السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

ولما نفر سبحانه وتعالى عن نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة نهى عن الرمي به فقال تعالى :

{ والذين يرمون } أي : بالزنا { المحصنات } جمع محصنة وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة وهذا هو الحكم الثالث والذي يدل على أن المراد الرمي بالزنا أمور : أحدها : تقدم ذكر الزنا ، ثانيها : أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميها بضد ذلك ، ثالثها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا ، رابعها : قوله تعالى : { ثم لم يأتوا } أي : إلى الحكام { بأربعة شهداء } أي : ذكور ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير شرط إلا في الزنا وشرط القاذف الذي يحد بسبب القذف التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف ، وأن يكون غير أصل ، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت ، أو يا زاني أو يا زانية ، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل ، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز ، فإن نوى بذلك القذف كان قذفاً وإلا فلا ، ومن التعريض يا ابن الحلال ، وأما أنا فلست بزانٍ ، فهذا ليس بقذف وإن نواه .

فإن قيل : إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط ؟ أجيب : بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها ، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى : { فاجلدوهم } أي : أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم { ثمانين جلدة } لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضاً أو مكاتباً أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف ، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى : { ولا تقبلوا لهم } أي : بعد قذفهم { شهادة } أي : شهادة كانت { أبداً } للحكم بافترائهم ؛ لأن العبد لا تقبل شهادته ، وإن لم يقذف . ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيراً من الإقدام عليه من غير تثبت { وأولئك } أي : الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّاً { هم الفاسقون } أي : المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف ، وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر ؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة .