25- لقد نصركم الله - أيها المؤمنون - على أعدائكم في كثير من المواقع بقوة إيمانكم ، وحين غرتكم كثرتكم في معركة «حُنَيْن » ترككم الله لأنفسكم أول الأمر ، فلم تنفعكم كثرتكم شيئاً ، وظهر عليكم عدوكم ، ولشدة الفزع ضاقت عليكم الأرض ، فلم تجدوا سبيلا للقتال أو النجاة الشريفة ، ولم يجد أكثركم وسيلة للنجاة غير الهرب ، ففررتم منهزمين ، وتركتم رسول الله مع قلة من المؤمنين{[79]} .
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بالغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله . . انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم . حيث نصرهم - سبحانه - في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عند سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم . . . ثم أنزلا لله نصره على رسوله والمؤمنين .
" وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر .
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح .
انحدروا في الاودى وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حمله رجل واحد . . فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة .
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم . . فجعلوا يقولون : ليبيك لبيك .
وانعطف الناس فتراجعوا . . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفائهم يتقلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين ديدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة . . . أصيبوا بالهزيمة في أو معركة . . . ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم .
فقوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداموا على طاعته ومحبته .
وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت .
والمواطن : جمع موطن . وهو المكان الذي يقيم فيه الإِنسان . يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له .
والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم .
قال الآلوسى : وقوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز . . . وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة . .
وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له .
وأعجبتكم : من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعددهم أعدائهم كان أربعة آلاف .
وقوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذي أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة .
وقوله : { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول : ما يغنى عنه : هذا الشئ ، أى : ما يجزئ عنه وما ينفعك .
وقوله : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم .
قال القرطبى : والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه : فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة .
وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل معنى على . أى : على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائاكم مع قلتكم . في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير . . كما نصركم . أيضاً . في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة . .
ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهى عريضة . . . على الخائف المطلوب كِفَّة حابل
ووقوله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم .
ووليتم : من التولى مبعنى الإِعراض . ومدبرين : من الإِبار بمعنى الذهاب إلى الخلف .
أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ .
وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً . . فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقف في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب .
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . . المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء ! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد :
( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم ) .
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ [ ص ] من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله [ ص ] فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله [ ص ] في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين ؛ فسار بهم إلى العدو ؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله [ ص ] يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول : " إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله " ويقول في تلك الحال : " أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبدالمطلب " وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون ؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي [ ص ] عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله [ ص ] - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله [ ص ] فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله [ ص ] أمرهم رسول الله [ ص ] أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله [ ص ] .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله [ ص ] والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية :
( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبري ) . .
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة . وَيَوْمَ حُنَيْنٍ يقول : وفي يوم حنين أيضا قد نصركم . وحنين : واد فيما ذكر بين مكة والطائف وأُجري لأنه مذكر اسم لمذكر ، وقد يترك إجراؤه ويراد به أن يجعل اسما للبلدة التي هو بها ، ومنه قول الشاعر :
نَصَرُوا نَبِيّهُمُ وَشَدّوا أزْرَهُ *** بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : حنين : واد إلى جنب ذي المجاز .
إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وكانوا ذلك اليوم فيما ذكر لنا اثني عشر ألفا . ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلكَ اليَوْم : «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلّةٍ » . وقيل : قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الله : إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنْكُمْ شَيْئا يقول : فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا . وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقول : وضاقت الأرض بسعتها عليكم . والباء ههنا في معنى «في » ، ومعناه : وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها ، يقال منه : مكان رحيب : أي واسع وإنما سميت الرحاب رحابا لسعتها . ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ عن عدوّكم منهزمين مدبرين ، يقول : وليتموهم الأدبار ، وذلك الهزيمة . يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده ، وأنه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش ، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلي القليل فيهزم الكثير .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حتى بلغ : وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ قال : وحنين ماء بين مكة والطائف قاتل عليها نبيّ الله هوازن وثقيف ، وعلى هوازن مالك بن عوف أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد يا ليل بن عمرو الثقفي . قال : وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا ، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الطلقاء ، وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ : لن نغلب اليوم بكثرة قال : وذُكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس ، وجلوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء . وذُكر لنا أن نبيّ الله قال : «أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي » قال : والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نادِ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ويا مَعْشَر المُهاجِرِينَ » فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا ، ثم نادي : يا أصحاب سورة البقرة قال : فجاء الناس عُنُقا واحدا . فالتفت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا عصابة من الأنصار ، فقال : «هَلْ مَعَكُمْ غيرُكُمْ ؟ » فقالوا : يا نبيّ الله ، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك ثم أنزل الله نصره ، وهزم عدوّهم ، وتراجع المسلمون . قال : وأخذ رسول الله كفّا من تراب ، أو قبضة من حصباء ، فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : «شاهَتِ الوُجُوهُ » فانهزموا . فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم ، وأتى الجعرانة ، فقسم بها مغانم حنين ، وتألف أناسا من الناس فيهم أبو سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس ، فقالت الأنصار : حنّ الرجل إلى قومه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم ، فقال : «يا مَعْشَر الأنْصارِ ، ما هَذا الّذِي بَلَغَنِي ؟ ألَمْ تَكُونُوا ضُلاّلاً فَهَدَاكُمُ اللّهُ ، وكُنْتُمْ أذِلّةً فَأعَزّكُمُ اللّهُ وكُنْتُمْ وكُنْتُمْ » قال : فقال سعد بن عبادة رحمه الله : ائذن لي فأتكلم قال : «تَكَلّمْ » قال : أما قولك : كنتم ضُلاّلاً فهداكم الله ، فكنا كذلك ، وكنتم أذلة فأعزّكم الله ، فقد علمت العرب ما كان حيّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا فقال الرسول : «يا سَعْدُ أتَدْرِي مَنْ تُكَلّمُ ؟ » فقال : نعم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ سَلَكَتِ الأنْصارُ وَادِيا والنّاسُ وَادِيا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ ، وَلَوْلا الهِجْرةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأنْصَارِ » . وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «الأنْصَارُ كَرِشِي وعَيْبَتِي ، فاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وتَجاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَنْقَلِبَ النّاسُ بالإبِلِ والشّاءِ ، وَتَنْقَلِبُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إلى بُيَوتكُمْ ؟ » فقالت الأنصار : رضينا عن الله ورسوله ، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدّقانِكُمْ ويَعْذُرَانِكُمْ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أوظئره من بني سعد بن بكر أتته فسألته سبايا يوم حُنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لا أمْلِكُهُمْ وإنّمَا لي مِنْهُمْ نَصِيِبي ، وَلكِنْ ائْتِيِني غَدا فَسَلِيِني والنّاسُ عِنْدِي ، فإنّي إذَا أعْطَيْتُكِ نَصِيِبي أعْطاكِ النّاسُ » فجاءت الغد فبسط لها ثوبا ، فقعدت عليه ، ثم سألته ، فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ . . . الآية : إن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال : يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وأعجبته كثرة الناس ، وكانوا اثني عشر ألفا . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوكلوا إلى كلمة الرجل ، فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير العباس وأبي سفيان بن الحرث وأيمن ابن أم أيمن ، قُتل يومئذ بين يديه . فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ الأنْصَارُ ؟ أيْنَ الّذِينَ بايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ؟ » فتراجع الناس ، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذ ، وذلك قوله : ثُمّ أنْزَلَ اللّهُ سَكيِنَتَهُ على رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْها . . . الآية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب ، عن أبيه ، قال : لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون ، فولى المسلمون يومئذ . قال : فلقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وما معه أحد إلا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، آخذا بغَرْز النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا يألو ما أسرع نحو المشركين . قال : فأتيت حتى أخذت بلجامه وهو على بغلة له شهباء ، فقال : «يا عبّاس نادِ أصحَابَ السّمُرَةِ » وكنتُ رجلاً صَيّتا ، فأذنت بصوتي الأعلى : أين أصحاب السمرة ؟ فالتفتوا كأنها الإبل إذا حنت إلى أولادها ، يقولون : يا لبيك يا لبيك يا لبيك وأقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادت الأنصار : يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة في بني الحرث بن الخزرج ، فتنادوا : يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم ، فقال : «هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ » . ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها ، ثم قال : «انْهَزَمُوا وَرَبّ الكُعْبَةِ انْهَزَمُوا وَرَبّ الكَعْبَةِ » قال : فوالله ما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله . قال : فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب . أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبيّ ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ ، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أصْدَقُهُ ، اخْتارُوا إمّا ذَرَارِيّكُمْ وَنِساءَكُمْ وَإمّا أمْوَالَكُمْ » قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ هَؤُلاءِ قَدْ جاءُونِي مُسْلِمِينَ ، وإنّا خَيّرْناهُمْ بينَ الذّرَارِي والأمْوَالِ فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأحْسابِ شَيْئا ، فَمَنْ كانَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطابَتْ نَفْسُهُ أنْ يَرُدّهُ فَلْيَفْعَلْ ذلكَ ، وَمَنْ لا فَلْيُعْطِنا ، وَلْيَكُنْ قَرْضا عَلَيْنا حتى نُصِيبَ شَيْئا فَنُعْطيَهَ مَكانَهُ » فقالوا : يا نبيّ الله رضينا وسلمنا . فقال : «إنّي لا أدْرِي ، لَعَلّ مِنْكُمْ مَنْ لا يَرْضَى ، فَمُرُوا عُرَفاءَكُمْ فَلْيَرْفَعُوا ذلكَ إلَيْنا » فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، عن أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن ، يعني الفهري ، قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فلما ركدت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي ، حتى أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في ظلّ شجرة ، فقلت : يا رسول الله قد حان الرواح ، فقال : «أجَلْ » فنادى : «يا بِلال يا بلالُ » فقام بلال من تحت سمرة ، فأقبل كأن ظله ظل طير ، فقال : لبيك وسعديك ، ونفسي فداؤك يا رسول الله فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أسْرِجْ فَرَسِي » فأخرج سرجا دفتاه حشوهما ليف ، ليس فيهما أشر ولا بطر . قال : فركب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فصاففناهم يومنا وليلتنا فلما التقى الخيلان ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عِبادَ اللّهِ ، يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ » قال : ومال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن فرسه ، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها وجوههم ، فولوا مدبرين . قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء ، وسأله رجل من قيس : فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال البراء : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، وكانت هوازن يومئذ رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحرث آخذ بلجامها ، وهو يقول :
أنا النّبِيُ لا كَذِبْ *** أنا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : سأله رجل : يا أبا عمارة ، وليتم يوم حنين ؟ فقال البراء وأنا أسمع : أشهد أن رسول الله لم يولّ يومئذ دبره ، وأبو سفيان يقود بغلته ، فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول :
أنا النّبِيّ لا كَذْبْ *** أنا ابنُ عَبْدِ المُطّلِبْ
فما رؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدّ منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، عن عبد الرحمن مولى أم برثن ، قال : ثني رجل كان من المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاة أن كشفناهم . فبينا نحن نسوقهم ، إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، فتلقانا رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا ، وركَبنا القوم فكانت إياها .
حدثنا ابن حيمد ، قال : حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : أمدّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين . قال : ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين . قال : فَأنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا قال : كانوا اثني عشر ألفا .
حدثنا محمد بن يزيد الاَدمي ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، عن سعيد بن السائب الطائفي ، عن أبيه ، عن يزيد بن عامر ، قال : لما كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين ، ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ منها قبضة من تراب ، فأقبل بها على المشركين وهم يتبعون المسلمين ، فحثاها في وجوههم وقال : «ارْجِعُوا شاهَتِ الوُجُوهُ » قال : فانصرفنا ما يلقي أحد أحدا إلا وهو يمسح القذى عن عينيه .
وبه عن يزيد بن عامر السوائي ، قال : قيل له : يا أبا حاجز ، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين ماذا وجدتم ؟ قال : وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطنّ ، ثم يقول : كان في أجوافنا مثل هذا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني المعتمر بن سليمان ، عن عوف ، قال : سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو أم مريم ، قال : ثني رجل كان في المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حَلَبَ شاة ، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها .
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم ، لشركهم ، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك : اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين ، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح ، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم ، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة ، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره ، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين . فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق .
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا ، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه : من تأييد الجامعة ، ومن المغانم ، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها ، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية .
وأكّد الكلام ب { قد } لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر .
و { مواطن } : جمع مَوْطِن ، والموطن أصله مكان التوطّن ، أي الإقامة . ويطلق على مقام الحرب وموقفها ، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة .
و { يومَ } معطوف على الجار والمجرور من قوله : { في مواطن } فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو { نصركم } والتقدير : ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن ، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب ، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن ، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين ، وليس هذا المراد . ولهذا فالتقدير : في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين .
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب : لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر ، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال ، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } [ التوبة : 24 ] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر ، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم ، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها ، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي : ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم .
و { حُنين } اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز ، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وألفاً فهما ، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضباً لهزيمة قريش ولفتح مكة ، وكان على هوازن مالك بن عوف ، أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد يَالِيل بن عمرو الثقفي ، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون : لن نغلب اليومَ من قلّة ، ووثقوا بالنصر لقوّتهم ، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتاباً إلهياً على نسيانهم التوكّل على الله في النصر ، واعتمادهم على كثرتهم ، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين « لن نغلب من قلّة » ساءهُ ذلك ، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه ، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل : إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم ، وكانت هوازن قوماً رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وتفرّقوا في الوادي ، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس : يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي ، فاجتمع إليه مائة ، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس ، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الآن حَمِي الوطيس » فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم .
فذلك قوله تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم ، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً .
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله : { بما رحبت } استعير { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره ، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه .
فالباء للملابسة ، و { ما } مصدرية ، والتقدير : ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها : أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم :
ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها *** من الضيق في عينيْه كفة حابل
قال الأعلم « أي من الزعر » هو مأخوذ من قول الآخر :
كأنَّ فجاج الأرض وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفّة حابل
وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى { وضاقت عليكم اورض بما رحبت } لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم ، ومنهم من أجمل فقال : أي لشدّة الحال وصعوبتها .
وموقع { ثُم } في قوله : { ثم وليتم مدبرين } موقع التراخي الرتبي ، أي : وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين .
والتولّي : الرجوع ، و { مدبرين } حال : إمّا مؤكّدة لمعنى { وليتم } أو أريد بها إدبار أخص من التولّي ، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب ، ويكون للفرّ في حِيل الحروب ، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً .