فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفا ، أي يشتمون { الْمُحْصَنَاتِ } أي النساء العفيفات بالزنا ، وكذا المحصنين ، وإنما خصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع ، والعار فيهن أعظم ، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة ، وقد جمع الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك . وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء ، والتقدير الأنفس المحصنات ، ويؤيد هذا قوله في آية أخرى : { والمحصنات من النساء } ، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى ؛ وقيل أراد بالمحصنات الفروج ، كما قال : { والتي أحصنت فرجها } ، فتتناول الآية الرجال والنساء ؛ وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه ههنا يشمل النساء والرجال تغليبا ، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب ، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني ؛ وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه ، منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت .

قرئ المحصنات بفتح الصاد وكسرها ، وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافرا أو كافرة . وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : يجب عليه الحد . وذهب الجمهور أيضا إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة .

وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة : يجلد ثمانين قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما .

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : ( أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن تكون كما قال ) {[1276]} وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا ، والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف ، وبسط الكلام في هذا في كتب الفروع . ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال :

{ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن برؤيتهم . ولفظ { ثم } يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف . وبه قال الجمهور . وخالف في ذلك مالك . وظاهر الآية أنه يجوز أن تكون الشهود مجتمعين ومفترقين ، وخالف في ذلك الحسن ومالك ، وإذا لم يكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون حد القذف .

وقال الحسن والشعبي : إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه . وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا ، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة . وقد اختلف في إعراب { شهداء } على أقوال ، ثم بين الله سبحانه ما يجب على القاذف فقال :

{ فَاجْلِدُوهُمْ } أي كل واحد منهم { ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الجلد الضرب كما تقدم والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما ، وقد تقدم بيان الجلد قريبا .

{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً } أي فاجمعوا لهم بين الأمرين ، الجلد وترك قبول الشهادة في شيء لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية . ومعنى { أَبَدًا } ما داموا في الحياة ، ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال :

{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } لإتيانهم كبيرة ، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة لحد المعصية ، وفيه دليل على أن القذف من الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة .


[1276]:مسلم 1660 ـ البخاري 2520.