ثم انتقلت السورة إلى دائرة أوسع وأرحب ، فدعت المؤمنين إلى التدخل بين الطوائف المتنازعة لقعد المصالحة بينها ، وإلى قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله - تعالى - فقال - سبحانه - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . . لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها : ما رواه الإِمام أحمد عن أنس قال : قيل للنبى - صلى الله عليه وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبى ؟ فانطلق إليه النبى - صلى الله عليه وسلم وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهى أرض سبخة ، فلما انطلق إليه - عليه الصلاة والسلام - قال إليكم عنى ، فو الله لقد آذانى ريح حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك .
قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، وغضب للأنصارى أصحابه . قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدى . . فبلغنا أنه أنزلت فيهم { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . } .
والخطاب فى الآية لأول الأمر من المسلمين ، والأمر فى قوله { فَأَصْلِحُواْ } للوجوب ، والطائفة : الجماعة من الناس .
أى : وإن حدث قتال بين طائفتين من المؤمنين ، فعليكم يا أولى الأمر من المؤمنين أن تتدخلوا بينهما بالإِصلاح ، عن طريق بذل النصح ، وإزالة أسباب الخلاف .
والتعبير " بإن " للإِشعار بأنه لا يصح أن يقع قتال بين المؤمنين ، فإن وقع على سبيل الندرة ، فعلى المسلمين أن يعملوا بكل وسيلة على إزالته .
وجاء " إقتتلوا " بلفظ الجمع ، لأن لفظ الطائفة وإن كان مفردا فى اللفظ إلا أنه جمع فى المعنى ، فروعى فيه المعنى هنا . وروعى فيه اللفظ فى قوله { بَيْنَهُمَا } .
قالوا : والنكنة فى ذلك أنهم فى حال القتال يكونون مختلطين فلذا جاء الاسلوب بصيغة الجمع ، وفى حال الصلح يكونون متميزين متفرقين فلذا جاء الأسلوب بصيغة التثنية .
ثم بين - سبحانه - حكمه فى حال اعتداء إحداهما على الأخرى فقال : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } .
والبغى : التعدى وتجاوز الحد والامتناع عن قبول الصلح المؤدى إلى الصواب .
أى : فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ، وتجاوزت حدود العدل والحق ، فقاتلوا - أيها المؤمنون - الفتة الباغية ، حتى تفئ وترجع إلى حكم الله - تعالى - وأمره ، وحتى تقبل الصلح الذى أمرناكم بأن تقيموه بينهم .
وقوله : { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الفئة الباغية ، إذا ما قبلت الصلح ورجعت إلى حكم الله - تعالى - .
أى : فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها ، وقبلت الصلح ، وأقلعت عن القتال ، فأصلحوا بين الطائفتين إصلاحا متسما بالعدل التام وبالقسط الكامل .
وقيد - سبحانه - الإِصلاح بالعدل . ثم أكد ذلك بالأمر بالقسط حتى يلتزم الذين يقومون بالصلح بينهما العدالة الى لا يشوبها أى حيف أو جور على إحدى الطائفتين .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } تذييل المقصود به حض المؤمنين على التقيد بالعدل فى أحكامهم ، لأن الله - تعالى - يحب من يفعل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا ، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى يقول : فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له ، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلاً بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي يقول : فقاتلوا التي تعتدي ، وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ يقول : فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه ، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل : يعني بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَت إحْدَاهُما على الأُخُرَى فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ فإن الله سبحانه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله ، وينصف بعضهم من بعض ، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغٍ ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم ، حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقرّوا بحكم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذا أمر من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس ، وأمرهم أن يصلحوا بينهما ، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله ، فإذا رجعت أصلحوا بينهما ، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه ، مما سأذكره إن شاء الله تعالى . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أنس ، قال : قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أُبيّ ، قال : فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون ، وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ، قال : فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال : فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما .
حدثني أبو حُصَين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : ثني حصين ، عن أبي مالك في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال : رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه ، ولذا قومه ، فاجتمعوا حتى اضّربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال ، فأنزل الله هذه الاَية .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال : كان بينهم قتال بغير سلاح .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَإن طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال : كانا حيين من أحياء الأنصار ، كان بينهما تنازع بغير سلاح .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال : كان قتالهم بالنعال والعصيّ ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم .
قال : ثنا مهران ، قال : حدثنا المُبارك بن فَضَالة ، عن الحسن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأَبْون أن يجيبوا فأنزل الله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول : ادفعوهم إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع .
قال : ثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحوا بَيْنَهُما قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد ، تحت رجل ، فكان بينها وبين زوجها شيء ، فرقاها إلى علية ، فقال لهم : احفظوا ، فبلغ ذلك قومها ، فجاؤوا وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء ليصلح بينهم ، فنزل القرآن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأُخْرَى قال : تبغي : لا ترضى بصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال : الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا . . . الاَية ، الاَية ، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما للاَخر : لاَخذنه عنوة لكثرة عشيرته ، وأن الاَخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف ، فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله ، كتاب الله ، وإلى حكم نبيه صلى الله عليه وسلم وليست كما تأوّلها أهل الشبهات ، وأهل البدع ، وأهل الفراء على الله وعلى كتابه ، أنه المؤمن يحلّ لك قتله ، فوالله لقد عظّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا ، فقال : إنّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ . . . الاَية .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال قتادة : كان رجلان بينهما حقّ ، فتدارآ فيه ، فقال أحدهما : لاَخذنّه عنوة ، لكثرة عشيرته وقال الاَخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : ثني عبد الله بن عباس ، قال : قال زيد ، في قول الله تعالى : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام ، أو النفر والنفر ، أو القبيل والقبيلة فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه : إما القصاص والقود ، وإمّا العقل والعير ، وإمّا العفو ، فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم ، حتى يفيء إلى أمر الله ، ويرضى به .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : ثني ابن شهاب وغيره : يزيد في الحديث بعضهم على بعض ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن أُبيّ ابن سلول : فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : لقد آذانا بول حماره ، وسدّ علينا الروح ، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فحجز بينهم ، فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ :
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهدا *** تُظَلّمْ وَيَصْرَعْكَ الّذِينَ تُصَارِعُ
قال : فأنزلت فيهم هذه الاَية وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا .
وقوله : وأَقْسِطُوا يقول تعالى ذكره : واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ يقول : إن الله يحبّ العادلين في أحكامهم ، القاضين بين خلقه بالقسط .
{ طائفتان } مرفوع بإضمار فعل . والطائفة : الجماعة . وقد تقع على الواحد ، واحتج لذلك بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[10457]} [ التوبة : 122 ] . ورأى بعض الناس أن يشهد حداً لزناة رجل واحد . فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد .
واختلف الناس في سبب هذه الآية . فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه . فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله . فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ، ويروى بالحديد{[10458]} .
وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال . فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر{[10459]} ولها زوج من غيرهم . فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه . فوقع قتال نزلت الآية بسببه{[10460]} .
و : { بغت } معناه : طلبت العلو بغير الحق ، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة . وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون أهل صفين والجمل ؟ قال : لا . من الشرك فروا . قيل أفمنافقون ؟ قال : لا . لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح . ولا يطلب هارب . ولا يقتل أسير ){[10461]} و : { تفيء } معناه : ترجع . والإقساط : الحكم بالعدل .
لما جرى قوله : { أن تصيبوا قوماً بجهالة } [ الحجرات : 6 ] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر ، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة . وفي « الصحيحين » عن أنس بن مالك : أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بنُ أبيّ بنُ سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار ، فقال عبد الله بن أُبَيّ : خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال له عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيَبُ من مسكك فاستَبَّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم . . . فنزلت هذه الآية . وفي « الصحيحين » عن أسامة بن زيد : وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة .
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله : فبلغنا أن نزلت فيهم { وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة . وعن قتاده والسدي : أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكماً عاماً نزل في سبب خاص .
و { إنْ } حرف شرط يُخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع { طائفتان } بفعل مقدر يفسره قوله : { اقتتلوا } للاهتمام بالفاعل . وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضياً على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أولِيَت فيه { إنْ } الشرطية الاسم نحو { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] ، { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً } [ النساء : 128 ] . قال الرضي « وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي ( إنْ ) أن يكون ماضياً وقد يكون مضارعاً على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله » . ويعود ضمير { اقتتلوا } على { طائفتان } باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع ، والطائفة الجماعة . وتقدم عند قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .
والوجه أن يكون فعل اقتتلوا } مستعملاً في إرادة الوقوع مثل { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ومثل { والذين يظّاهرون من نسائهم ثم يَعُودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] ، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصَّلحا بينهما صلحاً } [ النساء : 128 ] .
وبذلك يظهر وجه تفريع قوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } على جملة { اقتتلوا } ، أي فإن ابتدأتْ إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية .
والبغي : الظلم والاعتداء على حق الغير ، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف { التي تبغي } هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغِي عليها أن تدافع عن حقها . وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعواننِ الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح .
وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل ، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع . وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغياً بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه ، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاةً على جماعة المؤمنين ، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سبباً في إراقة دماء المسلمين اجتهاداً منه فوجب على المسلمين طاعته لأن وليُّ الأمر ولم يَنفُوا عن الثوار حكم البغي .
ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل ، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين ، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة .
وقد كان تحقيق معنى البغي وصُورهُ غيرَ مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين ، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي الله عنه من الذين بايعوه بالخلافة ، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القَوَد من قتلة عثمان منهم ، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالاً للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة . وقال ابن العربي : كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى ، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط .
وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطىء ، وكان الواجب يقضى على جماعة من المسلمين الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل : إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحَرورية على أمر التحكيم فقالوا : لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال .
وقيل : كيدت مكيدة بين الحَكَمين ، والأخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء . والله أعلم بالضمائر .
وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال : شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا . وقال المُحاسبي : تَعلّم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه مِنّا .
والأمر في قوله : { فقاتلوا التي تبغي } للوجوب ، لأن هذا حُكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق ، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد ، ولأن ذلك يجرىء غيرها على أن تأتي مثل صَنيعها فمقاتلها زجر لغيرها . وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأيمة والخلفاء . فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولَّ قتال البغاة السوادُ الأعظم من الأمة وعلماؤها . فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها . وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يُؤْبَهُ بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما ، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها ، وذلك بعد أن تُبيَّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وَتُزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يَأْب منهما فهو أعق وأظلم .
وجعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة ، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله ، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم ، أي حتى تقلع عن بغيها ، وأُتْبع مفهوم الغاية ببيان ما تُعامَل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } ، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير { اصلحوا } .
والعدل : هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديداً فتجب مراعاة التعديل .
وقُيد الإصلاحُ المأمور به ثانياً بقيد أن تفيء الباغية بقيد { بالعدل } ولم يقيد الإصلاح المأمور به ، وهذا القيد يقيد به أيضاً الإصلاح المأمور به أولاً لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد ، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف .
ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله : { وأقسطوا } أمراً عاماً تذييلاً للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين ، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي ، ثم قال : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما } . وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء . ومعناه : أن الفِئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخُوَّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما .
قال أبو بكر بن العربي : ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة اه . ثم قال : لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية . وقال أبو حنيفة يضمنون . وللشافعي فيه قولان . فأما ما كان قائماً رُدّ بعينه وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر .
فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتَّبع مدبرهم ولا يذفّف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم . وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدَى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جرياً على قوله تعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اَلْمُومِنِينَ اَقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدياهُمَا عَلَى اَلاُخْرى فَقَاتِلُوا اَلتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اِللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ}...
فذكر الله عز وجل اقتتال الطائفتين، والطائفتان الممتنعتان: الجماعتان كل واحدة تمتنع أشد الامتناع أو أضعف إذا لزمها اسم الامتناع، وسماهم الله تعالى المؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، فحق على كل واحد دعاء المؤمنين إذا افترقوا وأرادوا القتال أن لا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الصلح. وبذلك قلتُ: لا يبيت أهل البغي قبل دعائهم، لأن على الإمام الدعاء كما أمر الله عز وجل قبل القتال، وأمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية وهي مسماة الإيمان حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها، لأن الله عز وجل إنما أذن في قتالها في مدة الامتناع بالبغي إلى أن تفيء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
"فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى" يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما "فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي" يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله "حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ" يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه، "فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ" يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه... وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه...
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه نزلت فيهم "وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما..."...
وقوله: "وأَقْسِطُوا" يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله.
"إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ" يقول: إن الله يحبّ العادلين في أحكامهم، القاضين بين خلقه بالقسط.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} أي فإن ظلمت إحدى الطائفتين، وطلبت غير الحق {فقاتلوا التي تبغي} أي تظلم، وتجور {حتى تفيء إلى أمر الله} حتى ترجع إلى أمر الله وإلى الحق. أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنّه الله} [الحج: 60] وعد عز وجل النصر لهم. فيحتمل أن يكون ذلك النّصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة. وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيدٍ بالسيف وغيره بقوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي}. لكن متى أمكن رفع البغي وكسر مَنَعتهم بغير سلاح فهو الحق، وهو الواجب. لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
{فقاتلوا}، دليل على أن الباغي إذا انهزم عن القتال، أو ضعف عنه بما لحقه من الآفات المانعة للقتال، حرم دمه، لأنه غير مقاتل، ولم نؤمر بقتاله إلا إذا قاتل، لأن الله تعالى قال: {فقاتلوا}، ولم يقل: فاقتلوا، والمقاتلة إنما تكون لمن قاتل- والله أعلم- لأنها تقوم من اثنين...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت: لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية، ونفي الشبهة؛ إلا إذا أصرتا، فحينئذٍ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين {وَأَقْسِطُواْ} أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه، والقسط بالفتح: الجور من القسط: وهو اعوجاج في الرجلين... وأمّا القسط بمعنى العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أي: أزال القسط وهو الجور.
{وإن} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وإن} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي،... {وإن طائفتان} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة،... {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة {إن} اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {إن} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما...
{اقتتلوا} ولم يقل: يقتتلون، لأن صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم...
{حتى تفيء} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم (الثالث) هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال...
(أحدها) إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
(وثانيها) إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}.
(ثالثها) إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان.
(السابع) قال هاهنا: {فأصلحوا بينهما بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا} نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح هاهنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل} فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى.
(الثامن) إذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل} فأية فائدة في قوله {وأقسطوا} نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله {وأقسطوا} أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإن طائفتان} أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما- دهمها من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها {من المؤمنين} أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق عليه به الاسم فقط. ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر، عبر بضمير الجمع دون التثنية تصويراً لذلك بأقبح صورة فقال: {اقتتلوا} أي- فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة {فأصلحوا} أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح... {بينهما} أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتتجاوزوا فيه أمر الله. ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لا يلم به أحد، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال: {فإن بغت} أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير {إحداهما} أي الطائفتين {على الأخرى} فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق...
{فقاتلوا} أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة {التي}...
{تبغي} أي توقع الإرادة وتصر عليها، وأديموا القتال لها {حتى تفيء} أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة...
. {إلى أمر الله} أي التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما كانت عليه من العدل قبل البغي...
{فإن فاءت} أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل {فأصلحوا} أي أوقعوا الإصلاح {بينهما}. ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض، قال: {بالعدل} ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا. ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى: {وأقسطوا} أي وأزيلوا القسط -بالفتح وهو الجور- بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه، في ذلك وفي جميع أموركم، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به، وردّاً على من لعله يقول: إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف: {إن الله} أي الذي بيده النصر والخذلان {يحب المقسطين} أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصلِ ما بينَهما على حُكمِ الله تَعالى ولا تكتفُوا بمجردِ متاركتهِما عَسى يكونُ بينَهما قتالٌ في وقتٍ آخرَ، وتقييدُ الإصلاحِ بالعدلِ لأنَّه مظِنةُ الحيفِ لوقوعِه بعدَ المقاتلةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيلَ: {وَأَقْسِطُوا} أيْ واعدلُوا في كُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} فيجازيهُم أحسنَ الجزاءِ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضًا، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا، فبها ونعمت، وإن {بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه، الاقتتال.
وقوله: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تولوها، حتى إنه، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله، وعياله، في أدائه حقوقهم، وفي الحديث الصحيح: "المقسطون عند الله، على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك، تحت النزوات والاندفاعات. تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبت والاستيقان.
وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق. ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.
والقرآن قد واجه -أو هو يفترض- إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.
وهو يكلف الذين آمنوا -من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا- أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق -ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها- فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله. وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال. فإذا تم قبول البغاة لحكم الله، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه.. (إن الله يحب المقسطين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى قوله: {أن تصيبوا قوماً بجهالة} [الحجرات: 6] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة. وفي « الصحيحين» عن أنس بن مالك: أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بنُ أبيّ بنُ سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبَيّ: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيَبُ من مسكك فاستَبَّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم... فنزلت هذه الآية. وفي « الصحيحين» عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: فبلغنا أن نزلت فيهم {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}. اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة. وعن قتاده والسدي: أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكماً عاماً نزل في سبب خاص.
و {إنْ} حرف شرط يُخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع {طائفتان} بفعل مقدر يفسره قوله: {اقتتلوا} للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضياً على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أولِيَت فيه {إنْ} الشرطية الاسم نحو {وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6]، {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً} [النساء: 128]. قال الرضي « وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي (إنْ) أن يكون ماضياً وقد يكون مضارعاً على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله». ويعود ضمير {اقتتلوا} على {طائفتان} باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102).
والوجه أن يكون فعل اقتتلوا} مستعملاً في إرادة الوقوع مثل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] ومثل {والذين يظّاهرون من نسائهم ثم يَعُودون لما قالوا} [المجادلة: 3]، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصَّلحا بينهما صلحاً} [النساء: 128].
وبذلك يظهر وجه تفريع قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} على جملة {اقتتلوا}، أي فإن ابتدأتْ إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية.
والبغي: الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف {التي تبغي} هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغِي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح.
وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع. وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغياً بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاةً على جماعة المؤمنين، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سبباً في إراقة دماء المسلمين اجتهاداً منه فوجب على المسلمين طاعته لأنه وليُّ الأمر ولم يَنفُوا عن الثوار حكم البغي.
ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة.
وقد كان تحقيق معنى البغي وصُورهُ غيرَ مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين...
والأمر في قوله: {فقاتلوا التي تبغي} للوجوب، لأن هذا حُكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد، ولأن ذلك يجرىء غيرها على أن تأتي مثل صَنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأيمة والخلفاء. فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولَّ قتال البغاة السوادُ الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يُؤْبَهُ بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها، وذلك بعد أن تُبيَّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وَتُزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يَأْب منهما فهو أعق وأظلم.
وجعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي حتى تقلع عن بغيها، وأُتْبع مفهوم الغاية ببيان ما تُعامَل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل}، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير {اصلحوا}.
والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديداً فتجب مراعاة التعديل.
وقُيد الإصلاحُ المأمور به ثانياً بقيد أن تفيء الباغية بقيد {بالعدل} ولم يقيد الإصلاح المأمور به، وهذا القيد يقيد به أيضاً الإصلاح المأمور به أولاً لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف.
ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله: {وأقسطوا} أمراً عاماً تذييلاً للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي، ثم قال: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما}. وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه: أن الفِئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخُوَّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما...
وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدَى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جرياً على قوله تعالى: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.