المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

34- يا أيها المؤمنون : اعلموا أن كثيراً من علماء اليهود ورهبان النصارى يستحلون أموال الناس بغير حق ، ويستغلون ثقة الناس فيهم واتباعهم لهم في كل ما يقولون ، ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام . والذين يستحوذون على الأموال من ذهب وفضة ، حابسين لها ، ولا يؤدون زكاتها ، فأنذرهم - أيها الرسول - بعذاب موجع .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

ثم ختم - سبحانه - الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي انغمس فيها الأحبار والرهبان ، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم ، حيث أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون . . فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } .

قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق ، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس ، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر ، أخذ أموال الناس بالباطل .

ولعمرى من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زمانان وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم ، وفى شرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا ، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات ، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين ؛ حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ؛ ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله .

المراد بالأكل في قوله : { لَيَأْكُلُونَ } مطلق الأخذ والانتفاع .

وعبر عن ذلك بالأكل ، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال ، فسمى الشئ باسم ما هو أعظم مقاصده ، على سبيل المجاز المرسل ، بعلاقة العلية والمعلولية . وأكلهم أموالهم الناس بالباطل ، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة . كما يتناول ما سوى ذلك ما كانوا يأخذونه بغير وجه حق .

وأسند - سبحانه - هذه الجريمة - وهى أكل أموال الناس بالباطل - إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم ينسدها إلى جميعهم ، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك ، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام ، ويقيدون أنفسهم بالحلال .

قال صاحب المنار : وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في عبارات الكتاب العزيز ، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم ، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر ، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه .

فمن الأول قوله - تعالى - في اليهود : { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ومن الثانى قوله - تعالى - في اليهود أيضاً : { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } ومن الثالث قوله - سبحانه - في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإِسلام من اليهود - أيضاً - : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه .

.

وقوله : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } جريمة من جرائمهم الكثيرة .

والصد : المنع والصرف عن الشئ . . وسبيل الله : دينه وشريعته .

أى : أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل ، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهى انهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإِسلام انقياداً لأحقادهم وشهواتهم ، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل ، كأن يصفوه لهم بأنه دين باطل ، أو بأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة . . إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق .

والاسم الموصول في قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله . . . } يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان ، لأن الكلام مسوق في ذمهم ، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل ، بعد ذمهم على رذيلتى أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله .

ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين ، وأن الجملة مستأنفة لذم ما نعى الزكاة بقرينة قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإِشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله ، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب .

وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال ، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم ، لأن اللفظ مطلق ، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه ، إذ لم ما يقديه أو يخصصه .

وقوله : { يَكْنِزُونَ } من الكنز ، وأصله في اللغة العربية : الضم الجمع .

يقال : كنزت التمر في الوعاء إذا جمعته فيه . وكل شئ مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز ، وجمعه كنوز .

وخص الذهب والفضة بالذكر ، لأنها الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما .

وقال الفخر الرازى ما ملخصه : ذكر - سبحانه - شيئين هما الذهب والفضة ثم قال : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } - وكان الظاهر أن يقول " ولا ينفقونهما " والجواب من وجهين : الأول : أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ ، لأن كل واحد منهما جملة وافية ؛ وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله - تعالى - { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } أو أن يكون التقدير : والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله ، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل { يَكْنِزُونَ } .

الثانى : أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر ، كقوله - تعالى - { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } جعل الضمير للتجارة . .

وقوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خبر الموصول .

والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم ، والسخرية منهم ، فهو كقولهم : تحيتهم الضرب ؛ وإكرامهم الشتم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

قال السدي : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى .

وهو كما قال ، فإن الأحبار هم علماء اليهود ، كما قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [ المائدة : 63 ]

والرهبان : عباد النصارى ، والقسيسون : علماؤهم ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [ المائدة : 82 ]

والمقصود : التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال{[13406]} كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى . وفي الحديث الصحيح : " لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة " . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ " . وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : " وَمَن{[13407]} الناس إلا هؤلاء ؟ " {[13408]} والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم ؛ ولهذا قال تعالى : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس ، يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[13409]} استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ، وعوضهم بالذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله .

وقوله تعالى : { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويُلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير ، وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ، ويوم القيامة لا ينصرون .

وقوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس ، فإن الناس عالة على العلماء ، وعلى العُبَّاد ، وعلى أرباب الأموال ، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس ، كما قال بعضهم{[13410]} وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ *** وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها?

وأما الكنز فقال مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة .

وروى الثوري وغيره عن عُبَيد الله{[13411]} عن نافع ، عن ابن عمر قال : ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما{[13412]} كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز{[13413]} وقد رُوي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا{[13414]} وعمر بن الخطاب ، نحوه ، رضي الله عنهم : " أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض " .

وروى البخاري من حديث الزهري ، عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر ، فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال{[13415]}

وكذا قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك : نسخها قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ التوبة : 103 ]

وقال سعيد بن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز ما أحدثكم إلا ما سمعت .

وقال الثوري ، عن أبي حصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن جَعْدَة بن هبيرة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر منه{[13416]} فهو كنز .

وهذا غريب . وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر{[13417]} منهما ، أحاديث كثيرة ؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي ، فقال عبد الرازق : أخبرنا الثوري ، أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، بن جعدة بن هبيرة ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَبّا للذهب ، تَبّا للفضة " يقولها ثلاثا ، قال : فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال : عمر ، رضي الله عنه ، أنا أعلم لكم ذلك فقال : يا رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم [ و ]{[13418]} قالوا : فأيَّ مال نتخذ ؟ قال : " لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا{[13419]} وزوجة تعين أحدكم على دينه " {[13420]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني سالم ، حدثني عبد الله بن أبي الهُذَيْل ، حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تبا للذهب والفضة " . قال : فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، قولك : " تبا للذهب والفضة " ، ماذا ندخر ؟ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تُعين على الآخرة " {[13421]}

حديث آخر : قال{[13422]} الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : لما نزل في الفضة والذهب{[13423]} ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال [ عمر : أنا أعلم ذلك لكم فأوضع{[13424]} على بعير فأدركه ، وأنا في أثره ، فقال : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ؟ قال ]{[13425]} ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في{[13426]} أمر الآخرة " .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد{[13427]} وقال الترمذي : حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان .

قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم .

حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غَيْلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الآية ، كَبُر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده . فقال عمر : أنا أفرِّج عنكم . فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبيَّ الله ، إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية . فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم " . قال : فكبَّر عمر ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " .

ورواه أبو داود ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى ، به{[13428]} وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالشَّفْرَةِ نعْبَث بها . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخْطمُها وأزمُّها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظونها{[13429]} علي ، واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم ، إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب " {[13430]}


[13406]:- في ت ، د ، ك ، أ : "الضلالة".
[13407]:- في ت ، د ، أ : "فمن".
[13408]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (3456) ومسلم في صحيحه برقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[13409]:- في د : "صلى الله عليه وسلم".
[13410]:- هو عبد الله بن المبارك رحمه الله.
[13411]:- في أ : "عبد الله".
[13412]:- في ت ، أ : "وإن".
[13413]:- رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/82) من طريق سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا وقال : "ليس هذا بمحفوظ ، وإنما المشهور عن سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر موقوفا".
[13414]:- أما حديث ابن عباس ، فرواه الطبري في تفسيره (14/225) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس موقوفا ، وأما حديث جابر ، فرواه ابن عدي في الكامل (7/189) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (8/12) من طريق خصيف عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ، وأما حديث أبي هريرة ، فرواه الترمذي في السنن برقم (618) قال العراقي : "إسناده جيد".
[13415]:- صحيح البخاري برقم (1404).
[13416]:- في ت ، د ، أ : "أكثر من ذلك".
[13417]:- في ت : "التكثير".
[13418]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13419]:- في أ : "ذاكرا".
[13420]:- ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (2/71) وعزاه لعبد الرزاق في تفسيره بعد أن ذكر من حديث ثوبان وعمر ، ثم قال : "الحاصل أنه حديث ضعيف لما فيه من الاضطراب".
[13421]:- المسند (5/366).
[13422]:- في ت ، ك : "وقال".
[13423]:- في ت ، ك : "في الذهب والفضة".
[13424]:- في ت ، ك : "أعلم لكم ذلك قال : فأوضع".
[13425]:- زيادة من ت ، د ، ك ، أ والمسند.
[13426]:- في ت ، د ، ك ، أ ، "علي".
[13427]:- المسند (5/282) وسنن الترمذي برقم (3094) وسنن ابن ماجه برقم (1856).
[13428]:- سنن أبي داود برقم (1664) والمستدرك (2/333) قال الذهبي : "وعثمان لا أعرفه والخبر عجيب".
[13429]:- في ت ، د ، ك ، أ : "تحفظوها".
[13430]:- المسند (4/123).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .

يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم ، إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى ٍٍ " يَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ " يقول : يأخذون الرُّشى في أحكامهم ، ويحرّفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتباً ثم يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سِفْلَتِهم . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ، يقول : ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بنهيهم إيّاهم عنه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

- حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " أما " الأحبار " ؛ فمن اليهود . وأما " الرهبان " ؛ فمن النصارى . وأما " سبيل الله " ؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ } .

يقول تعالى ذكره : " إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " ، ويأكلها أيضا معهم " الّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " ، يقول : بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، بعذاب أليم لهم يوم القيامة مُوجع من الله .

واختلف أهل العلم في معنى " الكنز " ، فقال بعضهم : هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة ، فلم تؤدّ زكاته . قالوا : وعنى بقوله : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، ولا يؤدون زكاتها . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ زكاته ، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن ، يُكْوَى به صاحبه ، وإن لم يكن مدفونا .

- حدثنا الحسن بن الجنيد ، قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : كلّ مال أدّيت منه الزكاة فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ منه الزكاة وإن لم يكن مدفونا ، فهو كنز .

- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أيمُّا مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا في الأرض . وأيما مال لم تؤدّ زكاته ، فهو بكنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وجرير ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .

- قال : حدثنا أبي ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان تحت سبع أرضين . وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا .

- قال : حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .

- حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : " أما الذين يكنزون الذهب والفضة " ، فهؤلاء أهل القبلة . و " الكنز " : ما لم تؤدّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض ، وإن قلّ . وإن كان كثيرا قد أدّيت زكاته ، فليس بكنز .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، قال : قلت لعامر : مالٌ على رفّ بين السماء والأرض لا تؤدّى زكاته ، أكنز هو ؟ قال : يُكْوى به يوم القيامة .

وقال آخرون : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ، فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه قال : أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " ، فما كان أكثر من ذلك فهو " كنز " .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ ، مثله .

- حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الشعبيّ ، قال : أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز .

وقال آخرون : " الكنز " كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أنس ، عن عبد الواحد : أنه سمع أبا مجيب قال : كان نعل سيف أبي هريرة من فضة ، فنهاه عنها أبو ذرّ ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا » .

- حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش وعمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَبًّا للذّهَبِ ! تَبًّا للفِضّةِ ! » يقولها ثلاثا . قال : فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : فأيَّ مال نتخذه ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك . فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم ، وقالوا : فأيَّ المال نتخذ ؟ فقال : «لسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .

- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان ، بمثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن عمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال المهاجرون : وأيَّ المال نتخذ ؟ فقال عمر : أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه . قال : فأدركته على بعير ، فقلت : يا رسول الله إن المهاجرين قالوا : فأيَّ المال نتخذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لِسانا ذَاكِرا ، وقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .

- حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : توفي رجل من أهل الصُّفَّة ، فوُجد في مئزرِه دينارٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوُجد في مئزره ديناران ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :

«كَيّتانِ ! » .

- حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن صدى بن عجلان أبي أمامة ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوجد في مئزره ديناران فقال نبيّ الله :

«كَيّتانِ ! » .

- حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ، عن ثوبان ، قال : كنا في سفر ، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال المهاجرون : لوددنا أنا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه ؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل ! فقال عمر : إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! فقالوا : أجل ! فانطلق فتبعته أوضع على بعيري ، فقال : يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا : وددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه ، قال : «نَعَمْ ، فَيَتّخِذُ أحَدُكُمْ لِسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على إيمَانِهِ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، القول الذي ذُكِر عن ابن عمر : من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر ، وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد الله ، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل ، إذا كان مما يجب فيه الزكاة .

وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشرها ، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها . فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله ، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ لو كان ، وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليها العقاب ، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر . لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرامٌ اتخاذه ، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره ، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده ، فالتطهر منه : ردّه إلى صاحبه . فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم ، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها ، مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله ، لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره ، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه ، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصبِ رجلٍ مالَه ردُّه على ربه . وبعد ، فإن فيما :

- حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : قال معمر : أخبرني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ، ثُمّ يَرَى سَبِيلَه ، وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ ، تَطَؤُهُ بأخْفَافِها » حسبته قال :

«وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها ، يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ . وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ ، إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها ، وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها » .

وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها ، الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة ، لا على اقتنائها واكتنازها .

وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس ، وذلك ما :

- حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " يقول : هم أهل الكتاب ، وقال : هي خاصة وعامة .

يعني بقوله : " هي خاصة وعامة " ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم ، وعامة في أهل الكتاب ، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا .

يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ما :

- حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها . . . " إلى قوله : " هَذَا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذَوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ " ، قال : هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم . قال : وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز ، وكل مال تؤدّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها .

- حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : " الكنز " : ما كنز عن طاعة الله وفريضته ، وذلك " الكنز " . وقال : افترضت الزكاة والصلاة جميعا ، لم يفرق بينهما .

وإنما قلنا ذلك على الخصوص ، لأن الكنز في كلام العرب : كلّ شيء مجموع بعضُه على بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها ، يدلّ على ذلك قول الشاعر :

لا دَرَّ دَرِّىَ إنْ أطْعَمْتُ نازِلَهُم *** قَرْفَ الحَتِيّ وعنْدي البُرّ مَكْنُوزُ

يعني بذلك : وعند البرّ مجموع بعضه على بعض ، وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع : مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض .

وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم ، وكان قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، معناه : والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ، ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، وهو عامّ في التلاوة ، لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض ، استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك ، لوقْف الرسول عليه ، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ الله منه من الزكاة ، دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته .

وقد كان بعض الصحابة يقول : هي عامة في كلّ كنز ، غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها . ذكر من قال ذلك :

- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالرَّبَذَة ، فلقيت أبا ذرّ ، فقلت : يا أبا ذرّ ، ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشأم ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ . . . " الآية ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينا ، إنما هذه الآية في أهل الكتاب ! قال : فقلت إنها لفينا وفيهم ! قال : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان : أن أقبل إليّ ! قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنحّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال حدثنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررنا بالربذة ، ثم ذكر عن أبي ذرّ نحوه .

- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، وهشام ، عن أبي بشر ، قال : قال أبو ذرّ : خرجت إلى الشام ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فقال معاوية : إنما هي في أهل الكتاب ! قال : فقلت : إنها لفينا وفيهم .

- حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ ، قال : قلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال : فقال : نزلت في أهل الكتاب ! فقلت : نزلت فينا وفيهم . ثم ذكر نحو حديث هشيم عن حصين .

فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فأخرجت " الهاء " و " الألف " مخرج الكناية عن أحد النوعين ؟

قيل : يحتمل ذلك وجهين : أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز ، كأنه قيل : وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوزولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، لأن الذهب والفضة هي " الكنوز " في هذا الموضع . والاَخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى ، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها . وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها ، ومنه قول الشاعر :

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ ، والرأْيُ مُخْتَلِفُ

فقال : " راض " ، ولم يقل : " رضوان " . وقال الاَخر :

إنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعَرَ الأسْ *** وَدَ مَا لَمْ يُعاصَ كَانَ جُنُونَا

فقال : " يعاص " ، ولم يقل : «يعاصيا » في أشياء كثيرة . ومنه قول الله : " وإذَا رأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْها " ، ولم يقل : «إليهما » .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه . { ويصدّون عن سبيل الله } دينه . { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ ، ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " ما أدي زكاته فليس بكنز " أي بكنز أوعد عليه ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره " { فبشّرهم بعذاب أليم } هو الكي بهما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك ، واللام في { ليأكلون } لام التأكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون{[5617]} تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه{[5618]} ، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام ، ونحو ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى { بالباطل } ، يعم هذا كله ، وقوله { يصدون } ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و «صد » يستعمل واقفاً ومتجاوزاً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ]

صددت الكأس عنا أم عمرو*** وكان الكأس مجراها اليمينا{[5619]}

و { سبيل الله } الإسلام وشريعة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل ، والأول أرجح ، وقوله { والذين } ابتداء وخبره { فبشرهم } ، ويجوز أن يكون { والذين } معطوفاً على الضمير في قوله { يأكلون } على نظر في ذلك ، لأن الضمير لم يؤكد ، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال : لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله { والذين يكنزون } فأبى ذلك أبي بن كعب وقال :«لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي » فألحقها .

قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية ، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال : بل هي فينا ، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة{[5620]} ، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال ، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون » بغير واو ، و { يكنزون } معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية ، ومنه قول المنخل الهذلي : [ البسيط ]

لا در دري إن أطعمت نازلهم*** قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز{[5621]}

أي محفوظ في أوعيته ، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز ، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]

على شديد لحمه كناز*** بات ينزيني على أوفاز{[5622]}

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، ولذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كل ما أديت زكاته فليس بكنز »{[5623]} وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته ، وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، ولكن قال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله { خذ من أموالهم صدقة }{[5624]} فأتى فرض الزكاة على هذا كله .

قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله { خذ من أموالهم } [ التوبة : 103 ] والضمير في قوله { ينفقونها } يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع ، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [ قيس بن الخطيم ] : [ المنسرح ]

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأي مختلفُ{[5625]}***

ونحن قول حسان : [ الخفيف ]

إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأس*** ود ما لم يعاص كان جنونا{[5626]}

وسيبويه يكره هذا في الكلام ، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }{[5627]} وهي لا تشبهها ، لأن «أو » قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر ، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر ، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه ، فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله ، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه »{[5628]} وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية «تباً للذهب تباً للفضة »{[5629]} ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم ، والفاء في قوله { فبشرهم } ، جواب كما في قوله { والذين } من معنى الشرط ، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط ، وقيل بل هي أبداً للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذاباً أليماً ، وهذا نحو قول الشاعر [ عمرو بن معديكرب ] : [ الوافر ]

وخيل قد دلفت لها بخيلٍ*** تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيعُ{[5630]}


[5617]:- من قولهم: احتجن الشيء بمعنى احتوى عليه وضمّه إليه، ويقال: احتجن عليه بمن حجر، فهو من الإحتجان بمعنى جمع الشيء وضمه، وفي بعض النسخ (يحتجبون) والمعروف أن الاحتجاب بمعنى جمع الشيء وضمه، وفي بعض النسخ (يحتجبون) والمعروف أن الاحتجاب معناه الاختفاء خلف ستار، وعبارة القرطبي (يحجبون).
[5618]:- الكنز للراهب والذي استخرج هذا الكنز هو سلمان الفارسي. وفي العبارة غموض.
[5619]:- البيت لعمرو بن كلثوم- من معلقته المشهورة، وقد سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تعالى في الآية (34) من سورة الأنفال: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}.
[5620]:- الربذة بفتح الراء المشددة، وبفتح الباء: موضع قريب من المدينة. وظاهر الخبر أن عثمان هو الذي أخرج أبا ذر إلى الربذة، ولكن يظهر من رواية البخاري أنه عرض عليه ذلك وترك له حرية الخروج إليها، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: (مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: = إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشيا لسمعت وأطعت).
[5621]:- الدّرّ: اللبن، والدّر أيضا: العمل من خير أو شر، ومنه قولهم: لله درّك، يكون مدحا ويكون ذما، وغلب في مجال المدح: لله "درّك"، وفي مجال الذم: "لا درّ درّك". قال الفراء: وقد استعملوه من غير أن يقولوا (لله)، فيقولون: درّ درّ فلان، ولا درّ درُّه، ومنه هذا البيت. ويروى: "نازلهم" بدلا من "جائعهم"، وقِرْفُ الحتيّ هو سويق المُقل، والمقل هو ثمر شجر الدوم ينضج ويؤكل، يقول: إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم قرف الحتي، فلما نزلوا به قال: لا درّ درّي***الخ.
[5622]:- الراجز يصف جملا، وقد رواه في (اللسان) غير منسوب وبلفظ آخر، قال: أسوق عيرا مائل الجهاز صعبا ينزيني على أوفاز واللحم الكناز: المجتمع الصلب، والنّزو: الوثبان، يقال: نزا ينزو، ومنه: أنزاه ونزّاه تنزية، والوفز: ألا يطمئن في قعود، ويقال" قعد على أوفاز من الأرض، = = يقول: إن جملي صلب مجتمع اللحم يثب بي في سرعة فينزيني فلا أطمئن في قعودي عليه.
[5623]:- أخرج ابن عدي، والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي مال أديت زكاته فليس بكنز)، وأخرجه ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه موقوفا.
[5624]:- من الآية (103) من سورة (التوبة)
[5625]:- البيت لقيس بن الخطيم، وقد أنشده سيبويه مستشهدا على جواز الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر عند فهم المعنى، إذ لم يقل: رضوان.
[5626]:- الشاهد فيه أنه لم يقل: يُعاصيا، ومثل هذا البيت والذي قبله في الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فُهم المعنى قول ابن أحمر يصف رجلا كانت بينه وبينه مشاجرة في بئر (تسمى الطوي)، وأن هذا الرجل رماه بأمر يكرهه، ورمى أباه بمثله على براءتهما منه: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الَّطوِّي رماني.
[5627]:- من الآية (11) من سورة (الجمعة).
[5628]:- رواه الترمذي وحسنه، ورواه ابن ماجة من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد، ذكر ذلك القرطبي وابن كثير، وفي ابن كثير أن الإمام أحمد رواه عن ثوبان بلفظ: لما في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره (قائل ذلك ثوبان)، فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال: (قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة).
[5629]:- رواه عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبا للذهب تبا للفضة) يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر***الخ (ابن كثير).
[5630]:- قائل هذا البيت عمرو بن معد يكرب، والدّلف: المشي رويدا في خطو متقارب، وقيل: هو فوق الدبيب، والشاهد في البيت أن في كلمة (تحية) استعارة تهكمية فيها السخرية منهم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} وفيهما نزّل التضادّ منزلة التناسب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

{ يا أيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله }

استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب ، تحقيراً لهم في نفوسهم ، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم ، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين : مثل عُزير ، بين للمسلمين أنّ كثيراً من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال ، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه ، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالىء الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب ، على الضلال وعلى مناواة الإسلام ، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة ، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب .

وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد ، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته .

وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفاً .

وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلاَم ومُخَيْرِيق .

والباطل ضدّ الحقّ ، أي يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل ، أي أكلاً لا مبرّر له ، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى : { وتأكلون التراث أكلا لما } [ الفجر : 19 ] وقال { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } في سورة البقرة ( 188 ) وقد تقدّم ، وكذلك الباطل تقدّم هنالك .

والباطل يشمل وجوها كثيرة ، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس ، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحبِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة ، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم ، ومنها أكل أموال اليتامى ، وأموال الأوقاف والصدقات .

وسبيل الله طريقهُ استعير لدينه الموصّل إليه ، أي إلى رضاه ، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس ، وإغراءُ الناس بالإعراض عن ذلك . فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها ، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها ، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم ، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد ويعلِّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ .

والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين : اعتباراً بأنّه مضاعف متعدّ ، ولذلك لم يجيء في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره ، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى : { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } في سورة الأعراف ( 45 ) .

{ والذين يكنزون الذهب والفضة ثم لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }

جملة معطوفة على جملة { يأيها الذين آمنوا إن كثيراً } والمناسبة بين الجمْلتين : أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلاً لذلك ، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم ، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة ، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم ، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئاً من العذاب .

وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة : فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك ، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة ، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة ، كما أشارت إليه آية { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 92 ] وقد ورد في « السيرة » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله ، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } ولا شكّ أنّهم من المنافقين .

والكَنز بفتح الكاف مصدر كنز إذا ادّخر مالاً ، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يُخزن ، من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بِمعنى المخلوق .

و { سبيل الله } هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا .

فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد ، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قوماً بأعيانهم .

ومعنى { ولا ينفقونها في سبيل الله } انتفاء الإنفاق الواجب ، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة : إمّا وجوباً مستمرّاً كالزكاة ، وإمّا وجوباً عارضاً كالنفقة في الحجّ الواجبِ ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل .

والضمير المؤنّث في قوله : { ينفقونها } عائد إلى الذهب والفضة .

والوعيد منوط بالكَنز وعدمِ الإنفاق ، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه ، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال ، وفي معرض إيجاب الإنفاق ، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال ، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها ، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة ، ولا إلى تأويل { سبيل الله } بالصدقات الواجبة ، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد ، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة ، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية .

ووقع في « الموطأ » أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز ، أي المذموم المتوعّد عليه في آية { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآيةِ ما هو ؟ فقال : هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة . وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كَنزُك " فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه ، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموماً .

وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز ، وعلى عموم الإنفاق ، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ ، فقال بتحريم كَنز المال ، وكأنّه تأول { ولا ينفقونها } على معنى ما يسمّى عطف التفسير ، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين ، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول : بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم ، فقال له معاوية : وهو أمير الشام ، في خلافة عثمان : إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب ، فقال أبو ذرّ : نزلت فيهم وفينا ، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولاً لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاويةُ إلى عثمان ، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذَر الفتنةَ في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله .

والفاء في قوله : { فبشرهم } داخلة على خبر الموصول ، لتنزيل الموصول منزلة الشرط ، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر ، فضمير الجمع عائد إلى { الذين } ويجوز كون الضمير عائداً إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون . والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أنْ ذَكَر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكَر الكانزين ، أمر رسوله بأن يُنذر جميعهم بالعذاب ، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره : إذا علمتَ أحوالهم هذه فبشّرهم ، والتبشير مستعار للوعيد على طَريقة التهكّم .