المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

24- ولقد عزمت أن تخالطه ونازعته نفسه إليها ، لولا أن رأي نور الله الحق نُصْبَ عينيه قد استضاء به ، ولم يطاوع ميل النفس ، وارتفع عن الهوى ، فامتنع عن المعصية والخيانة وثبت على طهره وعفته . وهكذا ثبتنا يوسف على الطهر والعفاف لنصرف عنه سوء الخيانة ومعصية الزنا ، إنه من عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . } .

وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .

وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .

وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .

روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .

وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .

كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .

وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .

والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .

أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .

والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .

{ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .

ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .

هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .

فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .

وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .

فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية ؟

قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "

ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .

والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .

{ وَهَمَّ بِهَا } أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .

والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .

ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .

وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .

وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان .

.

وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .

وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .

ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى في الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .

هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هي من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .

قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .

والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .

والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء - أى في المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .

{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .

والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :

( وقالت : هيت لك ) .

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !

لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !

وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .

وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .

أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .

الذي خطر لي أن قوله تعالى :

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .

هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .

هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .

( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .