الأولى-هذه الآية نزلت في القاذفين . قال سعيد بن جبير : كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها . وقيل : بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة . وقال ابن المنذر : لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف ، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد ، وأهل العلم على ذلك مجمعون .
الثانية-قوله تعالى : " والذين يرمون " يريد يسبون ، واستعير له اسم الرمي ؛ لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة :
رماني بأمر كنتُ منهُ ووالدي *** بريئًا ومن أجلِ الطويِّ رمانِي{[11767]}
ويسمى قذفا ومنه الحديث : إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء ، أي : رماها .
الثالثة-ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن{[11768]} أهم ، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس . وقذفُ الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك . وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه ، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع . وحكى الزهراوي أن المعنى : والأنفس المحصنات ، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء ، ويدل على ذلك قوله : " والمحصنات من النساء " {[11769]} . [ النساء : 24 ] . وقال قوم : أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى : " والتي أحصنت فرجها " {[11770]} [ الأنبياء : 91 ] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء . وقيل : إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته ، والله أعلم . وقرأ الجمهور " المحصنات " بفتح الصاد ، وكسرها يحيى بن وثاب . والمحصنات العفائف في هذا الموضع . وقد مضى في " النساء " ذكر الإحصان ومراتبه . والحمد لله .
الرابعة-للقذف شروط عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف ، وهما العقل والبلوغ ؛ لأنهما أصلا التكليف ، إذ التكليف ساقط دونهما . وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد ، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي . وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا . وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف ، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى .
الخامسة-اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك : هو قذف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف . والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب : " إنك لأنت الحليم الرشيد " [ هود : 87 ] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات ، حسبما تقدم في " هود " {[11771]} . وقال تعالى في أبي جهل : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " {[11772]} [ الدخان : 49 ] . وقال حكاية عن مريم : " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " {[11773]}[ مريم : 28 ] ؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء ، أي : الزنى ، وعرضوا لمريم بذلك ، ولذلك قال تعالى : " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " {[11774]} [ النساء : 156 ] ، وكفرهم معروف ، والبهتان العظيم هو التعريض لها ، أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد . وقال تعالى : " قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " {[11775]} [ سبأ :24 ] ؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه . وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال :
دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها *** واقعُدْ فإنك أنت الطَّاعِمُ الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون . ولما سمع قول النجاشي :
قبيلته لا يغدِرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حَبَّةَ خردل
قال : ليت الخطاب كذلك ، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة ، ومثله كثير .
السادسة-الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم . وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم . وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد . قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك . وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة ، لا أعلم في ذلك خلافا{[11776]} .
السابعة-والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين ؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى . وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين . وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حرا ثمانين ، وبه قال الأوزاعي . احتج الجمهور بقول الله تعالى : " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " {[11777]}[ النساء : 25 ] . وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه ، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه . وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية . وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى . قال ابن المنذر : والذي عليه[ عوام ]{[11778]} علماء الأمصار القول الأول ، وبه أقول .
الثامنة-وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام : ( من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ) خرجه البخاري ومسلم . وفي بعض طرقه : ( من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه بوم القيامة الحد ثمانون ) ذكره الدارقطني . قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم . وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم ، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة ، وتبطل فائدة التسخير ؛ حكمة من الحكيم العليم ، لا إله إلا هو .
التاسعة-قال مالك والشافعي : من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ، وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر . قال مالك : ومن قذف أم الولد حد ، وروي عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي . وقال الحسن البصري : لا حد عليه .
العاشرة-واختلف العلماء فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ، فقال ابن القاسم : عليه الحد لأنه تعريض . وقال أشهب : لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا .
الحادية عشرة-إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ، ويعزر . قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة ، لكن مالك طلب{[11779]} حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى ؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد . قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع : يجلد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه . قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك . قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ؛ لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى . قال أبو عبيد : في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال : إن كنت صادقة رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك . فقالت : ردوني إلى أهلي غَيْرَى نَغِرَة . قال أبو عبيد : في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد . وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد ، ألا تسمع قوله : وإن كنت كاذبة جلدناك . ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول ، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله . وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده ؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه ، ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها . وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول : وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس .
قلت : اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين ، وسيأتي . قال أبو عبيد : قال الأصمعي سألني شعبة عن قول : غَيْرَى نَغِرَة{[11780]} ، فقلت له : هو مأخوذ من نغر القدر ، وهو غليانها وفورها يقال منه : نَغِرَت تَنْغَر ، ونَغَرت تَنْغِر إذا غلت . فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد . قال : ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان ؛ أي : يغلي جوفه عليه غيظا .
من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين ، قاله مسروق . قاله ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد ؛ لعموم قوله تعالى : " والذين يرمون المحصنات " الآية ، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن ؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود ، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم . وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها ، هل يقتل أم لا ؟
الثالثة عشرة-قوله تعالى : " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى ؛ رحمة بعباده وسترا لهم . وقد تقدم في سورة " النساء " {[11781]}
الرابعة عشرة-من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة . وقال عبد الملك : تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين . فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد ، وبه قال ابن الحسن . ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل ، وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى : " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " وقوله : " فإذ لم يأتوا بالشهداء " [ النور : 13 ] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين . الخامسة عشرة-فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا ، فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود ، وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن . وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا{[11782]} عليه أو عبدا يجلدون جميعا . وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون .
السادسة عشرة- فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى ، فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين . وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ، فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية ، وعليه الحد . وقال الحسن البصري : يقتل ، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية . وقال ابن سيرين : إذا قال : أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة ، وإن قال : تعمدت قتل[ به ]{[11783]} ، وبه قال ابن شبرمة .
السابعة عشرة-واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؟ الأول : قول أبي حنيفة . والثاني : قول مالك والشافعي . والثالث : قاله بعض المتأخرين . وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى . وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف .
الثامنة عشرة-قوله تعالى " بأربعة شهداء " قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء . وقرأ عبد الله{[11784]} بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير " بأربعة " التنوين " شهداء " . وفيه أربعة أوجه : يكون في موضع جر على النعت لأربعة ، أو بدلا . ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا ؛ وفي الحال والتمييز نظر ؛ إذ الحال من نكرة ، والتمييز مجموع . وسيبويه يرى أنه تنوين العدد ، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر . وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب{[11785]} على قراءة الجمهور . قال النحاس : ويجوز أن يكون " شهداء " في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء .
التاسعة عشرة-حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في " النساء " {[11786]}في نص الحديث . وأن تكون في موطن واحد ، على قول مالك . وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة ، كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة ، وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع ، وقال الزهراوي : عبد الله بن الحارث ، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية ، وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها ، جلد عمر الثلاثة المذكورين .
الموفية عشرين-قوله تعالى : " فاجلدوهم " الجلد الضرب . والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره . ومنه قول قيس بن الخطيم :
أجالدُهم يوم الحديقة حاسرا *** كأن يدي بالسيف مِحْرَاقُ لاعب
" ثمانين " نصب على المصدر . " جلدة " تمييز . " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " هذا يقتضي مدة أعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون ، أي خارجون عن طاعة الله عز وجل .