في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد :

( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون ) . .

إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع ، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ؛ ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة ، وسمعتها ملوثة ؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه ، وكل رجل فيها شاك في أصله ، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .

ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ؛ وأن الفعلة فيها شائعة ؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها ، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها ، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !

ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .

لهذا ، وصيانة للأعراض من التهجم ، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف ، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة ، والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة ، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .

والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه ، وعدم التحرج من الإذاعة به ، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها ، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .