ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من دعوته فقال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } . .
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما بعث الله - تعالى - رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فأنزل الله - تعالى - : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً . . . الآية } .
والهمزة في قوله " أكان " لإنكار تعجبهم ، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه .
وقوله { لِلنَّاسِ } جار ومجرور حالا من قوله { عَجَباً } والمراد بهم مشركوا مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { عَجَباً } خبر كان ، والعجب والتعجيب - استعظام أمر خفي سببه .
وقوله : { أَنْ أَوْحَيْنَآ } في تأويل مصدر أي : إيحاؤنا ، وهو اسم كان . والوحي : الإِعلام في خفاء ، والمقصود به ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن وغيره .
وقوله : { إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أي إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه .
وقوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } الإِنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - :
والمراد بالناس هنا : جميع الذين يمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم دعوته .
وقوله : { وَبَشِّرِ الذين آمنوا } البشارة : إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر ، سمي بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد .
وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم .
وأصل القدم العضو المخصوص . وأطلقت على السبق ، لكونها سببه وآلته ، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد .
وأصل الصدق أن يكون في الأقوال ، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال : فلان صدق في القتال ، إذا وفاه حقه ، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل .
وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم : مسجد الجامع ، والأصل قدم صدق . أي محققة مقررة . وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق . ثم جعل الصدق كأنه صاحبها .
ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب ، وفي ذلك تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم . إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم .
قال الإِمام ابن جرير ما ملخصه : واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } فقال بعضهم معناه : أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح . .
وقال آخرون معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة .
وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شفيع لهم .
ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه : أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب ، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم : هؤلاء أهل القدم في الإِسلام . أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم .
ويقال : لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر ، ومنه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا . . . لأولنا في طاعة الله تابع
ومعنى الآية الكريمة : أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم ، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق ، أمرا عجبا ، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية .
إن الذي يدعو إلى العجب حقا هو ما تعجبوا منه ، لأن الله - تعالى - اقتضت حكمته أن يجعل رسله إلى الناس من البشر ، لأن كل جنس يأنس لجنسه ، وينفر من غيره ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فما معننى اللام في قوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } وما الفرق بينه وبين قولك : كان عند الناس عجبا ؟
قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها . ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ، وليس في " عند الناس " هذا المعنى .
والذي تعجبوا منه أو يوحي إلى بشر . وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث . وينذر بالنار ويبشر بالجنة . وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم .
وقال الله - تعالى - : { قُل لَوْ كَانَ في الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب - أيضاً - لأن الله - تعالى - إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما ختير له من النبوة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال - تعالى - : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } والبعث للجزاء على الخير والشر . هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول ، تعطيل الجزاء .
وقدم - سبحانه - خبر كان وهو { عَجَباً } على اسمها وهو { أَنْ أَوْحَيْنَآ } . لأن المقصود بالإِنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشراً .
وقدم - سبحانه - الإِنذار على التبشير ، لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة مالا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .
ولم ذكر المنذر به ، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق ، الذي يؤدي اتباعه إلى النجاة من العذاب .
وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له ، بخلاف الإِنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر . ولذا قال - سبحانه - { أَنْ أَنذِرِ الناس } أي جميع الناس .
وذكر - سبحانه - في جانب التبشير المبشر به - وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم - لكي تقوى رغبتهم في طاعته . ومحبتهم لعبادته ، وبذلك ينالون ما بشرهم به .
ثم وضح - سبحانه - ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فقال : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .
أي : قال الكافرون المتعجبون من أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رسولا إليهم ، إن هذا الإِنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيِّن السحر واضحه - حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه .
وعلى هذا القراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإِشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ الباقون : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أي : إن هذا القرآن لسحر واضح ، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو حيان ما ملخصه : " ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة ، وخلطتهم له ، - وأنه لا علم له بالسحر - وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهي مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم . .
وقولهم هذا ؛ هو دين الكفرة مع أنبيائهم . فقد قال فرعون وقومه في موسى - عليه السلام - { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقال قوم عيسى فيه عندما جاءهم بالبينات { هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هو على سبيل العناد والجحد .
وقال الآلوسى " وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر . نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد ، كما هو شنشنة المكابر اللجوج ، وشنشنة المفحم المحجوج " .
وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف ، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر ، فكأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا التعجب ؟ فكان الجواب : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .
ويرى الإِمام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف ، فقال قال : - رحمه الله - : " وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وتأويل الكلام : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا لهم أن هلم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - لسحر مبين " .
وقد اشتملت جملة { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } على جملة من المؤكدات ، للإِشارة إلى رسوخهم في الكفر ، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا ، وصدق الله إذ يقول : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ }