البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

والقذف الرمي بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان .

قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك .

وقيل : بسبب القذفة عاماً ، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول .

كما قال :

وجرح اللسان كجرح اليد***

وقال :

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطويّ رماني

و { المحصنات } الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن .

وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما قال : { والتي أحصنت فرجها } وقيل : الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم : وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملاً للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله { والمحصنات من النساء } وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية .

قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي ، ويحد في مذهب مالك ، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف كتابياً إذا كان للمقذوف ولد مسلم .

وقيل : إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ واتفقوا على أن قاذف الصبي لا يُحَد وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف الصبية .

فقال مالك : يحد إذا كان مثلها يجامع .

وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع .

وقال مالك والليث : يحد قاذف المجنون .

وقال غيرهما : لا يحد .

{ والذين يرمون } ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي .

وقال أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيراً ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها ، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وستراً لهم والمعنى { ثم لم يأتوا } الحكام والجمهور على إضافة { أربعة } إلى { شهداء } .

وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم { بأربعة } بالتنوين وهي قراءة فصيحة ، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقوله { واستشهدوا شهيدين } وكذلك : عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع ، وكذلك ثلاثة أعبد .

وقال ابن عطية : وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى .

وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو : ثلاثة رجال ، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز ، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم .

وقال أبو حنيفة : شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه .

والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن والشعبي .

وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس .

{ فاجلدوهم } أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلاّ بمطالبته .

وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم { والذين يرمون } وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي .

وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي : يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة ، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث .

وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد .

وقال الشعبي وابن أبي ليلى : إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد ، أو قال : لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف .

وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة ، ولو أتى بأربعة شهداء فساق .

فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف والشهود .

وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود .

وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : يحد الشهود والقاذف .

{ ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب .

وقال مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري ، وقال : لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات .

{ وأولئك هم الفاسقون } الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون ، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً .