وبعد أن نفر - سبحانه - من جريمة الزنا أعظم تنفير ، وأمر بتنفيذ عقوبته فى مرتكبها بدون رأفة أو تساهل . . . أتبع ذلك بتشريعات أخرى من شأنها أن تحمى أعراض الناس وأنفسهم من اعتداء المعتدين ، فقال - تعالى - : { والذين يَرْمُونَ . . . } .
قوله - تعالى - { يَرْمُونَ } من الرمى ، وأصله القذف بشىء صلب أو ما يشبهه تقول : رمى فلان فلانا بحجر . إذا قذفه به . والمراد به هنا : الشتم والقذف بفاحشة الزنا ، أو ما يستلزمه كالطعن فى النسب .
قال الإمام الرازى : وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا : الرمى بالزنا .
وفى الآية أقوال تدل عليه . أحدها : تقدم ذكر الزنا . وثانيها : أنه - تعالى - ذكر المحصنات ، وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد بالرمى رميهن بضد العفاف ، وثالثها : قوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعنى على صحة ما رموهن به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزنا ، ورابعها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمى بغير الزنا . فوجب أن يكون المراد هنا هو الرمى بالزنا . . . " .
و " المحصنات " جمع محصنة ، والإحصان فى اللغة بمعنى المنع ، هذه درع حصينة ، أى : مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال هذا موضع حصين ، أى : مانع من يريده بسوء .
والمراد بالمحصنات هنا : النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة .
وسميت المرأة العفيفة بذلك . لأنها تمنع نفسها من كل سوء .
قالوا : ويطلق الإحصان على المرأة والرجل ، إذا توفرت فيهما صفات العفاف . والإسلام ، والحرية ، والزواج .
وأنما خص - سبحانه - النساء بالذكر هنا : لأن قذفهن أشنع ، والعار الذى يلحقهن بسبب ذلك أشد ، وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء .
وقوله - تعالى - : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . . } مبتدأ ، أخبر عنه بعد ذلك بثلاث جمل ، وهى قوله : " فاجلدوهم . . . ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون " .
والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به ، فاجلدوا - أيها الحكام - هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة ، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء فى حق هؤلاء المحصنات ، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذسفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بىء منها . وأولئك هم الفاسقون . أى : الخارجون على أحكام شريعة الله - تعالى - وعلى آدابها السامية .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات .
أولاها : حسية ، وتتمثل فى جلدهم ثمانين جلدة ، وهى عقوبة قريبة من عقوبة الزنا .
وثانيتها : معنوية ، وتتمثل فى عدم قبول شهادتهم ، بأن تهدر أقوالهم ، ويصيرون فى المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين ، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم ، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم ، لأنهم انسخلت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم .
وثالثتها : دينية ، وتتمثل فى وصف الله - تعالى - لهم بالفسق . أى : بالخروج عن طاعته - سبحانه - وعن آداب دينه وشريعته .
وما عاقب الله - تعالى - هؤلاء القاذفين فى أعراض الناس ، بتلك العقوبات الرادعة ، إلا لحكم من أهمها : حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء ، وصيانتهم من لك ما يخدش كرامتهم ، ويجرح عفافهم .
وأقسى شىء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة ، أن تلصق بهم التهم الباطلة . وعلى رأس الرذائل التى تؤدى إلى فساد المجتمع ، ترك ألسنة السوء تنهش أعراض الشرفاء ، دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها .
وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء فى قوله - تعالى - { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } يعود على الجملة الأخيرة . بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم .
أى : وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه . هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله - تعالى - ، إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا ، وأصحلوا أحوالهم وأعمالهم ، فإن الله - تعالى - كفيل بمغفرة ذنوبهم ، وبشمولهم برحمته .
كما اتفقوا - أيضا - على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهى الجلد ، لأن هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم ، متى ثبت قذفهم للمحصنات ، حتى ولو تابوا وأصلحوا .
والخلاف إنما هو فى العقوبة الوسطى وهى قبول شهادتهم ، فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة ، فيكون المعنى : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، فاقبلوا شهادتهم .
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم ، وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهى الفسق ، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أى : طول مدة حياتهم ، حتى وإن تابوا وأصلحوا .
وقد فصل القول فى هذه المسألة الإمام القرطبى فقال ما ملخصه : " تضمنت الآية ثلاثة أحكام فى القاذف : جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه .
فالاستثناء غير عامل فى جلده وإن تاب - أى أنه يجلد حتى ولو تاب .
وعامل فى فسقه بإجماع . أى : أن صفة الفسق تزول عنه بعد ثبوت توبته .
واختلف الناس فى عمله فى رد الشهادة . فقال أبو حنيفة وغيره : " لا يعمل الاستثناء فى رد شهادته . وإنما يزول فسقه عند الله - تعالى - . وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة . ولو تاب وأكذب نفسه ، ولا بحال من الأحوال .
وقال الجمهور : الاستثناء عامل فى رد الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وإنما كان ردها لعلة الفسق ، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا ، قبل الحد وبعده . وهو قول عامة الفقهاء .
ثم اختلفوا فى صورة توبته ، فمذهب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - والشعبى وغيره : أن توبته لا تكون - مقبولة - إلا إذا كذب نفسه فى ذلك القذف الذى حد فيه .
وقالت فرقة منها مالك وغيره : توبته أن يصلح ويحسن حاله ، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، وحسبه الندم على قذفه ، والاستغفار منه ، وترك العود إلى مثله " .
ويبدو لنا أن ما أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الأولى بالقبول ، لأن اعتراف القاذف بكذبه ، فيه محو لآثار هذا القذف ، وفيه تبرئة صريحة للمقذوف ، وهذه التبرئة تزيده انشراحا وسرورا ، وترد إليه اعتباره بين أفراد المجتمع .
كما يبدو لنا أن الأَوْلى فى هذه الحالة أن تقبل شهادة القاذف ، بعد هذه التوبة التى صاحبها اعتراف منه بكذبه فيما قال : لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله .
وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه ، بهذه التشريعات الحكيمة ، التى يؤدى اتباعها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة .
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد :
( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون ) . .
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع ، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ؛ ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة ، وسمعتها ملوثة ؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه ، وكل رجل فيها شاك في أصله ، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ؛ وأن الفعلة فيها شائعة ؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها ، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها ، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا ، وصيانة للأعراض من التهجم ، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف ، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة ، والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة ، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه ، وعدم التحرج من الإذاعة به ، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها ، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
هذه الآية نزلت في القاذفين ، فقال سعيد بن جبير كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وقيل نزلت بسبب القذفة عاماً لا في تلك النازلة ، وذكر الله تعالى في الآية قذف النساء من حيث هواهم ، ورميهن بالفاحشة أبشع وأنكى للنفوس ، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع ، وحكى الزهراوي أن في المعنى الأنفس { المحصنات } فهي بلفظها الرجال والنساء ويدل على ذلك قوله تعالى : { والمحصنات من النساء }{[8596]} [ النساء : 24 ] ، والجمهور على فتح الصاد من «المحصَنات » ، وكسرها يحيى بن وثاب . و { المحصنات } العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف ، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام ، وفي هذه النازلة الحرية{[8597]} ومنه قول حسان : حصان رزان{[8598]} ، البيت ، ومنه قوله تعالى : { والتي أحصنت فرجها }{[8599]} [ الأنبياء : 91 ] ، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك وعبر عن القذف ب «الرمي » ، من حيث معتاد الرمي أَنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم فلما كان قول القاذف مؤذياً جعل رمياً ، وهذا كما قيل وجرح اللسان كجرح اليد{[8600]} ، والقذف والرمي معنى واحد ، وشدد الله تعالى على القاذف { بأربعة شهداء } رحمة بعباده وستراً لهم ، وقرأ جمهور الناس «بأربعةِ شهداء » على إضافة الأربعة إلى الشهداء ، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة وابن جريج «بأربعةٍ » بالتنوين و «شهداء » على هذا ، إما بدل وإما صفة للأربعة وإما حال وإما تمييز وفي هذين نظر إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع ، وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر ، وقد حسن أبو الفتح هذه القراءة ورجحها على قراءة الجمهور{[8601]} ، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطراب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أَنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع ، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم ، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة ، فجلد عمر الثلاثة المذكورين{[8602]} ، و «الجلد » الضرب والمجالدة المضاربة في الجلود ، أو بالجلود ، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف وغيره ومنه قول قيس بن الخطيم : [ الطويل ]
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً . . . كأن يدي بالسيف مخراق لاعب{[8603]}
ونصب { ثمانينَ } على المصدر و { جلدةً } على التمييز ، ثم أمر تعالى أن لا تقبل للقذفة المحدودين { شهادة أبداً } وهذا يقتضي مدة أَعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم { فاسقون } أي خارجون عن طاعة الله عز وجل ، ثم استثنى عز وجل من تاب وأصلح بعد القذف فإِنه وعدهم بالرحمة والمغفرة ، فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده ، ورد شهادته أبداً ، وفسقه ، فالاستثناء ، غير عامل في جلده بإجماع{[8604]} وعامل في فسقه بإجماع{[8605]} ، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة ، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن الثوري وأبو حنيفة لا يعمل الاستثناء في رد شهادته{[8606]} وإنما يزول فسقه عند الله تعالى ، وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال ، وقال جمهور الناس الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ثم اختلفوا في صورة فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأَن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه ، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما ، وأَبى أبو بكرة من إكذاب نفسه فرد عمر شهادته حتى مات ، وقال مالك رحمه الله وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، واختلف فقهاء المالكيين متى تسقط شهادة القاذف ، فقال ابن الماجشون بنفس قذفه ، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي شهادته في مدة الأَجل في الإثبات موقوفة ، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف ، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يرمون المحصنات} يعني: نساء المؤمنين بالزنا، {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} من الرجال على قولهم، {فاجلدوهم ثمانين جلدة} يجلد بين الضربين على ثيابه {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ما دام حيا {وأولئك هم الفاسقون}، يعني: العاصين في مقالتهم.
يحيى: عن مالك، أنه بلغه عن سليمان بن يسار وغيره، أنهم سئلوا: عن رجل جلد الحد أتجوز شهادته؟ فقالوا: نعم. إذا ظهرت منه التوبة...
قال مالك: فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح. تجوز شهادته. وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك...
ابن أبي زيد قال مالك: والإحصان: إحصان عفاف في الإسلام بالحرية، وإحصان نكاح وقول الله تعالى: {يرمون المحصنات ثم لم يأتوا} فهذا إحصان في الحرائر المسلمات، فمن قذفهن من مسلم أو ذمي ذكر أو أنثى جلد ثمانين جلدة، وعلى العبد أربعين، ذكرا أو أنثى مسلما أو ذميا، ولا يحصن إلا وطء صحيح..
فكانت الآية عامة على رامي المحصنة. فكان سواء قال الرامي لها: رأيتها تزني، أو رماها ولم يقل رأيتها تزني، فإنه يلزمه اسم الرامي...
المحصنات ههنا: البوالغ الحرائر...
قال الله تبارك وتعالى: {وَالذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فكان بينا أن المأمور بجلد ثمانين هو: من قَصَدَ قَصْدَ محصنة بقذف، لا من وقع قذفه على محصنة بحال..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين يَشْتُمون العفائف من حرائر المسلمين، فيرمونهنّ بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عُدول يشهدون عليهنّ أنهنّ رأوهنّ يفعلن ذلك، فاجلدوا الذين رمَوْهنّ بذلك ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها...
قال ابن زيد، في قوله:"وأُولَئكَ هُمُ الفاسقونَ" قال: الكاذبون.
الإحصان على ضربين، أحدهما: ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً قد تزوج امرأة نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما كذلك، والآخر: الإحصان الذي يوجب الحدَّ على قاذفه، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً عفيفاً. ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى...
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}... حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يَأْتِ بأربعة شهداء على ما قذفه به بثلاثة أحكام، أحدها: جَلْد ثمانين، والثاني: بطلان الشهادة، والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب...
قد خصّ الله تعالى المحصنات بالذكر، ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحدَّ وجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة. واتفق الفقهاء على أن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} قد أُريد به الرمي بالزنا... {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يعني:... أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا،... قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ومعلوم أن مراده جَلْدُ كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة، فكان تقدير الآية: ومن رمى محصناً فعليه ثمانون جلدة، وهذا يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يُجلد أكثر من ثمانين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لئلا يستبيحوا أعراضَ المسلمين، ولئلا يهتكوا أستارَ الناس أمَرَ بتأديبِهم، وإقامةِ الحدِّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
القذف يكون بالزنى وبغيره... والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زاني، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنا... والقذف بغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودي، يا مجوسي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {المحصنات} العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام، وفي هذه النازلة الحرية... ومنه قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها} [الأنبياء: 91]، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك، وعبر عن القذف ب «الرمي»، من حيث معتاد الرمي أَنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم، فلما كان قول القاذف مؤذياً جعل رمياً... والقذف والرمي معنى واحد، وشدد الله تعالى على القاذف {بأربعة شهداء} رحمة بعباده وستراً لهم، وقرأ جمهور الناس «بأربعةِ شهداء» على إضافة الأربعة إلى الشهداء... وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أَنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة، فجلد عمر الثلاثة المذكورين.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ من قَبْلُ.
اعلم أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات وذكر الرمي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر، بل لابد من قرينة دالة على التعيين، وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا وفي الآية أقوال تدل عليه أحدها: تقدم ذكر الزنا.
وثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف.
وثالثها: قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} يعني على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا.
ورابعها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا.
إذا عرفت هذا فالكلام في هذه الآية يتعلق بالرمي والرامي والمرمي.
البحث الأول: في الرمي... ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك،أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة، وبدأ -لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها- بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنا عليهن بمجرد نكاح من علم زناه، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنا بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً، وأعظم فضيحة وضراً، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع: {والذين يرمون} أي بالزنا {المحصنات} جمع محصنة، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة، والمراد القذف بالزنا بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولأن الكلام في حقهن أشنع.
ولما كان إقدام المجترئ على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر -بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لم يأتوا} أي إلى الحاكم {بأربعة شهداء} ذكور {فاجلدوهم} أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم {ثمانين جلدة} لكل واحد منهم، لكل محصنة، إن لم يكن القاذف أصلاً، إن كانوا أحراراً، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] فهذه الآية مخصوصة بتلك، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حد الزنا وحد القذف. {ولا تقبلوا لهم} أي بعد قذفهم على هذا الوجه {شهادة} أي شهادة كانت {أبداً} للحكم بافترائهم، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه.
ولما كان التقدير: فإنهم قد افتروا، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت: {وأولئك} أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً {هم الفاسقون} أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات -وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا- بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار.. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق. ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها! ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء. لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة. والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} لم يقل بالزنى، بل لم يذكر المرمي به تحصنا وإبعادا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحرصا على حفظ عرض المؤمنات المحصنات، حتى لا يلطخ بسوء، هدد كتاب الله من يتجرأ على قذفهن بالزنى ولم يشهد معه أربعة شهود، بعقوبة الجلد ثمانين جلدة، وبرفض شهادته باستمرار، وباعتباره من الفساق غير العدول، تغليظا لشأن القذف، وردعا عنه بكل حزم وشدة.
والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا،
{ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} وهذا يسمى حد القذف، أن ترمي حرة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أن تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميتها به، فإن لم تفعل يقام عليك أنت حد القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجلد، إنما لا تقبل منك شهادة بعد ذلك أبدا. {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} لماذا؟ لأنه لم يعد أهلا لها، لأنه فاسق {وأولئك هم الفاسقون} والفاسق لا شهادة له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حد الجلد، ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة. هذا كله ليزجر كل من تسول له نفسه الخوض في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات، لذلك عبر عن القذف بالرمي، لأنه غالبا ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق- تبارك وتعالى- يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لأن من يحترم القضاء العادل شهادته هو الإنسان الذي يقف عند حدود الله في ما يأمر به أو ينهى عنه، بحيث يكون أميناً على إقامة الشهادة. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} المنحرفون عن خط الطاعة، السائرون في خط المعصية، بعيداً عن المسؤولية الشرعية في قضايا الناس العامة والخاصة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
عقوبة البهتان: قَد يستغِلّ المعترضون ما نَصَّتْ عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقةُ هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات، ويُسخّرونَ هذا الحكم لأغراضهم الدنيئة..