المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الرعد ) سورة مكية وسميت ( الرعد ) لما اشتملت عليه من تقديس الرعد لله تعالي . وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية ، وقد ابتدأت ببيان منزلة القرآن الكريم ، وأنه بوحي من الله ، ثم بينت سلطان الله تعالي في الكون ونبهت إلي ما فيه من إبداع ومنافع ، ثم انتقلت من بيان قدرة الله تعالي في الإنشاء إلي قدرته علي الإعادة والبعث ، وعلي الله تعالي بكل شيء ، وإلي بيان قدرته علي العقاب في الدنيا ، وعليه يقاس العقاب في الآخرة . ثم وجهت الأنظار إلي ما في الكون من عجائب تبهر ، وبعد ذلك بين الله تعالي أحوال الناس في تلقيهم للهدى القرآني ، ثم ذكر أوصاف المؤمنين في علاقتهم بالإنسانية ، وأخلاق الكافرين وتعنتهم في طلب معجزات غير القرآن مع عظم منزلته ، وعظم استهزائهم برسولهم ، وبين للرسول أنه قد استهزئ برسل من قبله ، وأن الله تعالي قائم علي الأشياء والنفوس ، وأنه مجاز كلا بما يستحق ، وأن القرآن هو المعجزة الكبرى الباقية إلي يوم القيامة ، وأن الله تعالي هو الذي يؤيد رسله بما يراه من معجزات وإذا كان المشركون ينكرون رسالة النبي فالله يشهد بصدقها وحسبه ذلك وكفي .

1- ألف . لام . ميم . راء . هذه حروف صوتية تبدأ بها بعض سور القرآن ، وهي تشير إلي أنه معجز مع أنه مكون من الحروف التي تتكون منها كلمات العرب ، وهذه الحروف الصوتية كانت تجذب العرب ، لسماع القرآن . ذلك أن المشركين تواصوا فيما بينهم ألا يسمعوا هذا القرآن ، فكان المؤمنون إذا ابتدأوا بهذه الحروف الصوتية استرعى ذلك أسماع المشركين فيسمعون .

إن تلك الآيات العظيمة هي هذا القرآن ، الكتاب العظيم الشأن الذي نزل عليك - أيها النبي - بالحق والصدق من الله الذي خلقك واصطفاك ، ولكن أكثر المشركين الذين كفروا بما جاء به من الحق ليس من شأنهم أن يذعنوا للحق ، بل هم يعاندون فيه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سور الرعد

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .

وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة " الرعد " توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات تامة ، وأحكام حكيمة ، وتراكيب بليغة . . .

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده وشفيعاً لنا يوم نلقاه ، إنه –سبحانه- أكرم مسئول ، وأعظم مأمول .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المؤلف

الدكتور محمد سيد طنطاوي

تمهيد بين يدي سورة الرعد

نريد بهذا التمهيد –كما سبق أن ذكرنا في تفسير السورة السابقة- إعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عن سورة الرعد ، قبل أن نبدأ في تفسيرها آية فآية فنقول –وبالله التوفيق :

1- سورة الرعد هي السورة الثالثة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها اثنتا عشرة سورة ، هي سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف .

2- وسميت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، ولم يعرف لها اسم سوى هذا الاسم ، ولعل سبب تسميتها بذلك ، ورود ذكر الرعد فيها ، في قوله –تعالى- [ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . . . ]( {[1]} ) .

3- وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وأربعون آية في المدني ، وخمس وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الشامي( {[2]} ) .

4- والذي يقرأ أقوال المفسرين في بيان زمان نزولها ، يراها أقوالاً ينقصها الضبط والتحقيق .

فهناك روايات صرحت بأنها مكية ، وأخرى صرحت بأنها مدنية ، وثالثة بأنها مكية إلا آيات منها فمدنية ، ورابعة بأنها مدنية إلا آيات منها فمكية . . .

قال الآلوسي : " جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلى بن أبي طلحة أنها مكية " .

وروى ذلك عن سعيد بن جبير –أيضاً- .

قال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال : سألت ابن جبير عن قوله –تعالى- [ ومن عنده علم الكتاب ] هل هو عبد الله بن سلام ؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية .

وأخرج مجاهد عن ابن الزبير ، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس ، ومن طريق ابن جريج وعثمان بن عطاء عنه أنها مدنية .

وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا قوله –تعالى- [ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة . . الآية ] فإنها مكية .

وروى أن من أولها إلى آخر قوله –تعالى- [ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال . . . ] .

نزل بالمدينة ، أما باقيها فنزل في مكة . . ( {[3]} ) .

هذه بعض الروايات في زمان نزولها ، وهي –كما ترى- التعارض فيها واضح .

والذي تطمئن إليه النفس ، أن السورة الكريمة يبدو بوضوح فيها طابع القرآن المكي ، سواء أكان ذلك في موضوعاتها ، أم في أسلوبها ، أم في غير ذلك من مقاصدها وتوجيهاتها .

وأن نزولها –على الراجح- كان في الفترة التي أعقبت موت أبي طالب ، والسيدة خديجة –رضي الله عنها- .

وهي الفترة التي لقي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من أذى المشركين وعنتهم ، وطغيانهم . .

والذي جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، ما اشتملت عليه السورة الكريمة ، من أدلة متنوعة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، ومن تسلية له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه –كما سنرى ذلك عند تفسيرنا لآياتها ، كذلك مما جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، قول السيوطي في كتابه الإتقان : " ونزلت بمكة سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد . . . " ( {[4]} ) .

وقد رجحنا عند تفسيرنا لسورة يونس ، وهو ، ويوسف –عليهم السلام- أن هذه السور قد نزلت في تلك الفترة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجح هذا أن نزول سورة الرعد كان في تلك الفترة –أيضاً- لمناسبة موضوعاتها لأحداث هذه الفترة .

5- عرض إجمالي لسورة الرعد :

( أ‌ ) لقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبالإشارة إلى إعجازه ، ثم ساقت ألواناً من الأدلة على قدة الله –تعالى- ووحدانيته وعظيم حكمته . . .

[ الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ، ثم استوى على العرش ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، يدبر الأمر ، يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون . . ] .

( ب‌ ) ثم حكت السورة بعد ذلك جانباً من أقوال المشركين في شأن البعث ، وردت عليهم بما يكبتهم فقال –تعالى- [ وإن تعجب فعجب قولهم ، أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم ، وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . . ] .

( ج ) ثم بينت السورة الكريمة ما يدل على كمال علمه –تعالى- وعلى عظم سلطانه ، وعلى حكمته في قضائه وقدره فقال –تعالى- : [ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار* عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال . . . ] .

( د ) ثم أمر –سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين سؤال تهكم وتوبيخ عمن خلق السموات والأرض فقال –تعالى- : [ قل من رب السموات والأرض قل الله . قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا ، قل هل يستوي الأعمى والبصير ، أم هل تستوي الظلمات والنور ، أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، فتشابه الخلق عليهم ، قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ] .

( ه ) ضربت السورة الكريمة مثلين للحق والباطل . وعقدت مقارنة بين مصير أتباع الحق ، ومصير أتباع الباطل فقال –تعالى- : [ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ، إنما يتذكر أولوا الألباب* الذي يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . . ] .

( و ) ثم حكت السورة الكريمة بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم فقال –تعالى- : [ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ، قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب* الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب* الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب . . ] .

( ز ) ثم حكت السورة الكريمة لوناً آخر من غلوهم في كفرهم ، ومن مقترحاتهم الفاسدة ، حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم بالقرآن جبال مكة ليتفسحوا في أرضها ، ويفجر لهم فيها الأنهار والعيون ليزرعوها ، ويحيي لهم الموتى ليخبروهم بصدقه . . . فقال –تعالى- : [ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ، أو قطت به الأرض ، أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً ، أفلم ييأس الذين آمنوا لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً . . . ] .

( ح ) ثم ختمت السورة الكريمة ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه وبالشهادة له بالرسالة ، وبتهديد المشركين بالعذاب الأليم ، فقال –تعالى- [ مثل الجنة التي وعد المتقون أكلها دائم وظلها ، تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ] . . .

[ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ، ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق* ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب* ] [ ويقول الذين كفروا لست مرسلاً ، قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، ومن عنده علم الكتاب ] .

6- ومن هذا العرض الإجمالي للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت بالحديث عن موضوعات من أبرزها ما يأتي :

( أ‌ ) إقامة الأدلة المتنوعة على كمال قدرة الله –تعالى- وعظيم حكمته . تارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما فيه من سموات مرتفعة بغير عمد ، وأرض صالحة للاستقرار عليها ، وشمس وقمر وكواكب مسخرة لمنافع الناس ، وجبال لتثبيت الأرض ، وأنهار لسقي الزرع . . .

[ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل ، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ] .

وتارة عن طريق علمه المحيط بكل شيء ، فهو العليم بما تنقصه الأرحام وما تزداده في الخلقة وفي المدة وفي غير ذلك ، وهو العليم بأحوال عباده سواء أكانوا ظاهرين بالنهار أم مستخفين بالليل .

[ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار . . . ] .

وتارة عن طريق الظواهر الكونية التي يرسلها –سبحانه- لعباده خوفاً وطمعاً ، [ هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشئ السحاب الثقال* ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . . . ] .

وتارة عن طريق العطاء والمنع لمن يشاء من عباده : [ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . . . ] .

وتارة عن طريق المصائب والقوارع التي ينزلها –سبحانه- بالكافرين [ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ] .

( ب‌ ) إثبات أن هذا القرآن من عند الله –تعالى- وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، والرد على المشركين فيما طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم من مطالب متعنتة ، ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله –تعالى- :

[ تلك آيات الكتاب ، والذي أنزل إليك من ربك الحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ] .

[ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ] .

[ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ] .

[ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ، وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ] .

[ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك من الأحزاب من ينكر بعضه ، قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مآب ] .

( ج ) تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما لحقه من أذى ، وذلك لأن السورة الكريمة –كما سبق أن أشرنا- مكية ، وأنها –على الراجح- قد نزلت في فترة اشتد فيها إعراض المشركين عن دعوة الحق وتكذيبهم لها ، وتطاولهم على صاحبها صلى الله عليه وسلم ومطالبتهم له بالخوارق التي لا يؤيدها عقل سليم .

فنزلت السورة الكريمة لتثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، ولتمزق أباطيل المشركين عن طريق حشود من الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .

ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله –تعالى- : [ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد . أولئك الذي كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ] .

وقوله –تعالى- [ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ] .

وقوله –تعالى- [ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً ، يعلم ما تكسب كل نفس ، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ، ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ] هذه بعض الموضوعات التي نرى السورة الكريمة قد اهتمت بتفصيل الحديث عنها .

وهناك موضوعات أخرى يراها كل من تأمل آياتها بفكر سليم ، وعقل قويم ، وروح صافية . . .

نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا فهم كتابه ، والعمل بما فيه من آداب وأحكام ، وهدايات . . .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

لقد افتتحت سورة الرعد ببعض الحروف المقطعة ، وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف .

وقلنا ما ملخصه : إن أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإِيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن .

فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفاً من كلام هو من جنس ما تؤلفون من كلامكم ، ومنظوماً من حروف هي من جنس الحروف الجهائية التي تنظمون منها كلماتكم .

فإن كنتم في شك من كونه منزلاً من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم في ذلك ، فإن لم تستطيعوا أن تأتوا بمثله فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا سورة واحدة من مثله . .

ومع كل هذا التساهل معهم في التحدى ، فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .

{ تلك } اسم إِشارة ، والمشار إليه الآيات ، والمراد بها آيات القرآن الكريم ، ويدخل فيها آيات السورة التي معنا .

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم الذي أنزله - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لإِخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإِسلام .

وقوله { والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق } تنويه بشأن القرآن الكريم ، ورد على المشركين الذين زعموا أنه أساطير الأولين .

أى : تلك الآيات التي نقرؤها عليك - يا محمد - في هذه السورة هي آيات الكتاب الكريم ، وما أنزله الله - تعالى - عليك في هذا الكتاب ، هو الحق الخالص الذي لا يلتبس به باطل ، ولا يحوم حول صحته شك أو التباس .

وفى قوله - سبحانه - { مِن رَّبِّكَ } مزيد من التلطف في الخطاب معه - صلى الله عليه وسلم - فكأنه - سبحانه - يقول له : إن ما نزل عليك من قرآن هو من عند ربك الذي تعهدك بالرعاية والتربية حتى بلغت درجة الكمال .

واسم الموصول { الذى } مبتدأ ، والجملة بعد صلة ، والحق هو الخبر . . .

وقوله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } استدراك لبيان موقف أكثر الناس من هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

أى : لقد أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن بالحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون به لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد على نفوسهم . . .

وفى هذا الاستدراك ، مدح لتلك القلة المؤمنة من الناس ، وهم أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق منذ أن وصل إليهم ، فآمنوا به ، واعتصموا بحبله ، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم وعلى رأس هذه القلة التي آمنت بالحق منذ أن بلغها : أبو بكر الصديق وغيره من السابقين إلى الإِسلام .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر,المتحرج أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني!

وهذه السورة كلها- شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها- من بين هذه النصوص التي لاأكاد أجرؤ على مسها بتفسير أو إيضاح.

ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآنمع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته. بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرأن. وعن الاهتمتمت والأهداف التي لها, وبعد ما اندلعت وذبلت في حسهم وتصورهم مدلولاتها وأبعادها الحقيقية, وبعدما انحرفت في حسهم مصطلحاتها عن معانيها..وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها, بينما هم لا يتحركون بهذا القرىن في مواجهة الجاهليةكما كان الذين تنزل عليهم أول مرة يتحركون.. وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرأن شيئا. ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.

ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن!

إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي.ومن ثم أحس دائما بالفجوة الخائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذ >!

وإنني لأدرك الآن-بعمق-حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تيقى مباشرة هذا القرآن.

لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة؛ ويتلقون إيقاعه في حسهم , وصوره وظلاله, وإيحاءاته وإيماءاته, وينفعلون بها انفعالا مباشرا, ويستجيبون لها استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن تم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها, بالانقلاب المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم, ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في الحياة من حولهم, وفي أقدار العالم كله يومذاك, وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فمالأذن. ينضحون بحرارته وإشعاعه وإيحائه. ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.

أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان و فلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء!

ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم, فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمه وتصوراتهم ومؤثراتهم.فنخطئ ولا شك في تقدير بواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن..

وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال, ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إن ما يقر}ونها ليدينوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته, ويطرح عنهم هذه الظلال.وهم لن بتناولوه في حقيقته إلا إذ وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض معركة مع الجاهليةباسمه وتحت رايته.

و بعد فهذا الاستطراد اندفعت وأمامي هذه السورة-سورة الرعد-كأنما أقرها لأول مرة, وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه؛ ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك؛ ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة, ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبله!

وهذه السورة من أعاجيب السور القرأنية التي تأخذ في نفس الواحد وإيقاع واحد, وجو واحد وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها ؛ والتي تفعم النفس, وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج, والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا, فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات؛ والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا, وهو مستيقظ, مبصر, مدرك, شاعر بما يكموج حوله من المشاهد والموحيات.

إنها ليست ألفاظا وعبارات, إنما هي مطارق و إيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها. لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!

إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية كلها على وجه التقريب- هو العقيدة وقضاياها.. هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا؛ ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث... وما إليها.

ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة, لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في تلك السور المكية وفي غيرها من السور المدنية فهو في مرة يعرض بطريقة جديدة؛ وفي ضوء جديد؛ ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد!

إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال بكلمات ةينتهي كأية قضية ذهنية بارد إنما تعرض وحولها إطار, هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد؛ لا تبلى جدتها لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك, وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف ! ومن تم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي تنفد ولا تبلى جدتها! وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق؛ وتعرض عليه الكون كله في مجالاته الأخاذة: في السموات اللمرفوعة بغير عمد وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواسي نابتة وأنهار جارية وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان, ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع, والرعد يسبح ويحمد, والملائكة تخاف وتخشع, والصواعق يصيب بها من يشاء, والسحاب الثقال, والمطر في الوديان, والزبد الذي يذهب جفاء ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.

وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه: تلاحقها بعلم لله النافذ الكاشف الشامل , يلم بشارد والوارد ,والمستخفي والسارب, ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطروالخوالج.

والغيب المكنون

تبدأ السورة بقضية عامة من قضايا العقيدة:قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه. وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله، ومن إيمان بالبعث، ومن عمل صالح في الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله، وأن هذا القرآن وحي من عنده سبحانه إلى رسوله [ص].

(المر. تلك آيات الكتاب. والذي أنزل إليك من ربك الحق. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)..

ألف. لام. ميم. را.. (تلك آيات الكتاب).. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي الله، لا من عمل مخلوق كائنا من كان.

(والذي أنزل إليك من ربك الحق)..

الحق وحده. الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقا لا ريب فيه.

(ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).

لا يؤمنون بأنه موحى به، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة.

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

[ وهي مكية ]{[1]}

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم{[15407]} في أول سورة البقرة ، وقَدَّمنا أن كل سورة تبتدئ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن ، وتبيان أن نزوله{[15408]} من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ؛ ولهذا قال : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، وقيل : التوارة والإنجيل . قاله مجاهد وقتادة ، وفيه نظر{[15409]} بل هو بعيد .

ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله : { وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : يا محمد ، { مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } خبر تقدم مبتدؤه ، وهو قوله : { وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة . واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة{[15410]} على صفة كما قدمنا ، واستشهد بقول الشاعر :

إلى المَلك القَرْمِ وابن الهُمَام *** وَلَيث الكتيبة في المُزْدَحَمْ{[15411]} وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] أي : مع هذا البيان والجلاء والوضوح ، لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق .


[1]:زيادة من أ.
[15407]:- في أ : "تقدم الكلام عليها".
[15408]:- في ت ، أ : "أنه نزل".
[15409]:- في ت ، أ : "وفيه تطويل".
[15410]:- في ت ، أ : "لصفة".
[15411]:- البيت في تفسير الطبري (16/321).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

هكذا سميت من عهد السلف . وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها .

وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق } . فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة ، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها . وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { وهو شديد المحال } مما نزل بالمدينة ، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة .

وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة . وعن أبي بشر قال : سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى { ومن عنده علم الكتاب } أي في آخر سورة الرعد أهو عبد الله بن سلام? فقال : كيف وهذه سورة مكية ، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا : أنها مدنية ، وهو عن عكرمة والحسن البصري ، وعن عطاء عن ابن عباس . وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { شديد المحال } وقوله { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } . قال ابن عطيه : والظاهر أن المدني فيها كثير ، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني .

وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله { أو لم يروا إنا نأتي الأرض تنقصها من أطرافها } كما ستعلمه ، وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة } إلى { وإليه متاب } ، فقد قال مقاتل وابن جريج : نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها .

ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم . والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية ، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية . ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها ، فإن ذلك في بعض سور القرآن ، فالذين قالوا : هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم .

والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول . وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها .

وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام .

مقاصدها

أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية .

ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله ، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس .

ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث .

وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم .

والتذكير بنعم الله على الناس .

وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم .

وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة .

والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم .

والتخويف من يوم الجزاء .

والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار .

وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم .

ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين . وما أعد الله لهم من الخير .

وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله .

والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله .

والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات .

وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال .

{ ألر }

تقدم الكلام على نظائر { المر } مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة .

{ تلك ءايات الكتاب والذي أزل إلي من بك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }

القول في { تلك آيات الكتاب } كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس .

والمشار إليه ب { تلك } هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات ، أي دلائل إعجازٍ ، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر .

وقوله : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } يجوز أن يكون عطفاً على جملة { تلك آيات الكتاب } فيكون قوله : { والذي أنزل إليك } إظهار في مقام الإضمار . ولم يكتف بعطف خبَرٍ على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات .

وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر ، أي هو الحق لا غيره من الكتب ، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفَنْديار اللتين عرفهما النضر بن الحارث . فالمقصود الردّ على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين ؛ أو القصرُ حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة ، أي هو الحق الكامل ، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا ، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عيّن لأمة خَاصة « إنّ الدين عند الله الإسلام » .

ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله : { الكتاب } مفرد ، من باب عطف الصفة على الاسم ، مثل ما أنشد الفراء :

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة بالمزدحم

والإتيان ب { ربك } دون اسم الجلالة للتلطف . والاستدراكُ بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالاً يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته ، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به ، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقاً .

وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام .