .

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته . وقد تعرض القاضي عياض ، رحمه الله ، في كتاب " الشفاء " لهذا ، وأجاب بما حاصله{[20370]} .

وقوله : { إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، هذا فيه تسلية له ، صلوات الله وسلامه عليه{[20371]} ، أي : لا يَهيدنّك ذلك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء .

قال البخاري : قال ابن عباس : { فِي أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا تَمَنَّى [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .

وقال مجاهد : { إِذَا تَمَنَّى } {[20372]} ] يعني : إذا قال .

ويقال : { أُمْنِيَّتِهِ } : قراءته ، { إِلا أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] ، يقولون ولا يكتبون .

قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تَمَنَّى } أي : تلا وقرأ كتاب الله ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :

تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة *** وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادرِ{[20373]}

وقال الضحاك : { إِذَا تَمَنَّى } : إذا تلا .

قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام .

وقوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } ، حقيقة النسخ لغة : الإزالة والرفع .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فيبطل الله - سبحانه وتعالى - ما ألقى الشيطان .

وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته .

وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ{[20374]} } ، [ أي : بما يكون من الأمور والحوادث ، لا تخفى عليه خافية ]{[20375]} ، { حَكِيمٌ } أي : في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين فرحوا بذلك ، واعتقدوا أنه صحيح ، وإنما كان من الشيطان .

قال ابن جريج : { لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم : المنافقون { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } : المشركون .

وقال مقاتل بن حيان : هم [ الكافرون ]{[20376]} اليهود .

{ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : في ضلال ومخالفة وعناد بعيد ، أي : من الحق والصواب .


[20350]:- في ت ، ف : "شفاعتهم".
[20351]:- زيادة من ف ، أ وفي ت : "الآية".
[20352]:- تفسير الطبري (17/133).
[20353]:- في ف ، أ : "لا نعلمه".
[20354]:- مسند البزار برقم (2263) "كشف الأستار".
[20355]:- تفسير الطبري (17/131).
[20356]:- زيادة من أ.
[20357]:- زيادة من ف ، أ.
[20358]:- في ف : "وكان".
[20359]:- في أ : "ترجى".
[20360]:- زيادة من ف ، أ.
[20361]:- في ت ، أ : "ملء".
[20362]:- في ت : "الفريقان منهما كلاهما".
[20363]:- في أ : "الذي".
[20364]:- في ت ، أ : "وحفظه الله".
[20365]:- زيادة من ف ، أ.
[20366]:- في ف : "بضلالتهم".
[20367]:- تفسير الطبري (17/133).
[20368]:- في أ : "الحافظ".
[20369]:- معالم التنزيل للبغوي (5/394).
[20370]:- كذا في جميع النسخ وكلام القاضي عياض في الشفاء (2/107) أذكره مختصرا له ، قال رحمه الله : "فاعلم ، أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما : في توهين أصله. والثانى : على تسليمه.أما المأخذ الأول : فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة ، وآخر بقول : بل حدث نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: "والله ما هكذا أنزلت".إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فيما أحسب - الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة وذكر القصة.قال أبو بكر البزار : هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.فقد بين لك أبو بكر ، رحمه الله ، أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه.أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار ، رحمه الله.والذي منه في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "والنجم" وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهينه من طريق النقل.أما من جهة المعنى ، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل - عليه السلام - ، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفر ، أو سهوا وهو معصوم من هذا كله.ووجه ثان : هو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا ، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم ، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك.وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه!!ووجه ثالث : أنه قد علم من عادة المنافقين ، ومعاندي المشركين ، وضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين ، نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة...ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة.ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت " وإن كادوا ليفتنونك.. " الآيتين.وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه، حتى يفتري وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.فمضمون هذا ومفهومه : أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن اليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهذا ضد مفهوم الآية وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له ، وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ".وأما المأخذ الثاني : فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.ثم ذكر الأجوبة على ذلك (2/111 - 114) وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال : "هذا من وضع الزنادقة" وهذا هو الصواب.للاستزادة : انظر : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص - 314 لمحمد أبي شهبة ، ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق لمحمد ناصر الدين الألباني.
[20371]:- في ف ، أ : "عليه وسلامه".
[20372]:- زيادة من ف ، أ.
[20373]:- البيت في اللسان ، مادة (منى) غير منسوب.
[20374]:- في ف ، أ : "عليم حكيم".
[20375]:- زيادة من ت.
[20376]:- زيادة من ت.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمّ به ، فسلاّه الله مما به من ذلك بهذه الاَيات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : والنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا بلغ : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرَى ألقى عليه الشيطان كلمتين : «تلك الغرانقة العُلَى ، وإن شفاعتهنّ لتُرْجَى » ، فتكلم بها . ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود . فرضُوا بما تكلم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيبا ، فنحن معك قالا : فلما أمسى أتاه جبرائيل عليهما السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «افْتَرَيْتُ عَلى اللّهِ وقُلْتُ عَلى اللّهِ ما لَمْ يَقُلْ » فأوحى الله إليه : وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ ، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ . . . إلى قوله : ثُمّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرا . فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيَ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكِيمٌ . قال : فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدنيّ ، عن محمد بن كعب القُرظيّ قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّيَ قومه عنه ، وشقّ عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله ، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه . وكان يسرّه ، مع حبه وحرصه عليهم ، أن يلين له بعض ما غلُظَ عليه من أمرهم ، حين حدّث بذلك نفسه وتمنى وأحبه ، فأنزل الله : والنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحبُكُمْ وَما غَوَى فلما انتهى إلى قول الله : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان على لسانه ، لما كان يحدّث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه : «تلك الغرانيق العلَى ، وإن شفاعتهن تُرْتَضى » . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرّهم ، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدّقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خط ولا وَهَم ولا زلل . فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة ، سجد فيها ، فسجد المسلمون بسجود نبيهم ، تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره ، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة ، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها . ثم تفرّق الناس من المسجد ، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ، يقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العُلَي وأن شفاعتهنّ ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : أسلمت قريش . فنهضت منهم رجال ، وتخلّف آخرون . وأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم يُقَلْ لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وخاف من الله خوفا كبيرا ، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه وكانَ بِهِ رَحِيما يعزّيه ويخفّض عليه الأمر ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبيّ تمنى كما تمنى ولا أحبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ، أي فأنت كبعض الأنبياء والرسل فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمِنيّتِهِ . . . الاَية . فأذهب الله عن نبيه الحزن ، وأمنه من الذي كان يخاف ، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أَنهّا الغرانيق العُلَى وأن شفاعتهنّ ترتضى . يقول الله حين ذكر اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى ، إلى قوله : وكَمْ منْ مَلَكٍ فِي السّمَوَاتِ لا تُغْنى شَفاعَتُهُمْ شَيْئا إلاّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللّهِ لمَنْ يَشاءُ وَيَرْضَى ، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده . فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش : ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله ، فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك ، فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن أبي العالية ، قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : فأجرى الشيطان على لسانه : «تلك الغرانيق العُلَى ، وشفاعتهن ترجى ، مثلهن لا يُنسى » . قال : فسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قرأها ، وسجد معه المسلمون والمشركون . فلما علم الذي أُجْرِي على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال : قالت قريش : يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس ، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الاَفاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلما انتهى على هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى فألقى الشيطان على لسانه : «وهي الغرانقة العلى ، وشفاعتهن ترتجى » . فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون والمشركون ، إلا أبا أُحَيحة سعيد بن العاص ، أخذ كفّا من تراب وسجد عليه وقال : قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت ، فاشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، قال : لما نزلت هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى » . فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : عَذَابَ يَوْمٍ عَقِيم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جُبير قال : لما نزلت : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى ، ثم ذكر نحوه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي ، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنَوا منه ، فبينما هو يتلوها وهو يقول : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان : «إن تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » . فجعل يتلوها ، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها ، ثم قال له : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيَ . . . الاَية أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، أنزل الله عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها . فسمع أهل مكة نبيّ الله يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ، ودنوا يستمعون ، فألقى الشيطان في تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » . فقرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك ، فأنزل الله عليه : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ . . . إلى : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه سئل عن قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيّ . . . الاَية ، قال ابن شهاب : ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : والنّجْمِ إذَا هَوَى ، فلما بلغ : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : «إن شفاعتهن ترتجَى » . وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض ، فسلموا عليه ، وفرحوا بذلك ، فقال لهم : «إنّمَا ذلكَ مِنَ الشّيْطانِ » . فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ . . . حتى بلغ : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ .

فتأويل الكلام : ولم يرسل يا محمد مَنْ قَبْلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبيّ محدّث ليس بمرسل ، إلا إذا تمنى .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله «تمنى » في هذا الموضع ، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال : ذلك التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون ، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا قرأ وتلا أو حدّث . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذَا تَمنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ يقول : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا تَمَنّى قال : إذا قال .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إلاّ إذَا تَمَنّى يعني بالتمني : التلاوة والقراءة .

وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ على ذلك لأن الاَيات التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها ، لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم أن الذي ألقي فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه .

فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله ، وقرأ ، أو حدّث وتكلم ، وألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو في حديثه الذي حدث وتكلم . فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ يقول : تعالى فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله . كما :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ فيبطل الله ما ألقى الشيطان .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأحكم الله آياته .

وقوله : ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ يقول : ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه . وَاللّهُ عَلِيمٌ بما يحدث في خلقه من حدث ، لا يخفى عليه منه شيء . حَكِيمٌ في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحَبّ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

وعبر بعض الناس في تفسير { معاجزين } بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة ، وقرأت فرقة «معجّزين » بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي : «معجزين » ناسبين أصحاب النبي إلى العجز كما تقول فسّقت فلاناً وزنيته إذا نسبته إلى ذلك

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

عطف على جملة { قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } [ الحج : 49 ] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } [ الحج : 48 ] الخ . . وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك ، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام .

فقوله : { من رسول ولا نبيء } نص في العموم ، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل .

وعطف { نبي } على { رسول } دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول :

فالرسول : هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة . والنبي : مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول ، وهو التحقيق .

والتمنّي : كلمة مشهورة ، وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصولُه . والأمنية : الشيء المتمنّى . وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين ، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو { من رسول ولا نبيء } ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير .

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره .

والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد . واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس . ومنه قوله تعالى : { فكذلك ألقى السامري } [ طه : 87 ] وقوله : { فألقوا إليهم القول } [ النحل : 86 ] وكقوله تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } [ طه : 96 ] على ما حققناه فيما مضى .

ومفعول { ألقى } محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد ، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح ، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد . فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد .

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها ، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم ، فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم ، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان ، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي ، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى :

{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ] . فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان ، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً ، وذلك هو إحكام آياته ، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه ، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران .

وقد فسر كثيرٌ من المفسرين { تمنَى } بمعنى قَرَأ ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها . وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته ، أي في قراءته ، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر . فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده .

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم ، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير :

تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية .

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد ، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره ، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد . فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] .

و { ثُمّ } في قوله : { ثم يحكم الله آياته } للترتيب الرتبي ، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً .

وجملة { والله عليم حكيم } معترضة .

ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : { أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 41 - 42 ] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : { لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 42 ] وقوله : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } [ ص : 6 ] . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة . فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت . وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان ، ويُحكم آثارَ آياته .