المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

173- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود ، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان ، ومن الدم المسفوح ، ومثله في التحريم لحم الخنزير ، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه ، على أن من اضطر{[10]} إلى تناول شيء من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه ، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع .


[10]:حال الاضطرار تسوغ ما يحرم لأن الموت المؤكد أشد من الضرر المحتمل، ولأن الجائع تتنبه أجهزة هضمه فيتغلب على المواد الضارة، ولذا لا يصح للمضطر أن يتجاوز حالة الضرورة.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا .

و { الميتة } في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل فيها : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع ، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " .

وكان الأكل من الميتة محرماً ، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها .

قال الآلوسي : وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده ، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد ، للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضاً ، فإنه إذا ما قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه " .

والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً . . . } والدم المسفوح : هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها .

أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه .

قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوي ، ومعفو عما تعم به البلوي . والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه . . . وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع .

وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها ، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصد .

قال بعضهم : والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضي شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس ، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراروة في الإِنسان ، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق .

وحرمة الخنزير شاملة للحمة وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر ، لأنه الذي يقصد بالأكل ، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه . وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة - أي : خياطة الجلود وغيرها - ، وبعضهم كره ذلك .

ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذاراته ، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث .

وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت ، وصار في الإِمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير ، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن ؟

إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع ، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس ، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده ، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم .

وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } معطوف على ما قبله من المحرمات . و { أُهِلَّ } من الإِهلال ، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً ، ومنه إهلال الصبي ، والإِهلال بالحج . وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .

فالمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام وغيرها ، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار . ومنه عند جمهور العلماء : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى ، لأنها مما أهل به لغير الله .

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، لعموم قوله - تعالى - في سورة المائدة سوهي من آخر سورة نزولا : ( وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ) أي ذبائحهم ، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون .

وروى الحسن عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل ، فإن غاب عنك فكل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .

وقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " .

فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه .

فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة ، أي : لعله ذاتية فيها ، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه ، ولكن للتوجه به إلى غير الله .

وهي علة روحية تنافي سلامة القلب ، وطهارة الروح ، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملقح بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وزجدر لهم عن التقرب إلى أحد سواه .

وقوله - تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التي يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات .

و { اضطر } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء . يقال : اضطره إلى هذا الشيء . أي : أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار ، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه ، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك .

و { بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب . تقول : بغيته بغاء وبغيا وبغية أي : طلبته .

و { عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول . عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - في شأن قوم لوط { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و { غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر في { اضطر } وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا .

والمعنى : فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات : حالة كونه غير باغ : أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له لإِشباع لذته ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، أو غير ساع في فساد { وَلاَ عَادٍ } أي : وغير متجاوز ما يسد الجوع ، ويحفظ الحياة { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات .

وبهذا نرى لونا من ألوان سماحهة الإِسلام ويسره في تشريعاته ، التي أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج ، ودفع الضرر ، قال - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان . أي : إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين ، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا ، ويغفر الذنوب ، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر .

هذا ، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة ، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية ، فعلى هذا تكون لفظة " إنما " متروكة الظاهر في العمل - كما قال الإِمام الرازي - أي : أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأنعام :

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

158

ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .

( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .

والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .

فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة [ الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ] . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير !

أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .

ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .

ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :

( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .

وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس ؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها . . وحول مقدار ما تدفع به الضرورة ؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري .

ومعنى قوله : إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ : ما حرم عليكم إلا الميتة : «وإنما » : حرف واحد ، ولذلك نصبت الميتة والدم ، وغير جائز في الميتة إذا جعلت «إنما » حرفا واحدا إلا النصب ، ولو كانت «إنما » حرفين وكانت منفصلة من «إنّ » لكانت الميتة مرفوعة وما بعدها ، وكان تأويل الكلام حينئذٍ : إن الذي حرّم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدم ولحم الخنزير لا غير ذلك .

وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل . ولست للقراءة به مستجيزا ، وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم ، لاتفاق الحجة من القراء على خلافه ، فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه ، ولو قرىء في «حرّم » بضم الحاء من «حرم » لكان في الميتة وجهان من الرفع : أحدهما من أن الفاعل غير مسمى ، و«إنما » حرف واحد . والاَخر «إن » و«ما » في معنى حرفين ، و«حرم » من صلة «ما » ، والميتة خبر «الذي » مرفوع على الخبر ، ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستجيزا للقراءة به لما ذكرت .

وأما الميتة فإن القراء مختلفة في قراءتها ، فقرأها بعضهم بالتخفيف ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون : هو هيْن لّين الهيْن الليْن ، كما قال الشاعر :

ليسَ مَنْ ماتَ فاسْترَاحَ بمَيْتٍ إنّمَا المَيْتُ مَيّتُ الأحْياء

فجمع بين اللغتين في بيت واحد في معنى واحد . وقرأها بعضهم بالتشديد وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو «مَيْوت » ، فيعل من الموت ، ولكن الياء الساكنة والواو المتحركة لما اجتمعتا والياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة ، كما فعلوا ذلك في سيد وجيد . قالوا : ومن خففها فإنما طلب الخفة . والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى .

والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في ياء الميتة لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف في معنييهما .

وأما قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فإنه يعني به : وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام . وإنما قيل : وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر : «مهلٌ » ، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ ، لرفعه صوته بالتلبية ومنه استهلال الصبيّ : إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه ، واستهلال المطر : وهو صوت وقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :

ظَلَم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله مما لم يسمّ عليه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يعني ما أهلّ للطواغيت كلها ، يعني ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : هو ما ذبح لغير الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التي يعبدونها ، أو يسمون أسماءها عليها . قال : يقولون باسم فلان ، كما تقول أنت باسم الله . قال : فذلك قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التجيبي ، وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب . قال حيوة : قلت : أرأيت قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّهِ ؟ قال : إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ .

يعني تعالى ذكره : فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وهو بالصفة التي وصفنا ، فلا إثم عليه في أكله إن أكله . وقوله : فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة ، «وغير باغ » نصب على الحال من «مَن » ، فكأنه قيل : فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله ، فهو له حلال .

وقد قيل : إن معنى قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : الرجل يأخذه العدوّ فيدعونه إلى معصية الله .

وأما قوله : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون ، فقال بعضهم : يعني بقوله : غَيْرَ باغٍ غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور ، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عاد يقول : لا قاطعا للسبيل ، ولا مفارقا للأئمة ، ولا خارجا في معصية الله ، فله الرخصة . ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة وإذا عطش أن يشرب الخمر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم : يعني الأفطس ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال الباغي العادي : الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : إذا خرج في سبيل من سبل الله فاضطرّ إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطرّ إلى الميتة أكل ، وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، قال : غَيْرَ باغٍ على الأئمة وَلا عادٍ قال : قاطع السبيل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل .

وقال آخرون في تأويل قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عاد : غير باغ الحرام في أكله ، ولا معتد الذي أبيح له منه . ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ في أكله ، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادً قال : غير باغ فيها ولا معتد فيها بأكلها وهو غنيّ عنها .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ غير باغ يبتغيه ، ولا عاد يتعدى على ما يمسك نفسه .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يقول : من غير أن يبتغي حراما ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام هذا التعدي ، ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول هذا وهذا واحد .

وقال آخرون : تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أما باغ فيبتغي فيه شهوته ، وأما العادي : فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال ، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما ، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما ، فإن كان ذلك كذلك ، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثما ، وإلى خلافهما أمر الله خلافا .

وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه ، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفا .

فأما توجيه تأويل قوله : وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله ، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه . فإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة .

وأما تأويل قوله : فَلا إثْمَ عَلَيْهِ يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

يعني بقوله تعالى ذكره : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم ، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته ، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافح عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، رحيم بكم إن أطعتموه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

{ إنما حرم عليكم الميتة } أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . { وما أهل به لغير الله } أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون . { ولا عاد } سد الرمق ، أو الجوعة . وقيل ؛ غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . { فلا إثم عليه } في تناوله . { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم } { إنما } هنا حاصرة ، و { الميتة } نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة » بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت » و «ميْت » لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميْت » بالتخفيف .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر( {[1554]} ) : [ الخفيف ]

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ . . . إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير { وما هو بميت }( {[1555]} ) [ إبراهيم : 17 ] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر( {[1556]} ) : [ الوافر ]

إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ . . . فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِىءْ بِزَادِ

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي و { إن } عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حُرِّمَ » على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت { ما } كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر .

ولفظ { الميتة } عموم والمعنى مخصص( {[1557]} ) لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم( {[1558]} ) ، و { الميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه( {[1559]} ) كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب( {[1560]} ) : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل .

و { الدم } يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي( {[1561]} ) أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها( {[1562]} ) ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه( {[1563]} ) ، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيراً .

وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده( {[1564]} ) عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية .

و { ما أُهِلّ به لغير الله } ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و { أهل } معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم( {[1565]} ) ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس( {[1566]} ) ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها( {[1567]} ) عرساً فذبحت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة .

واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع( {[1568]} ) ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى { فمن اضطر } الآية ، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال { فمن اضطِر } بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء ، وقرأ ابن محيصن ، «فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى { اضطر } : ضمه عدم وغرث( {[1569]} ) ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات ، و { غير باغ } في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم( {[1570]} ) ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي { غير باغ } أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، { ولا عاد } أي متزود( {[1571]} ) ، وقال مالك رحمه الله : «يأكل المضطر شبعه » ، وفي الموطأ - وهو لكثير من العلماء : أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في { عاد } أن معناه عايد( {[1572]} ) ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها .

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزاً ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل .

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم ، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه( {[1573]} ) .


[1554]:- هو عدي بن رعلاء الغساني، كما في معالم الاهتداء، شرح شواهد قطر الندى.
[1555]:- [يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت] من الآية (17) من سورة إبراهيم.
[1556]:- هو يزيد بن الصعق الكلابي – أو أبو المهوس الأسدي يهجو بني تميم بحب الطعام. وبعد البيت: بِخُبْـز أو بتَمْـر أوْ بِسَمْــنٍ أو الشّيءِ المُلَفَّــفِ فـي البِجَــادِ تَرَاهُ يُطَوِّفُ الآفَـاقَ حِرصـاً لِيَأكُـلَ رأْسَ لُقمـانَ بـنَ عَــــادِ
[1557]:- هذا رأي ابن عطية، وقد ناقشه فيه (ح) ويخصص عموم الآية حديث الإمام أحمد، وابن ماجة، والدارقطني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال) – وعليه فالمراد بالميتة في الآية ميتة البر.
[1558]:- بحسب الإرادة لأن المخصص دل على أنه لم يرد دخوله في اللفظ العام، وإن كان اللفظ يشمله بحسب الدلالة.
[1559]:- قال الشيخ خليل رحمه الله في مختصر المالكية: وافتقر لما يموت به نحو الجراد.
[1560]:- ابن نافع هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع. وابن عبد الحكم هو: أبو محمد عبد الله بن الحكم وابن وهب هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم. وسحنون هو: أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، وأشهب هو: أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز – وكلهم من فقهاء المالكية المصريين الذين عرفوا بالإمامة في الفقه.
[1561]:- هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف، من أئمة الحديث. توفي سنة 403 هـ.
[1562]:- كل من اللحم والشحم والغضروف اسم خاص إذا أُطلق لا يدخل فيه الآخر ولا يدل عليه، فتخصيص اللحم بالذكر تخصيص له بالحكم، إلا أننا نقول: إن الشحم تابع للحم ومن هنا يشمله، بخلاف اللحم فإنه غير تابع للشحم، ولهذا كان ذكر اللحم ينوب عن ذكر الشحم، قال الإمام مالك رحمه الله: من حلف لا يأكل لحما فأكل شحما يحنث، ومن حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لا يحنث، وقد حرم الله على بني إسرائيل الشحوم فلم يدخل في تحريمها عليهم اللحوم. وقال بعض المحققين في قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلى محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس] الضمير في قوله: [فإنه] عائد على [خنزير] ليفيد تحريم سائر أجزائه، وقد اعترض بأن الكلام إذا كان فيه مضاف ومضاف إليه عاد الضمير إلى المضاف دون المضاف إليه لأنه هو المُحَدَّث عنه – إلا أننا نقول: إعادته على المضاف إليه هنا أولى من حيث المعنى، لأن تحريم اللحم استفيد من قوله أو لحم خنزير، فلو عاد الضمير عليه كان الكلام خاليا من فائدة التأسيس، ونظير ذلك في عود الضمير على المضاف إليه قوله تعالى: [واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون] وقوله تعالى: [كمثل الحمار يحمل أسفارا] وعليه فالقاعدة المذكورة أغلبية.
[1563]:- يخالف داود الظاهري في هذا، اللهم إلا إذا كان خلافه غير معتد به عند ابن عطية تبعا لإمام الحرمين انظر (ح).
[1564]:- هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة: صاحب كتاب المخصص في اللغة توفي سنة 458 هـ.
[1565]:- يعني أن العبرة بالقصد سواء وجد الإهلال والصياح أم لا – فأبو الفرزدق لما كان قصده بالنحر التباهي والتفاخر نهى علي رضي الله عنه عن أكلها.
[1566]:- والذي يُروى في هذه القصة أن (غالبا أبا الفرزدق) فاخر (سُحَيْم بن وَثيل الرياحي) في الطعام، فنحر مائة ناقة، ونحر سحيم ثلاثمائة ناقة وقال للناس: شأنكم بها، فقال علي بن أبي طالب: إنها مما أهل به لغير الله، فتركها الناس حتى أكلتها الوحوش والطيور. ومثل ذلك في الحكم ما يقع للمعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله.
[1567]:- اللّعبة كالتمثال والدمية. والحاصل أن ذبيحة الأصنام والأوثان لا تؤكل، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف عن الحسن بن أبي الحسن، وما يذبح على القبور والأموات عن قصد لأن ذلك بمثابة الأصنام ولا سيما التي يصاح عليها بأنها ذبيحة فلان. والمعوّل عليه هو النية والقصد.
[1568]:- قال في المدونة: وما ذبحه اليهود فأصابوه فاسدا عندهم لحال الرئة وشبهها التي يحرمونها في دينهم – فمرة أجاز مالك أكلها ثم كرهه وقال: لا تؤكل انتهى. قال ابن ناجي في شرحها: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: الجواز – والكراهة – وكلاهما لمالك فيها، والتحريم لظاهر قول ابن القاسم كما هو ظاهر العتبي عن ابن كنانة. وقد اعتمد بعضهم الحرمة لما ذكره الشيخ عبد الحق الإسلامي الذي له مزيد اطلاع على كتب اليهود – من عوامل التحريم.
[1569]:- أي أخذه وألجأه فقر وجوع والعبارة مجاز، ويعني أن الصحيح في تفسير الاضطرار هو إلجاء الفقر والجوع إلى هذه المحرمات، والقول بأن معنى الاضطرار هو الإكراه على أكل هذه المحرمات غير صحيح ولا قوي – والحقّ أن بناء الفعل للمفعول يدل على مطلق الضرورة سواء كان بجوع أو إكراه، في حضر أو سفر.
[1570]:- هذا هو الظاهر، ونحو الآية قوله تعالى: [فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم] وأما آية الأنعام ففيها إحالة على هاتين الآيتين لأن تفصيل المحرم فيهما، وبهذا تكون آيات إباحة هذه المحرمات للمضطر كلها مقيدة بعدم ارتكاب الإثم.
[1571]:- أي من الميتة، وقال مالك رحمه الله: يأكل المضطر حتى يشبع، ويتزود منها إن اقتضته الضرورة، وهذا هو الأصح.
[1572]:- عاد اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد فيكون مقلوبا أو محذوفا من باب شاك ولاث – لأن القلب لا يصار إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب قاله (ح) رحمه الله.
[1573]:- كون الأكل من الميتة رخصة هو الصحيح، ومن الناس من رأى ذلك عزيمة، واستدل بقول مسروق: إن ترك المضطر الأكل من الميتة حتى مات دخل النار لأنه كمن قتل نفسه، والله يقول [ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما] الآية.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم بين ما حرم، فقال: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}، يقول: وما ذبح للأوثان.

{فمن اضطر}: إلى شيء مما حرم الله.

{غير باغ}: استحلاله.

{ولا عاد}: ولا معتديا لم يضطر إليه.

{فلا إثم عليه}: في أكله.

{إن الله غفور}: لما أكل من الحرام في الاضطرار.

{رحيم}: إذ رخص لهم في الاضطرار، مثلها في الأنعام، والمضطر يأكل على قدر قوته...

تفسير الشافعي 204 هـ :

18- قال الشافعي في قوله تعالى: {فَمَنُ اَضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} معناه: من كان مضطرا، ولا يكون موصوفا بصفة البغي، ولا بصفة العدوان البتة، فأكل (فلا إثم عليه). (مناقب الإمام الشافعي ص: 175-176.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري.

"إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ": ما حرم عليكم إلا الميتة...

"وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ": وما ذبح للآلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام. وإنما قيل: "وَما أُهِلّ بِهِ "لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لآلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر: «مُهِلٌ»، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال: "وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ". ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مُهلّ، لرفعه صوته بالتلبية...

واختلف أهل التأويل في ذلك؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: "وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ "ما ذبح لغير الله... ما أهل به للطواغيت.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله... ما يذبح لآلهتهم الأنصاب التي يعبدونها، أو يسمون أسماءها عليها؛ يقولون: باسم فلان.

"فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ": "فَمَنِ اضْطُرّ": فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وهو بالصفة التي وصفنا، فلا إثم عليه في أكله إن أكله. وقوله: "فَمَنِ اضْطرّ" افتعل من الضرورة، فكأنه قيل: فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله، فهو له حلال.

وقد قيل: إن معنى قوله: "فَمَنِ اضْطُرّ": فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه.

"غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ": فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: "غَيْرَ باغٍ": غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل... غير قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة... ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه.

وقال آخرون في تأويل قوله "غَيْرَ باغٍ وَلا عاد": غير باغ الحرام في أكله، ولا معتد الذي أبيح له منه... غير باغ في أكله، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة.

وقال آخرون: تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه...أما باغ: فيبتغي فيه شهوته. وأما العادي: فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما، فإن كان ذلك كذلك، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثما، وإلى خلافهما أمر الله خلافا.

وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفا.

فأما توجيه تأويل قوله: وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه. فإذا كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.

"فَلا إثْمَ عَلَيْهِ": من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج.

"إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافح عنكم، وتارك عقوبتكم عليه، رحيم بكم إن أطعتموه.

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

... وحَدُّ الضرورة أن يبقى يوما وليلة لا يجد فيها ما يأكل أو يشرب، فإن خشي الضعف المؤذي الذي إن تمادى أدى إلى الموت، أو قطع به عن طريقه وشغله؛ حل له الأكل والشرب فيما يدفع به عن نفسه الموت بالجوع أو العطش. أما تحديدنا ذلك ببقاء يوم وليلة بلا أكل، فلتحريم النبي صلى الله عليه وسلم الوصال يوما وليلة. وأما قولنا: إن خاف الموت قبل ذلك أو الضعف فلأنه مضطر حينئذ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان، ولا يمكنه الامتناع منه. والفرق بين الاضطرار، والإلجاء أن الإلجاء تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك الاضطرار. وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة. قال مجاهد: ضرورة إكراه. والأولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{إنما حرم عليكم}: {إنما} هنا حاصرة، {الميتة}... ولفظ {الميتة} عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم، و {الميتة}: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة...

و {الدم} يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع... وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه، وقال أنتم تقولون خنزيراً...

وقوله تعالى {فمن اضطر}: ومعنى {اضطر}: ضمه عدم وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات، غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم، ويطلق التحريم على العين تجوزاً، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل.

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: في آخر الآية: {إن الله غفور رحيم} ففيه إشكال وهو أنه لما قال: {فلا إثم عليه} فكيف يليق أن يقول بعده: {إن الله غفور رحيم} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.

والجواب: من وجوه؛

أحدها: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك

وثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة

وثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورا رحيما لأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ...} لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال: فأجاب بأن المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه...

وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج إلى استثناء المضطر منه...

قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وجه مناسبة المغفرة أنه قد يظن أنه مضطر فيأكل الميتة ولا يكون مضطرا إليها...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه {إنما حرم عليكم الميتة} هذا حصر لمحرمات الطعام من الحيوان بصيغة {إنما} الدالة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي. وإنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها، ولما يتوقع من ضررها، فإنها إما أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضررها، لأن المرض قد يكون معديا، والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق، هذا ما قاله الأستاذ الإمام ويزيد عليه عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها، ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الذكاة كالمنخنقة والموقودة إلى أخر ما ذكر في آية المائدة.

{والدم} أي المسفوح كما في آية الأنعام، فإنه قذر لا طيب وضار كالميتة {ولحم الخنزير} فأنه قذر، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم ولاسيما الحارة كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة {وما أهل به لغير الله} وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد. والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد، لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى.

وقد ذكر الفقهاء أن كل ما ذكر عليه اسم غير اسم الله لو مع اسم الله فهو محرم، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبح لاسيما ذبح المنذور بسم الله، الله أكبر، يا سيد. يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه (قال) وكيفما أولته فهو محرم. ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو المسيح إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤِكل باسمه لا يشركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه، ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك لأنه غير واضع للدين.

{فمن اضطر} إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه {غير باغ} له أي طالب له، راغب فيه لذاته {ولا عاد} متجاوز قدر الضرورة {فلا إثم عليه} لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، بل الضرر في ترك الأكل محقق، وهو في فعله مظنون، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر. وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه. {إن الله غفور رحيم} إذ حرم على عباده الضار، وجعل الضرورات بقدرها، لينتفي الحرج والعسر عنهم، ووكل تحديدهم إلى اجتهادهم، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه.

وفسر الجلال كلمة {باغ} بالخارج على المسلمين، و {عاد} بالمعتدي عليهم بقطع الطريق (قال) ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس وعليه الشافعي. قال الأستاذ الإمام: ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة، ويجب عليه توقي الضرر، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص. ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف {ما نبغي} (يوسف: 65) وفي الحديث الصحيح (يا باغي الخير هلم) وفي التنزيل {ولا تعد عيناك عنهم} (الكهف: 28) أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم. فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل من الأكل، لا السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة، وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهوائهم في تفسير الاضطراب إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة، فعلم من قوله {غير باغ ولا عاد} كيف تقدر الضرورة بقدرها، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع. ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل، وقد قلنا إننا لا نعترض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف.

هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس... وأقول الآن إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة في ترك المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف.

ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية. وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات. والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطراب دقيق جدا ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في صف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يعتمد تجاوز الحدود والله أعلم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة:"الضرورات تبيح المحظورات" فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن. فله الحمد والشكر، أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّناً المحرماتِ وهي أضداد الطيبات، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضاً بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقياً لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض...

وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد...

فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي والعدوان بين الأمة، وهي أيضاً إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلاّ فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلاً يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى [أم لا]...

ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافاً لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول:

{إن الله غفور رحيم} في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، وغفرانه في الدنيا والآخرة، ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وأن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لأضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.

وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين. أولهما: ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث. الثاني: أن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا، أما صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما... 96} [المائدة]. جعل الله طعامنا حلالا طيبا، وهنيئا مريئا